إهداء: إلى حسام أبو البخاري
في فيلم Barry Lyndon، كما في Amadeus، وتاجر البندقية (نسخة آل باتشينو 2004) يلفت نظر المُشاهِد، ربما قبل القصة الرائعة، الصور التي يقدمها المخرج للتفاصيل البصرية العديدة التي يقدمها المخرج لهذه الأزمنة القديمة، تفاصيل الأماكن، طرز العمارة، الأثاث، الملابس، قصات الشعر، وطريقة التحدث وإظهار المشاعر، إنه ينقلك حرفيًا من زمنٍ إلى زمن، وفي باري ليندون تحديدًا يقدم المخرج “ستانلي كوبريك” الماضي باعتباره “عرضًا” ساحرًا مكونٌ من مجموعة من الصور لإسكتلندا وبريطانيا وألمانيا والنمسا في أواخر القرن الثامن عشر.
إن ما يلفت النظر هنا هو مراعاة اختلافات هذه الأمور بين الأماكن والأزمنة التي تجري فيها القصص، فلا تكون الملابس والطرز المعمارية الإيطالية في فينيسيا/ البندقية أوائل القرن الخامس عشر، كمثيلتها في النمسا أواخر الثامن عشر، وهكذا.
هذه القدرة التصويرية الهائلة لم تتوفر للمدن العربية، إلا بتكاثر زيارات المستشرقين والسياح والرحالة والتجار الأوربيين، وطبعًا الاستعمار فيما بعد، أما ما قبل ذلك فنحن لا نعرف عن المدن العربية الإسلامية إلا ما “كُتِب” في وصفها من جانب المؤرخين والرحالة، وعلى الجانب الآخر فحينما ننظر إلى تراثنا السينمائي والتليفزيوني الهزيل الذي تدور أحداثه الدرامية في عصور عربية إسلامية فإنك ستدهش من كم التفاصيل المتشابهة التي لا تفرق بين عصر وعصر، ومنطقة جغرافية ما وأخرى، نفس التفاصيل البصرية التقليدية تواجهك وأن تتعامل مع دراما تاريخية حدثت مرة خلال 1400 عام وعلى امتداد مساحة من الصين إلى الأندلس ومن البلقان إلى أعماق أفريقيا، وهذا غير منطقي وغير تاريخي وغير حقيقي بالتأكيد.
(حينما بُنيت مدينة الإنتاج الإعلامي وضعوا فيها بعض الديكورات التراثية ليتم تصوير كل الأعمال الدرامية التاريخية في “الحي الإسلامي” كذا!)
هل يعود هذا إلى ضعف الموارد المالية وحجم الإنتاج؟
(باري ليندون إنتاج 1975، وحتى الإنتاج الهائل الذي صاحب مسلسلي الحسن والحسين والفاروق عمر لم يؤثر على هذا، وإنما أضفى فخامة على التفاصيل البصرية لا أظنها تنتمي حقًا لعصور النبوة والخلافة الراشدة).
قد يكون هذا سببًا، وقد يكون لضعف إطلاع مؤلفينا ومخرجينا على التاريخ الاجتماعي للإسلام في مصادر القضاء وكتب الحسبة وغيرها، لكن كل هذا ليس السبب الرئيسي.
السبب الرئيسي في ظني هو اعتماد الحضارة الأوروبية على الفنون التمثيلية للتعبير عن نفسها؛ مما أنتج هذا الكم الهائل من الصور والعروض الموسيقية والمسرحية التي هي بمثابة معرض تصوير هائل يصور لنا بدقة كيف كان الأوروبيون يعيشون في القرون الماضية، ولعله مما يؤكد هذا كمية المصورين والفنانين والنحاتين والموسيقيين والمسرحيين الذين أنتجتهم هذه الحضارة، بينما اعتمدت الحضارة الإسلامية على الكلمة للتعبير عن نفسها، وكما يرى المسيري وراسم بدران، فقد كان التأثير الأساسي للقرآن والتوحيد على الفنون الإسلامية التجريدية، وحتى حينما اختلطت بالحضارة العربية الإسلامية بعض المؤثرات الأعجمية مما كان لدى المسلمين الأعاجم قبل إسلامهم وظهرت فنون المنمنمات، ظهر فيها كل الأشخاص بشكل واحد ولا توجد عناية بتفاصيل الوجه والجسد كما اهتم النحاتون الإغريق وورثتهم من فناني عصر النهضة في أوروبا.
إن السبب الرئيسي في فشل إنتاجنا الدرامي التاريخي في إخراج صورة على نفس مستوى إتقان وجودة الإنتاج الدرامي التاريخي الغربي في ظني هو محاولة الخلط بين نظامي الكلمة والصورة المُجسَّدة، حتى ولو كانت موسيقى، في التعبير عن الذات والفكرة، وهذا ما يحاول مؤلفونا ومخرجونا فعله حتى مع ضعف إطلاعهم حتى على التراث الاجتماعي للإسلام في البلاد والأزمنة التي تدور فيها قصصهم.
والله أعلم..