إسطنبول- هل شاهدت فيلم “هوم”؟ هل كنت واحداً من بين 600 مليون إنسان شاهدوا دقائقه وصوره المبهرة؟ هل رأيت لقطات الأرض من السماء، كما لم ترها من قبل؟ لن تتوقف الأسئلة حيال ما صنعه يان أرثوس برتران، المصور الفوتوغرافي الفرنسي الأكثر حضوراً في عالم الدفاع عن البيئة وعن الأرض وعن الإنسان الذي صار ضحية أفعاله بحق الكوكب.
المسألة هنا ليست مجرد فعل بروتوكولي يقوم به برتران كسفير نوايا حسنة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب)، بل إنها جهد استثنائي يرقى إلى مرتبة الكفاح من أجل قضايا بيئية في إطارها العام، ولكنها تتصل بالإنسان من كل زواياها، إذ لا يمكن اختصار المئات من الساعات التي قضاها في الجو وهو يلتقط الآلاف من الصور، عبر إحالتها إلى هاجس التوثيق أو الاشتغال الفني على الصور من زوايا غير معتادة في عالم الفوتوغراف، ولابد بدلاً من ذلك التفكير بشكل عميق حيال القضايا الملهمة، التي تنطوي تحت عبارات تطرح إشكاليات عميقة كالبيئة والإنسان والفقر والطاقة والمستقبل وغيرها من العناوين التي باتت حياتنا ترزح تحت ثقلها.
حياتنا ليست بخير
لقد اكتشف برتران ومن خلال الصورة أن حياة البشر على كوكب الأرض لم تكن بخير، ولن تكون كذلك في المستقبل فقال “خلال السنوات التي قضيتها في تصوير الأرض، لاحظت تغير الأرض. وبالإمكان رؤية تأثير البشر على الأرض من الجو. توصلت من خلال رحلاتي وأبحاثي إلى نفس النتيجة كالعديد من الخبراء والعلماء المعنيين بشأن مستقبلنا المشترك. إن ما تعكسه صوري يوضحه الخبراء والعلماء بأرقامهم، وهذه الأرقام تثير الخوف”.
ولد يان أرثوس برتران في باريس بفرنسا في الـ13 من مارس 1946، وعاش منذ صغره الشغف بعوالم الطبيعة، ولكنّ تحوّله إلى عالم التصوير جاء من خلال معايشته لعلماء الطبيعة حيث يذكر في سيرته الذاتية أنه عندما كان في سن الـ30، سافر إلى كينيا مع زوجته التي كانت تجري دراسة لمدة ثلاث سنوات على سلوكيات عائلة من الأسود في محمية ماساي مارا.
عن اهتمامه بالتصوير الجوي يقول برتران إنه جاء بعد تجربته في الطيران في المنطقة عبر منطاد. حيث استطاع تصوير مشاهد فاتنة للأرض، وبعيد هذه التجربة تحول برتران نحو الاهتمام بعوالم البيئة وبدأ بالتعاون مع مجلات مختصة مثل جيو وناشيونال جيوغرافيك ولايف وباري ماتش ولو فيغارو وغيرها
وفي سياق تلك التجربة استخدم الكاميرا في تصوير التفاصيل التي كانت تقوم زوجته بتسجيلها على الورق، ولكن تحوله صوب التصوير الجوي جاء بعد تجربته في الطيران في المنطقة عبر منطاد حيث استطاع تصوير مشاهد فاتنة للأرض، وبُعيد هذه التجربة تحول برتران نحو الاهتمام بعوالم البيئة وبدأ بالتعاون مع مجلات مختصة مثل جيو وناشيونال جيوغرافيك ولايف وباري ماتش ولو فيغارو وغيرها.
قام بتأسيس أول وكالة للتصوير الجوي في العالم. وما بين عام 1992 الذي شهد انعقاد قمة ريو دي جانيرو من أجل البيئة والتقدم، وبين عام 2000 الذي انعقدت فيه القمة الألفية التي حضرها جميع قادة العالم، واعتمدوا فيها إعلان الأمم المتحدة للألفية، عمل برتران على مشروع “الأرض من السماء” والذي عرض فيه لصور قام بتصويرها من خلال التحليق فوق الأرض بعد أن جال خلال 10 سنوات متواصلة على 37 بلداً بطائرة مروحية حلقت على بعد 500 متر عن الأرض، لمدة ثلاثة آلاف ساعة من الطيران. وتمت طباعتها في كتاب صدر عام 1999 وبيعت منه أكثر من ثلاثة ملايين نسخة حول العالم، بعد أن تُرجِم إلى أكثر من 30 لغة، من بينها العربية، كما عرضت صوره في العشرات من المدن حول العالم وقد بلغ عدد مشاهديها أكثر من 200 مليون زائر.
وحول هذا الكتاب يقول في حوار أجراه معه الصحافي غازي الذيبة في العام 2003 “كتابي الأرض من السماء ليس عملاً فيناً، إنه قصة مصوّر لديه التزام، أعطى معنى الصورة كل كيانه، وصارت هي حياته، إن الأرض بحد ذاتها عمل فني، لا يمكن أن أكون أنا خارجه، عمل فني كبير، أنا بداخله، أراه وأتعايش معه، ولا يحتاجني أنا بالذات لأقول ذلك عنه، فقط ما يحتاجني فيه هذا العمل وعبر قضيتي الكبرى كما سمّيتها، والتي كرست حياتي لها، هو الحفاظ على الأرض، ونشر الوعي بهذا الهدف أو هذه القضية من خلال الصور التي أقدّمها للعالم، وأحاول أن أقدمها بما يليق بإثارة العين والعقل معاً، ليفكرا ويشهدا، ويصلا إلى النتائج التي تقولها لهما صوري، إنني ببساطة موجود في متحف، هو الأرض، وأقوم بتصوير أجمل لوحاته”.
|
ويضيف برتران “لقد قمت بتصوير الملايين من الصور أثناء مهمّتي هذه وفي مواقع كثيرة، يمكن لمن يتصفح الكتاب أن يتعرف على عددها، لكنني حين بدأت وضع اللمسات الأخيرة للكتاب، انتقيت منها مائتي صورة فقط، وهي الصور التي فرضت نفسها، من ناحية الرؤية والمضمون، ومن ناحية قوتها كصورة، هذه النسبة من الصور التي صورتها ومن ثم انتقيت منها هذا العدد، تشير إلى مدى الحرص الذي أردت أن تظهر فيه قوة الكتاب وصوره، لكن الأهم من الصور هنا، وهذا ما يجب أن أوضحه جيداً، هو التعليقات والكتابات التي رافقت الكتاب، من قبل باحثين ودارسين وكتاب، لولا ما قدّموه للكتاب، لما كانت لصوري تلك الأهمية، فالصور دون تلك التعليقات ليس لها ذلك الوقع الذي جعل الملايين من الناس تشاهد صوري، وينظرون إليها بحرص بالغ ذلك الذي يمنحها إحساسا عميقاً وجدياً بما يختلج في جنبات الأرض من جمال وأسى”.
أسس برتران المنظمة الفرنسية غير الحكومية “جود بلانيت” التي تهدف إلى تقديم معلومات عن البيئة ومعطياتها وآخر المستجدات والآراء حولها، وتطرح وجهات النظر المختلفة حول مواضيع الحوار المتعلقة بها بحيادية ودون تحيّز لأيّ منها.
أجندة برتران
منذ ذلك الوقت باتت أجندة برتران مليئة بالتفاصيل والمشاريع، حيث عمل على مشروع خاص تم فيه تصوير أكثر من 6000 مقابلة في 84 بلداً، مع نماذج إنسانية متعددة الثقافات والتجارب والأوضاع الاجتماعية، قامت بالإجابة على أسئلة موحدة تتناول مخاوفها وأحلامها والمحن التي تعرضت لها، وآمالها أيضاً، وقد هدفت جميعها إلى تبيان ما يوحّد البشر في زمننا الحالي وما يفرّقهم.
ومنذ العام 2006 قام يان أرثوس برتران بإنتاج العديد من الأفلام المختصة بالبحث في القضايا البيئية والتي كان من أبرزها فيلم “هوم” الذي تم إطلاق نسخته مجاناً أمام كل وسائل الميديا في يونيو 2009، ليكون رسالة عامة موجهة للبشر كي يتأملوا فيها وضع كوكب الأرض، ولكي يدركوا إمكانية تحويل مجرى الواقع البيئي الذي يتّجه صوب كارثة محققة إلى النجاة عبر اتخاذ التدابير المناسبة للحفاظ على الكوكب.
|
خلال السنوات التالية قدم برتران عدداً من الأفلام الخاصة بالبيئة، ولكنه كرس جهداً كبيراً لفيلمه “إنسان” الذي عرض في العام 2015 في مهرجان البندقية السينمائي، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة بحضور أمينها العام بان كي مون، وبحسب ملخص الفيلم فإن برتران وفريقه المُكون من 13 صحافياً قام بمقابلة 2020 شخصا من 60 دولة مختلفة حيث تم طرح 40 سؤالا على كل شخص كانت تُغطّي العديد من الجوانب مثل الأسرة والحب والدين والطموح والفشل، وكانت الأسئلة من مثل “ما أصعب تجربة تعرضت لها؟ وماذا تعلمت منها؟” و”متى كانت آخر مرة قلت بها (أحبك) لوالديك؟ وماذا يعني الحب لك؟” و”ما هي أفكارك عن المثلية الجنسية وتدمير البيئة وكلفة الحرب؟” و”كيف كانت التنشئة في بلدك؟” و”لماذا ترتكب البشرية الأخطاء ذاتها؟”.
وبحسب ملخّص الفيلم فإنه “غالباً ما فاجأت الأجوبة الصحافيين وغيرت مسار المحادثة إلى مناطق غير متوقعة. حتى أنهم قاموا بإجراء مقابلات مع مقاتلين لأجل الحرية وسجناء محكوم عليهم بالإعدام ومزارعين من مالي ومُحاربين قُدامى رأوا الحياة في سياق مختلف جداً عما يراه معظمنا”.
لقد لخص برتران خطاب التجربة حين قال “أنا شخص من بين سبعة مليارات آخرين، وعلى مدار السنوات الأربعين الماضية قمت بتصوير كوكبنا والتنوع البشري الموجود به. وكان لديّ شعور بأن الإنسانية لا تُحرز أيّ تقدم، فلا يمكننا العيش مع بعضنا البعض فلماذا يحدث ذلك؟ لم أبحث عن الإجابة في الإحصائيات ولكن في الإنسان نفسه”. تأمّل صـور برتران لا يدخلنا دوامة البحث عن قيم جمالية تختلف بحسب تبدل موقـع الكاميرا فـحسب، بل إنـها تـربط بـين خـطاب هذه الــصور وبين المـوقع هـذا أيـضاً.
بين الجماليات والقضية
الصور التي شاهدها الملايين من البشر في المعارض العامة وحتى تلك الخاصة بالعديد من البلدان التي صورها، تلمس وبشكل واضح هاجسه البيئي المعلن عنه، ولكنها تحفّز لدى المشاهدين تداعيات اجتماعية عالية السوية. إذ ليس أمراً عابراً أن يكون أغلب أبطال الصور هم الفقراء من هذه البلدان، ولن يكون الأمر عادياً أيضاً حين نرى أن من يخرّب البيئة في البلدان المتقدمة هي تلك المؤسسات الاقتصادية العملاقة والتي نقلت نشاطها التخريبي في مرحلة من المراحل من المستوى الوطني إلى المستوى العالمي.
|
وبينما يشكل الفقراء المحتشدون هنا وهناك مشهدهم الذي تراه الكاميرا جميلاً من الأعلى، تذهب هذه الكاميرا وإن بشكل ذهني افتراضي نحو البحث عن حقيقة جميلة وراسخة تقول “إن من يصنع الخراب في العالم ليس هؤلاء الذين تتساوى حظوظهم في كافة أصقاع المعمورة، بل هي تلك السياسات الفاجرة التي لا ترى في صور هذا المصور سوى ترف بيئي، يصنعه الممولون المستفيدون كي يبرّئوا أنفسهم من تحمل المسؤولية”.
إدانة هذه السياسات لا تغيب عن الأجندة الفكرية لبرتران رغم سعيه لإبعاد مشروعه عن السطح السياسي فهو يقول للصحافي جمال سعيد الذي حاوره على هامش المعرض “إن الأموال التي أنفقت في حرب العراق تكفي لإقامة منشآت للطاقة الشمسية تغطي حاجة بيوت أميركا كلها، وهذا يمكن أن يغيّر العالم”.
وتبعاً لهذا فإن العودة إلى منجز هذا المصور المدهش في تجاربه الخاصة بمشروع “الأرض من السماء” أو أفلامه المتعددة هي فرصة لأن يستمتع البشر بمشاهدة بعض تفاصيل بلدانهم من الأعلى وعبر عين مختلفة، ولكن هذه الفرصة -ربما قبل المتعة أو بعدها- محاولة مقترحة لأن يفكروا بواقعهم البيئي والاجتماعي أيضاً وأن يحرصوا بعد ذلك على ألا تتحول صورة حياتهم إلى مشهد من الجموع الهائمة التي تبحث عن سبل للنجاة.
العمل مع برتران عن كثب
|
المصور الفوتوغرافي السوري هشام زعويط، والذي عمل مع يان أرثوس برتران من خلال التحضير والتنظيم والتنسيق للتصوير الجوي الذي نفذ في سماء سوريا في أكتوبر 2008 وتحت مظلة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية في ذلك العام، تحدث للعرب عن تجربته معه فقال “بنى يان أرثوس برتران لعمله نظاما مؤسساتياً متكاملاً يؤمّن له كل الدعم الإداري والتنفيذي والتقني بحيث يركز كل تفكيره وجهوده على الإبداع في التصوير الذي يقوم به ويقدم أفضل ما يمكن من فن يتعمق في تفاصيل وجماليات الموضوع الذي يعمل عليه ويبحث فيه”.
وأضاف زعويط “تعكس مطالعة متأنية لأعمال يان أرثوس برتران على مدى السنوات الطويلة التي عمل خلالها على نشر مشروعه الفوتوغرافي التطور الملحوظ في مستوى النتاج الفني الذي يقدمه. يتعلق الجل الأكبر من ذلك بتراكم الخبرات العملية والارتقاء بالرؤية البصرية الفوتوغرافية التي يملكها كمصور فنان. كذلك يتعلق جزء من ذلك بالتقدم في تقنيات التصوير التي يستخدمها والتنوع الهائل في طبيعة الأماكن التي صورها والدعم والتسهيلات اللوجيستية التي قدمت إليه في كل مكان من الأمكنة التي عمل فيها”.
صحيح أن الإبداع الفني هو نتاج فردي بالضرورة ولكن هذا الإبداع والنتاج الفني الغزير متنوع الإطارات من معارض وكتب وأفلام والذي قدمه برتران، حسب زعويط، لم يكن ليتحقق بهذا المستوى لولا كل العوامل والظروف التي تهيأت له وأسهمت في إذكاء الرؤية الإبداعية التي يملكها وتأجيج شعلة اتقادها وجعلها تتجلى في أعماله بأبهى ما يمكن من جمال.
ويختم مساعد برتران “إن متعة تجربة العمل مع برتران والتي كانت جميلة ومشوقة ومثرية، هي بالتأكيد فرصة استثنائية لتلمّس مسار صناعة إبداع فوتوغرافي يتربع على مكانة عالمية مرموقة ويحظى بإعجاب وتقدير الكثيرين من العاملين في حقل التصوير الفوتوغرافي بشكل عام والناشطين في مجال الحفاظ على البيئة وبيتنا الكبير الأرض واستدامة مواردها”.