“سعدالله ونوس”.. المسرح من رؤية عقلانية
الأحد 23 حزيران 2013
عاش المسرحي الراحل “سعدالله ونوس” في خضم النقلة الفكرية للمسرح ليلجأ من خلالها إلى عوالم مسرحية مكتملة، تامة الصنع، فكان الكاتب المثقل بالهموم الإنسانية والوطنية، الصانع لنصوص صالحة لكل زمان.
الفنان عبدالرحمن أبو القاسم |
مدونة وطن eSyria التقت الفنان القدير “عبدالرحمن أبو القاسم” بتاريخ 10/6/2013 فقال: «يمكن لنا أن نقسّم مسيرة “ونوس” المسرحية إلى ثلاث مراحل، تفرضها منهجية الدراسة للأدب المسرحي لهذا المبدع: المرحلة الأولى “البدايات” ما قبل الخامس من حزيران 1967 حيث كتب في هذه المرحلة ثماني مسرحيات قصيرة هي “مأساة بائع الدبس الفقير، الرسول المجهول في مأتم انتيغونا، جثة على الرصيف، الجراد، المقهى الزجاجي، لعبة الدبابيس، فصد الدم، عندما يلعب الرجال”، وقد صدرت في مجموعة واحدة، سمّاها “حكايا جوقة التماثيل” عن وزارة الثقافة 1965، تظهر بعض السمات في هذه المرحلة تميّز إنتاج “سعدالله ونوس” وتجمع مسرحيات هذه الفترة من إبداعه، من ذلك وضوح أثر الثقافة الغربية والمسرح الغربي، ضبابية الرؤيا من حيث عدم وضوح الموقف من قضايا كثيرة حاول معالجتها، شيوع التجريد واللجوء إلى الترميز المتعمد، عمومية الموقف وعدم تحديده بشكل واضح تجاه قضايا كثيرة وعلى الأخص قضية السلطة وقضية ممارسة القمع على البسطاء التي حاول معالجتها في “بائع الدبس الفقير”، عدم وضوح الموقف الطبقي وبقائه في أضعف تجلياته في إبداع “ونوس” في تلك المرحلة، وقد تجلى هذا في “جثة على الرصيف”. يغلب على مسرحيات هذه المرحلة الأسئلة الوجودية، وتغلب فكرة الحرية على أجواء المسرحيات التي أظهرت أن “سعدالله ونوس” ليس ماركسياً، بل أقرب ما يكون إلى الليبرالي، المتأثر بالماركسية، وتجلى ذلك في مسرحية “جثة على الرصيف” التي حاول فيها توضيح الفرز الطبقي للمجتمع. ومسرحية “بائع الدبس الفقير” تؤشر إلى انشغال “ونوس” بالواقع الاجتماعي والسياسي، وانشغاله بالفئات البسيطة من الناس، وهي تشكل موضوعاً للقهر».
ويرى “أبو القاسم” أن “ونوس” لم يبق في إطار معالجته لقضايا البسطاء بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث جسد قضية العرب الرئيسة حيث قال: «عالج “ونوس” قضية العرب- قضية فلسطين التي سيعود إليها في بداية مرحلته الثالثة، عالجها في مسرحية “فصد الدم” التي حاول من خلالها أن يبتعد عن الإنشائية والتقريرية والخطابة، على عكس من سبقوه إلى معالجتها، بعيداً عن الاستجداء الميلودرامي والارتجال، حيث انطلق من رؤية عقلانية، فأعلن رفضه لمنطق التلاؤم مع الواقع الراهن، فجعل شخصية “علي” الذي يمثل التمسك والصلابة الوطنية ورفض كل ما من شأنه تكريس الخنوع والاستسلام للواقع».
وفي منحى آخر لنتاج هذا المسرحي السوري يتابع حديثه قائلاً: «إن المقدمات تؤشر إلى الخواتيم، وهذا ما أراد أن يقوله في مسرحية “المقهى الزجاجي”، التي تدور أحداثها في مقهى، وهو رمز للعطالة الاجتماعية، ورمز للوطن الذي سيتهدم ما لم ينتبه أهله إلى الأخطار التي تتهدده وتصدّعه، والناس غافلون نيام، لا يكترثون، حتى للموت، بينما يتابعون تساليهم وألعابهم، وتابوت الميت يخرج من المقهى، وكأنما كان ونوس يؤشر إلى ما حدث حقيقة في حزيران 1967، حين تهدم المقهى على رؤوس من فيه.
في مرحلة “ونوس” الأولى، حافظ مبدعها على تقديم نهايات مغلقة تقدم رؤيتها المتشائمة في الحياة العربية، وحتى مع نهاياته شبه المفتوحة، فهو يقدم ذات الرؤية في صورة تساؤلات مجاب عنها سلفاً داخل العمل الدرامي ذاته. فالجماعة الشعبية التي حدقت فيها “ميدوزا” منذ أول نص له، قد تحجرت، والمقهى بما فيه من بشر يلتقون يومياً وبشكل رتيب ويعبرون عن حالة من البلادة وإضاعة وقت بما لا يفيد وهو ما يضيف الإدانة الونوسية للجماعة الشعبية، وما زالت الجماعة عند “ونوس” متحجرة، حتى وهي تلعب طاولة النرد على المقهى، والموت محاصر لها بسبب عجزها عن الفعل وتغييب وعيها في نمطية الأداء اليومي، انشغال الجماعة الشعبية باللعب، ليس فقط هروباً من واقع زاخر بالأحداث، وإنما انشغالاً بأفعال لا مجدية تستغرق زمن الجماعة وتستهلكه فيما هو غير مثمر لذاتها، وغير دافع لحركة مجتمعها ومهمّش لدورها في التاريخ».
ويستنتج “أبو القاسم” أن المرحلة الثانية، وهي ما بعد حزيران 1967
كانت أكثر وضوحاً بالنسبة لونوس والتي اشتشفها في مرحلته الأولى، واتجه بكل قواه نحو التسييس، ليجعل من هذه القضية “التسييس” قضيته الأولى في ممارسته المسرحية والتنظيرية للمسرح بعد الهزيمة، فبمقابل حالة الاستلاب التي يعيش فيها الجمهور، وحالة تعمّد إبعاده عن السياسة يجب أن تطرح الحالة المضادة، أي يجب أن تطرح قضية التسييس. وتابع: «هزيمة حزيران كانت شديدة الوطأة، وقد خلقت نوعاً من الصحوة الفكرية، في كل أوساط المثقفين، لذلك بعد ان صار ثمة إقرار بأن العلاقة وثيقة بين المسرح والسياسة، كان لابد من أن نواجه قول المسرح السياسي من خلال معايير سياسية ومدى تقدمية هذا العمل وعمقه في طرح القضية، واستشراف الآقاق المفتوحة أمام الحلول او مدى سطحية المعالجة وتفاهتها، وبالتالي تكريس ما هو متخلف في الوعي السياسي السائد، إذ لابد من المضي اعمق لتحديد هوية السياسة التي تبناها المسرح. ونوس تبنى المسرح السياسي. ولكن ليس أي مسرح سياسي، بل المسرح السياسي التقدمي. ولعل أشهر مسرحياته في هذا السياق وأكثرها جدلاً كانت مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” التي كتبها عام 1967، فكانت ردّة فعل ملتاعة ومريرة، ودعوة للالتفات إلى واقع وما يحدث حيث أعمل “ونوس” مبضعه في تعرية الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن الهزيمة، كما طرح قضايا البسطاء الذين تضرروا حقاً من الهزيمة وسمى الأشياء بأسمائها الصريحة. كانت النقلة عنيفة وحاسمة في هذه المسرحية، حيث يؤسس “ونوس” في النص لفكرة “الحوار والمشاركة” ليس عبر الرسالة المعرفية والايدولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، إذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة لتدمير معرفة السلطة التي قادت إلى الهزيمة».
ويضرب مثالاً آخراً عن ذلك المنحى وهي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” حيث يقول: «عرض “ونوس” من خلال “الفيل يا ملك الزمان” 1971 مشكلة السلطة وعلاقتها بالشعب، وعلاقة الشعب بها، حيث يحرض زكريا (شخصية في المسرحية) الناس لتثور ضد الممارسات الخاطئة، بعد أن عمل على إيقاظ وعيهم، وتبصيرهم بما يحدث حولهم من مظالم».
ويتابع “أبو القاسم” حديثه، حيث يربط مسرحية “رأس المملوك جابر” وأيضاً كتبها “ونوس” في عام 1971 بالسياق ذاته قائلاً: «أجواء التناحر على السلطة في مجتمع يقوم على الاستغلال، والمملوك جابر لا يهتم للصراع القائم بين الوزير والخليفة، ولكن عندما وجد ثغرة يستطيع النفاذ منها لتحقيق مصالحه، ترك انتهازيته وبدأ اهتمامه، فتقدم باقتراح إلى الوزير يجعله ينفذ خطته في استدعاء أعداء البلاد لنصرة الوزير، ثم ينال هو العطايا والمزايا».
بينما يرى نضجاً أكثر في مسرحية “الملك هو الملك” قائلاً: «تعالج هذه المسرحية كل المسائل التي ذكرتها أكثر نضجاً وعمقاً، حيث الاعتماد الكبير على التراث، قد ميز إبداع هذه الشخصية في المرحلة الثانية، فالحكايات الماضية تشكل المادة الأولية للمسرحية لتطرح من خلالها القضايا المعاصرة التي يريد “ونوس” تناولها فيعالجها من خلال مفاهيم عصرية. ولا يمكننا أن نمر في هذه المرحلة دون التعرّض لمسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني” التي كتبها تكريماً لهذا المبدع الرائد المسرحي السوري، دون أن تخرج عن إطار مسرح التسييس، فالقباني ابن عصره وبيئته، ولا يمكن فصل تجربته المسرحية، عن الوضع الاجتماعي- الاقتصادي السائد في تلك الفترة، إنه رائد دفع ثمن ريادته، صارع عقولاً متحجرة، كانت ترى في الفن الجديد ضرباً من الكفر والإلحاد، ونوعاً من الفسق والفجور».
وفي المرحلة الثالثة حسب “أبو القاسم”، صمت “سعدالله ونوس” ثلاثة عشر عاماً ويزيد، قضاها في المراجعة والتأمل ليكتشف أن المشكلة أعمق وأكثر تعقيداً، بل هناك تركيباً ثلاثياً، ربما ان يغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافه، هناك بنى اجتماعية متخلفة جداً، تتجاوز وتتساوق زمانياً مع بنى اجتماعية حديثة، حداثة شكلية، ما يشكل قطيعة وفصاماً في المجتمع، وهنا يقول: «بدأ “ونوس” في كتابته الجديدة، ومرحلته الجديدة فكرياً
المخرج تامر العربيد |
وفنياً، يبتعد عن متفرج واجب الوجود، ليقنع بوجود متفرج محتمل. حيث عاد إلى الكتابة بغزارة ونهم، فأنتج عام 1989 مسرحية “الاغتصاب” التي أعاد فيها معالجة المشكلة الفلسطينية من خلال استفادته من نص الكاتب الأسباني “بويرو بايينخو” بعنوان “القصة المزدوجة للدكتور بالمي”، وقد تم عرض هذه المسرحية في “بيروت” عام 1993 وأخرجها جواد الأسدي. تعمق “ونوس” في هذه المسرحية بالصراع العربي الصهيوني، حتى وصل إلى أنه صراع بين مساحتين لا يمكن ان يلتقيا فالأرض ضيقة كالقبر، على حد تعبير بطلته المغتصبة “دلال”. فلا يمكن أن تتسع لنا ولهم، وهذا موقف “إسماعيل” الذي فقد رجولته إثر العذاب الذي لاقاه على يد الوحوش الصهاينة، بحيث بات مقتنعاً أن إمكانية التعايش ليست ممكنة.
توقف “ونوس” مرة أخرى عن الكتابة في هذه الفترة وعرف خلالها بمرضه العضال، ليعود إلى الكتابة بغزارة وتحد، فكتب على التوالي “منمنمات تاريخية” ” و”طقوس الاشارات والتحولات” 1994، ومسرحيتي “يوم من زماننا” و”أحلام شقية” في كتاب واحد 1995، ثم “ملحمة السراب” مطلع عام 1996، إضافة إلى مجموعة نصوص “بلاد أضيق من الحب” عن الذاكرة والموت 1996، وأخيراً قدم قبل وفاته بشهر مسرحية “الأيام المخمورة” 1997، ولا تعود القضية إلى مجرد الخصب العددي في وتيرة الإصدارات، بل تعود إلى كون هذه المسرحيات تشكل مرحلة جديدة نوعياً ومتمايزة فنياً».
المخرج المسرحي د. تامر العربيد قال: «”سعدالله ونوس” الإنسان، الفنان، الأديب، الصحفي، فهو من مواليد “حصين البحر- طرطوس” عام 1941، خلال فترة الدراسة بين المدينة والقرية حصل على الشهادة الثانوية، وفيما بعد وفي عام 1959 حصل على منحة دراسية وعلى أثرها سافر إلى القاهرة لدراسة الصحافة في جامعتها، وفي عام 1961 حصل الانفصال بين سورية ومصر الذي شكل له هزة عنيفة حيث كان مشبعاً بالفكر العربي القومي وتأثر جداً خلال وجوده في مصر وكتب عن الانفصال مقالة في مجلة الآداب جسد فيها حزناً عميقاً، وفي عام 1963 حصل على إجازة في الصحافة، ليعود إلى دمشق ويعمل في وزارة الثقافة، وبعدها بعام، لمع اسم “ونوس” عندما كلف بإصدار عدد خاص عن المسرح لمجلة المعرفة، وبدأ السؤال عن هذا الكاتب الذي كتب مقالتين في العدد المذكور عن المسرح في مصر اضافة لدراسة تحليلية عن مسرح “توفيق الحكيم”، وفي عام 1966 سافر إلى فرنسا على أثر منحة دراسية».
وهنا يتفق “العربيد” مع “أبو القاسم”، حيث إن النكسة أو هزيمة حزيران قد أثرت في مسيرة “ونوس” الفنية وعلى حسه كإنسان ما أحدث منعطفاً كبيراً بنتاجه، ويتابع حديثه قائلاً: «حدثت هزيمة حزيران، لتشكل لديه صدمة أخرى ويعود إلى دمشق حيث قضى فيها عدة أشهر، وفي عام 1968 عاد إلى باريس مرة أخرى واطلع على الواقع الثقافي عن كثب، وعايش ثورة الطلاب هناك فتأثر بها وكتب عنها معبراً عن رأيه بهذه الثورة في عدد من الدوريات والصحف العربية. وفي العودة إلى هزيمة حزيران، هذا الموضوع أثر على رؤاه ومواقفة ونظرته إلى الحياة والفكر، وكأنه هناك غدا أكثر وعياً ونضجاً، بدا ذلك في كل ما ينتجه من الكتابات والمقالات والنصوص المسرحية وتجلى ذلك في مسرحيته “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” التي قدمت “ونوس” في الساحة المسرحية العربية كمسرحي مهم ومتميز، وكانت نقلة نوعية في مسيرته. في عام 1969، أسس مع بعض زملائه الفنانين الدورة الأولى لمهرجان دمشق المسرحي في أيار من العام المذكور، وشهد هذا المهرجان عملين لسعدالله ونوس وهما “الفيل ياملك الزمان” اخرجها علاء الدين كوكش، و”مأساة بائع الدبس الفقير” أخرجها رفيق الصبان».
وأضاف العربيد: «كلف “سعدالله ونوس” بأكثر من مهمة رغم انه لم يكن يبحث عن المناصب، وكلنا نعرف بأنه استلم إدارة المسارح والموسيقا وتركها بعد ثلاثة أشهر ليتفرغ للكتابة والإبداع المسرحي، وشغل في إطار الثقافة إدارة
من مؤلفات ونوس |
القسم الثقافي في جريدة البعث، والقسم الثقافي بجريدة السفير، وعمل على تأسيس وإصدار مجلة “اسامة” مع الكاتب “عادل أبو شنب” وكان رئيس تحرير لها، كلف “سعدالله ونوس” في عام 1977 بتأسيس وإصدار مجلة “الحياة المسرحية”، وقبلها بعام كان قد بدأ مشروعه مع رفيق دربه الإبداعي الراحل “فواز الساجر” ما سمي مشروع المسرح التجريبي، وكان احد المشاريع الواعية والذي بنى عليه الكثير من المسرحيين الآمال والأحلام بأن يستمر ويتطور، ولا سيما بجهود شخصين مشهود لهما بابداعهما وحبهما للمسرح، وكانت باكورة هذه التجربة مسرحية بعنوان “يوميات مجنون” أعدها “ونوس” واقتبسها من نص للمسرحي الروسي “غوغول”، أخرجه فواز الساجر ومثل فيه أسعد فضة، وتلاها ضمن هذه التجربة مسرحية أخرى وهي “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، وأصدر مع الأديبين الكبيرين عبدالرحمن منيف، وفيصل دراج كتاباً دورياً بعنوان “قضايا وشهادات” عام 1990».
تم تكريم “ونوس” في العديد من المهرجانات منها مهرجان القاهرة التجريبي 1989، مهرجان قرطاج المسرحي، كما نال العديد من الجوائز منها جائزة السلطان العويس الثقافية. وقبل وفاته بعام انتخب لكتابة كلمة يوم المسرح العالمي، حيث إن هذه الكلمة يكتبها كل عام أشهر مسرحيي العالم حيث ختم بها جملته الشهيرة التي بقيت على كل لسان: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.
توفي في 16 أيار 1997.