في مدن سوريا والعراق وفي صحارى الأنبار وسهول الغوطة تدور حرب شرسة وقاسية بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الشام “داعش” من جهة ومن جهة أخرى قوات بشار الأسد وحلفائه من المليشيات الإيرانية والعراقية وحزب الله اللبناني مسنودين من طائرات التحالف الدولي، هذه الحرب الضروس التي تجاوزت منذ مراحل طويلة كل الخطوط الحمراء والأعراف الإنسانية، حيث استحر القتل الطائفي والعشوائي بكل أشكاله تحريضًا وممارسة من كل الأطراف التي غاصت إلى الركب في دماء القتلى.
مقابل هذه الحرب الطاحنة تدور حرب أخرى لا تقل في شراستها وأهميتها عن سابقتها وتختلف في جنودها وأساليبها، فليس لهذه الحرب مفخخات أو رصاص أو براميل متفجرة بل حسابات “تويتر” و”فيسبوك” وموادها فيديوهات مرئية على “يوتيوب”.
أرعب تنظيم الدولة الإسلامية العالم بفيديوهاته التي تصور عملياته الحربية وإعداماته مع ما يرافقها من دعاية وخطاب معلن وآخر مبطن، وأدهشت هذه المقاطع المرئية متخصصي الإعلام والتصوير لما تحمله من احترافية في التصوير والإخراج تضاهي أفلام هوليود وتقنياتها.
كيف يخوض تنظيم الدولة “داعش” حربه الإعلامية وما هي وسائله وإستراتيجياته وأهدافه؟ ما أهمية الصورة وما دلالات الرموز والكلمات في خطاب “داعش” الإعلامي؟
كما شكل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مرحلة جديدة مع التنظيمات الجهادية التقليدية كتنظيم القاعدة والجهاد، بتحوله من تنظيم سري “مليشيوي” صغير إلى شبه دولة كاملة المقومات التقليدية: الحدود والأرض والسكان والسيادة، فكذلك إعلام تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” شكل هو الآخر تحولاً جديدًا نوعيًا وكميًا في إعلام التنظيمات الجهادية؛ فمنذ انطلاق الظاهرة الجهادية مع الأفغان العرب خلال ثمانينيات القرن الماضي كان الإعلام الموازي لها لا يتعدى شرائط فيديو رديئة التصوير قام بتسجيلها هواة تصور بعض العمليات القتالية تارة وتارة أخرى ضحايا الاجتياح والقصف السوفيتي للمدنيين الأفغان، وتدعوا باقي العرب والمسلمين للمساندة والدعم، مع تطور وسائل الإعلام والفضائيات وانتشار شبكة الإنترنت وتوسُع استخداماته ستظهر معه ساحة حرب جديدة وهي حروب “الهاكر” المخترقين للمواقع والشبكات الحاسوبية والتي ستعرف أوجها مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية والغزو الأمريكي للعراق، حيث ستتحول شبكة الإنترنت لفضاء حروب حقيقية أسلحتها حواسيب وبرامج حاسوبية وجنودها مهندسون معلوماتيون وخبراء حاسوب أو شباب متحمس وأهدافها هي اختراق مواقع العدو على شبكة الإنترنت وتعطيلها أو تخريبها أو سرقة محتوياتها السرية، أو الدعاية الإعلامية وترويج وجهات نظر ودحض مواقف الطرف الآخر.
اهتم تنظيم الدولة الإسلامية مبكرًا بالجانب الإعلامي؛ فمنذ ظهور أول نواة لهذا التنظيم والتي سميت “جماعة التوحيد والجهاد” والتي أسسها أبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي أسس هذا التنظيم موقعًا على شبكة الإنترنت يحمل اسم “منبر التوحيد والجهاد” الذي يُعتبر من أول المواقع الجهادية والتي لاتزال تعمل إلى اليوم، مع انتشار موقع Youtube (الشبكة الاجتماعية للفيديوهات)، ستستغل كافة التنظيمات الجهادية هذا الموقع لنشر تسجيلاتها المرئية وبث رسائلها المسجلة، وعلى هذا الموقع سيعلن الزرقاوي مبايعته لتنظيم القاعدة ليتحول تنظيمه العراقي المسمى “جماعة التوحيد والجهاد” إلى “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، حيث أعاد الزرقاوي تشكيل التنظيم وتوسيعه وتفويض العديد من مهامه إلى نائبين عنه؛ فظهر جناح عسكري مكون من العديد من الفيالق والسرايا وشكل أيضًا هيئة شرعية وأخرى إعلامية كانت هي النواة الأولى التي ترأسها “أبو ميسرة العراقي” وتولت إنتاج الأشرطة المرئية والمسموعة وكتابة ونشر البيانات والنشرات الورقية.
منذ تأسيس أول هيئة إعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية سنة 2006 خطى هذا التنظيم مراحل متقدمة جاءت تحديدًا بعد دخول هذا التنظيم كطرف صراع في الحرب السورية ثم بعد استيلائه على مدينة الموصل بما فيها من مؤسسات إعلامية كانت مملوكة للدولة العراقية واستيلائه على مبالغ مالية ضخمة مُودعة ببنوك هذه المدينة، مع توفر هذه الإمكانيات المادية واللوجيستية ووجود العديد من أعضاء هذا التنظيم لهم خبرات سابقة في مجال الإعلام سيوسع التنظيم مؤسساته الاعلامية، وحسب الصحفي الكاتب صهيب الفلاحي يمكن تصنيف مؤسسات إعلام تنظيم داعش إلى مؤسسات رسمية:
– مؤسسة “الفرقان” التي أصدرت أكثر من 160 مادة مرئية ومسموعة لقيادات التنظيم.
– مؤسسة “الاعتصام” التي أصدرت أكثر من 100 مادة مرئية وبلغات متعددة.
– مؤسسة “الحياة للإعلام” التي أصدرت العديد من الإنتاجات أغلبها باللغة الإنجليزية.
– مؤسسة “أجناد” التي أنتجت إصدارات صوتية عالية الجودة مثل نشيد “يا ربي أسألك” ونشيد “أمتي قد لاح فجر” وغيرها، هذه المؤسسة هي التي تزود غيرها من المؤسسات بالمواد الصوتية والأناشيد الخاصة بالتنظيم.
النوع الثاني من المؤسسات الإعلامية هي المؤسسات غير الرسمية أو المناصرة والتي تم تزكيتها من التنظيم مثل:
– مؤسسة “ترجمان الأساورتي” التي ابتدأت كحساب شخصي على موقع “تويتر” وتم إغلاقه عشرات المرات من إدارة الموقع، كذلك نشرت هذه المؤسسة العديد من الإصدارت منها إصدار ” كسر الحدود”.
– مؤسسة “البتار” ومؤسسة “الخلافة”.
– إذاعة “البيان” وهي أول إذاعة للتنظيم وتبث من مدينة الموصل.
يعتمد التنظيم أيضًا على حسابات مناصريه وأعضائه على شبكات التواصل الاجتماعي “تويتر” و”الفيسبوك”، حيث يستغل أصحاب هذه الحسابات تقنية خدمة “الهاشتاغ” و خدمة موقع “Justpastit”، وتخوض إدارة هذه الشبكات حرب حذف وغلق هذه الحسابات من جهة أخرى يخوض التنظيم حربًا لإعادة فتح هذه الحسابات ونشر مواده الدعائية خاصة في حسابات ما يسمى بولايات الدولة الإسلامية، أو يقوم ما يسمى “جيش الخلافة الإلكتروني” باختراق وتعطيل حسابات أمريكية عسكرية رسمية كما حصل مع حساب القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى على تويتر ويوتوب الذي تم تعطيله لساعات ونُشر عليه مواد دعائية لتنظيم الدولة “داعش”.
يهدف تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من خلال إعلامه إلى إيجاد دعاية جهادية جديدة يمكن تلخيص أهدافها في:
1- كسب مظهر الصدق وكسب ثقة الجمهور المتلقي الذي هو بالأساس الطائفة السنية بالعراق وسوريا ثم باقي المسلمين ثم الأشخاص الممكن استقطابهم في باقي العالم، حيث تُظهر الأشرطة الدعائية وصفحات مجلة “ذابق”، المجتمع الداعشي في استقرار وأمان وليس تحت الحرب أو القمع، وتركز الإصدارات على إظهار تلاحم المجتمع الداعشي بين كل مكوناته: أهالي المناطق المحررة وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية من مهاجرين، عرب، عجم، وأنصار.
2- تكرار مشاهد الانتصارات والفتوحات ومشاهد الإعدامات بقطع الرؤوس أو الإعدامات الجماعية بالرصاص، وتهدف تقنية التكرار إلى ترسيخ فكرة وشعار الدولة “داعش”: “باقية وتتمدد” مع ترسيخ الرعب والخوف في لا وعي وذاكرة خصوم الدولة قبل مؤيديها حتى يتراجعوا أو يهربوا خوفًا من التنظيم وبدون قتال، كما حدث في مدينة الموصل حين انسحبت القوات النظامية ساعات قبل وصول قوات داعش إلى المدينة وبدون قتال، تاركين مواقعهم والكثير من أسلحتهم تحت تأثير الخوف بمفعول هذه الدعاية المؤثر.
3- استخدام رموز من أجل هدم رموز: تفيض إصدارات داعش بالكثير من الأيقونات والرموز والعلامات التي أصبحت مثل ماركة مسجلة أو بصمة مُميِّزة لهذا التنظيم أهمها: عَلَم داعش الأسود المسمى راية العقاب، هذا العَلم المستمَد من السيرة النبوية حيث كان للرسول (صلى الله عليه وسلم) أعلام متعددة منها علم لونه أسود مكتوب عليه صيغة الشهادتين، استخدم الكثير من التنظيمات الجهادية كالقاعدة نفس العَلم، لكن داعش أضافت تعديلاً فكتبت الشهادة الثانية بصيغة ختم الرسول حتى تُميز راية التنظيم عن باقي التنظيمات الأخرى، يسعى تنظيم داعش من نشر هذا العلم والتركيز عليه وتكرار تصويره في كل إصداراته إلى الإشارة أن هذا العلم سيسود باقي دول المنطقة والعالم وسيحرق باقي الأعلام “الكفرية”.
أسلوب تنظيم الدولة الإعلامي يعتمد من خلال طريقته في صناعة رموز جديدة إلى محو باقي الرموز والعلامات التي تميزت بها المجتمعات والدول العربية من التماثيل والنصب المشيدة في شوارع مدن سوريا وإسقاطها وهذا ما حدث مع تماثيل “حافظ الأسد” كما تماثيل شخصيات تاريخية “كأبي الطيب المتنبي” أو “أبي العلاء المعري”، هذا الهدم والمحو لم تسلم منه حتى البقايا الأثرية في متحف مدينة نينوى العراقية، تحاول داعش الحصول على بعض التأييد والتشبه بالصحابة والرسول (صلى الله عليه وسلم) وذلك بتقليد الأحداث التاريخية بهدم الأصنام بعد فتح مكة وتتناسى أن تلك التماثيل والآثار في المتاحف ليست للعبادة ولكنها شواهد تاريخية وحضارية لذاكرة هذه الشعوب.
تميز تنظيم الدولة بحديته الكبيرة مع مختلف المخالفين والطوائف والأحزاب، فلا يتوانى التنظيم عن إعلان الحرب وأحكام التكفير والردة عليهم ثم في تطبيق أحكام الردة بالقتل بأبشع أشكاله من الإعدام بالرصاص والذبح بالسكاكين وأخيرًا حين أدهش العالم جميعًا بطريقته المبتكرة في الإعدام حرقًا للطيار الأردني الذي سقط أسيرًا بين يديه، هذه الحدية التي تميز تنظيم الدولة مستمدة أساسًا من أفكار وفقهيات أهم منظريه وشرعييه: أبو عبد الله المهاجر وأبو بكر ناجي اللذان درس على أيديهما المؤسس أبو مصعب الزرقاوي كتاب “مسائل في فقه الجهاد” للمهاجر، الذي أوصى فيه باتخاذ أقصى درجات الشدة والقتل مع كافة المخالفين المحاربين والمرتدين.
تحتل فكرة الخلافة في أدبيات وإعلام تنظيم الدولة مكانة أساسية، حيث أصدر التنظيم العديد من الإصدارات التي تناولت رؤية التنظيم لمسألة الخلافة والعمليات التي جاءت تحت هدف “تحقيق الخلافة ” منها إصدار على موقع يوتيوب “كسر الحدود” و”خطبة البغدادي بالموصل” التي أعلن فيها عن تحول تنظيم الدولة إلى “خلافة على منهاج النبوة”، وإصدار “نهاية حدود سايكس بيكو”، يُرجع المُنظر الشرعي لتنظيم الدولة: أبو بكر ناجي أن سبب كل هزائم الأمة وتكالب الأعداء عليها ومظاهر الفساد والابتعاد عن الدين تفاقمت بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء الدول الاستعمارية المحتلة حدود جديدة للدول في حسب اتفاقية “سايكس بيكو”، ويضع الحل الوحيد لهذه المشاكل هو إعادة إقامة “دولة الخلافة” حسب مفهوم “السلفية الجهادية” والتي ستكون الوحيدة القادرة على فهمها فهمًا صحيحًا وتنفيذها على أرض الواقع.
فكرة الخلافة في تصور تنظيم الدولة “داعش” يختلف عن باقي تصورات الحركات الجهادية أو الإصلاحية الإسلامية أهدافًا وشكلاً، يربط التنظيم حل جميع مشاكل المسلمين الدينية والدنيوية بتحقيق الخلافة الإسلامية فيما يشبه فكرة “نهاية التاريخ”، ففي الفلسفة الغربية تقول هذه الفكرة بنهاية كل مشاكل الإنسان وتوقف تطور التاريخ عند الوصول إلى شكل الدولة المراد كالشيوعية في النظم الاشتراكية أو النموذج الأمريكي في النظم الرأسمالية، كذلك يروج “داعش” نموذجه لنهاية التاريخ بتحقيق دولة الخلافة والمعركة النهائية بين جيشي الخير والشر، هذا ما يفسر اختيار اسم “ذابق” لمجلة تنظيم الدولة، حيث ذُكر هذا الاسم في حديث نبوي “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بذابق” وهو مكان يوجد حاليا في سوريا، يربط تنظيم الدولة معاركه ودولته بهذا الحديث مستمدًا نوعًا من الاستدلال الشرعي عن أنهم “هم خيار أهل الأرض”.
كما أن تنظيم الدولة يُعتبر تحولاً نوعيًا في الحركات الجهادية والسلفية شكلاً وأهدافًا وأسلوبًا، فإن إعلامه أيضًا يُعتبر تحولاً نوعيًا وكيفيا كبيرًا استفاد فيه التنظيم من كل الوسائل التكنولوجية الحديثة في التصوير والإخراج والدعاية والتأثير على جمهوره والجمهور العالمي بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم؛ فمرة يسعى تنظيم الدولة إلى تبرير أفعاله والتبشير بمستقبل “إسلامي” عادل يكفل الكرامة والعيش الحر لشعوب المنطقة المستضعفة، ومرة يسعى التنظيم إلى إرهاب أعدائه وخصومه وإلحاق أكبر الأضرار النفسية بجنوده وقادتهم وحاضِناتهم الاجتماعية والسياسية، كل هذه الأهداف يسعى التنظيم إلى تمريرها مُخزنة في صور متقنة ورموز غاية في الدلالة.