في شهر مايو من العام 2001م، توقع دايفيد برين أن تتمكن التكنولوجيا من تجاوز أي حاجز نقيمه لحماية خصوصياتنا، ورأى أنه “سيكون من الممكن في المستقبل أن نخفي كاميرا في ذبابة صناعية”.
محمود علم الدين أستاذ تكنولوجيا الاتصال بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قال إن المجتمع المصري لديه ولع يصل حد الهوس بكل منجزات العلم وإفراز التكنولوجيا الحديثة، لهذا ليس مستغرب في دنيا الهواتف المحمولة أن يكون الشغل الشاغل لدى البعض التصوير والتسجيل الصوتي والفيديو.
هل قرأت شيئًا عن جوليو ريموندي قبل ذلك؟
إذن، ريموندي هو مصور فوتوجرافي، بعد رحلة دامت سنتين، أتم مشروعه “إيتاليانا”، وهو المشروع الذي جاب من أجله أنحاء عدة في إيطاليا، ليوثق لحظات خاصة لأشخاص التقى بهم على الطريق، وأيضًا لالتقاط صور للمناظر الطبيعية الخلابة، ويأمل ريموندي، أن يجمع مشروعه يومًا في كتاب واحد.
يحكي المصور الإيطالي عن إحدى صور مشروعه، التي التقطها لكاهن يستمع إلى قداس في مدينة بادوفا شمال إيطاليا، وقد التقط ريموندي هذه الصورة خلسة، كما يفضل التقاط جميع صوره، يقول ريموندي: “كانت لحظة شديدة الخصوصية تلك التي سرقتها، كان يستمع إلى القداس، وهذا أمر خصوصي جدًا، وهذا ما أسميه التصوير الإنساني”.
وعن صورةٍ أخرى لأستاذة متقاعدة تتناول وجبة طعام في مدينة تريستي شمال شرق إيطاليا، يقول “أنا لا أطلب الإذن قبل التقاط أي صور، أغتنم الفرصة والتقط صورتين أو ثلاث صور دون أن يلاحظوا، ثم أنتظر شيئًا ما ليحصل، وألتقط صورة أخرى، وغالبًا ما تكون تلك هي اللحظة المثالية”.
شبح الخصوصية
مع اتساع رقعة مستخدمي وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي، واتساع رقعة مستخدمي الهواتف الذكية، باتت الخصوصية في الأماكن العامة أمرًا شديد التباين بين مستخدمي هذه المواقع والتطبيقات.
فتطبيق كـ “سناب شات” يعتمد على تصوير اللحظات اليومية التي يعيشها المستخدم ونشاطاته اليومية، ونتيجة سياسة التطبيق، وهي الاحتفاظ بالقصص مدة 24 ساعة فقط، يصبح المستخدم في حاجة يومية لتحديث قصصه.
شخصيًا، منذ أسبوعين كنت في إحدى دول الخليج، وأثناء وجودي في إحدى صالات البلياردو، وجدت طفلًا لا يتجاوز عمره خمسة عشر عامًا يقوم بتصويري فيديو عبر سناب شات، انتبهت لأنه كان يتحدث بصوت مرتفع في الفيديو، كعادة المستخدمين لهذا التطبيق، سألته عن سبب تصويره، فقال بكل بساطة لأصدقائي، ليبدأ الحديث عن وجوب احترامه لخصوصيتي حتى وأنا ألعب.
تعجّب الطفل وأصدقائه من ردة فعلي، وكأني أحدثهم بشيء لا معقول، وعلى هذا، ففي المطاعم، في مراكز التسوق، الشوارع، الفنادق، المطارات، ستجد من تظن أنه ينتهك خصوصيتك وحياتك الخاصة.
مصعب الشامي، مصور بوكالة الأسوشيتد برس، نشر صورة ضمن ما يسمى بتصوير الشارع، وبسبب التعليقات الكثيرة على الصورة، التي تحدثت عن خصوصية الأفراد، كتب مصعب منشورًا طويلًا يشرح فيه وجهة نظره التي وصفها بأنها ما زالت تتطور حول خصوصية الأفراد.
يقول مصعب، “كمصور صحفي/ وثائقي، الهدف دائمًا بالنسبة لي هو إيجاد صور تحرك الناس أو تشرح حالة أو تغيّر الوعي السائد، الأمر الذي يجعله مرتبطًا بالمجال العام الذي تقع فيه الأحداث والقصص اليومية”.falseويعتبر مصعب المجال العام، شيئًا مملوكًا للجميع، وكلما كان الشارع منفتحًا كلما كان المجتمع أرقى وأصفى؛ وبناءً عليه فإن الأحداث الواقعة في المجال العام تعتبر من حق كل شخصٍ مهتم بالتوثيق، بمعنى أنه يحق لك أن ترصدها وتوثقها دون طلب إذن مسبق أو تصريح طالما لا تحدث في وضع خاص أو مكان مغلق.
ورغم كل هذا يقول مصعب إن هذا لا يعفيه من محاولة الحصول على موافقة الأشخاص قبل نشر صورهم، لكن هذا الأمر في النهاية أمر نسبي ومتغير، لكنه في بعض الأحيان يقوم بحذف بعض الصور إذا طلب صاحبها.
مصعب في منشوره، أشار إلى موضوع آخر، خرج من الخصوصية إلى التوثيق وأهميته، فهناك بالفعل الكثير من الصور المهمة، المعبرة عن فتراتٍ هامة في حياة الأمم، تم التقاطها دون إذن مسبق من أصحابها، بعض هذه الصور خلّدت لحظات، لو كان المصور طلب الاستئذان في توثيقها، لما وصلت لنا.
في النهاية، الصورة التي دفعت مصعب لكتابة هذا المنشور الطويل، قام بحذفها بعد طلب أصحابها.
المجتمع وفوبيا التصوير
مصطفى درويش، مصور صحفي، مهتم بتصوير الحياة اليومية والقصص الإنسانية، يرى أن المشكلة ليست في الصور التي يلتقطها بشكل يومي، لكن المشكلة في المجتمع بالأساس الذي أصبح مريضًا بفوبيا التصوير، واعتبار كُل شيء ينتهك خصوصية الفرد، ليجد مصطفى نفسه معرضًا في كُل صورة يريد أن يلتقطها لتلاشي وجوه الناس، وتحديدًا تلك المواقف التي تكون بطلتها سيدة.
أيضًا يبتعد مصطفى عن تصوير اللقطات الحميمية، نتيجة أن المجتمع في مصر يرى هذه اللقطات عكس ما يراها العالم كُله.
جانب آخر، وهو الجانب الإنساني في الصور، فمصطفى أحد الذين يهتمون بتصوير الشارع المصري، يرى يوميًا كثير من الصور تتوافر فيها معظم نواحي الجمال والإبداع، لكنه لا يقوم بالتقاطها ونشرها، حتى لا تسبب إزعاجًا لأصحابها، حال انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي المقابل، حين يرى مصطفى في عين صاحب الصورة أي انزعاج، يحاول شرح الموضوع له بكل بساطة، وهناك من يتجاوب مع الفكرة وهناك من يرفضها.
يحكي مصطفى عن موقف تعرّض له ضمن ما يحب أن يصفه بـ “فوبيا التصوير”، ففي إحدى المرات كان يصور أمام صيدلية أحد أصدقائه، بعلم صديقه، إلا أنه فوجئ بحارس المبنى، يريد إحداث مشكلة معه، دون أي سبب.
أحد المهتمين بوسائل التواصل الاجتماعي، تحدثنا معه حول ظاهرة انتشار تصوير الحياة اليومية، ليؤكد لنا، أنه على حسب الصورة، فإذا كان صاحب الصورة مجرد شخص يمشي في الشارع، فلا مشكلة، أما إن كانت صورة لأحد الشباب في تظاهرة يحمل عبوة ملوتوف على سبيل المثال، فهذا يعرّض المتظاهر للخطر في ظل حالة السعار الأمني الموجودة في مصر الآن، والأكثر أهمية، إن كانت صورة “لاتنين بيحبوا بعض ده بيفضحهم”، بحسب وصفه.
“الناس شايفة الشارع حلال ليهم”، هكذا يصف صديقنا حال كثير من مصوري الحياة اليومية في مصر، ويضرب المثل بأنه، كيف سيكون إحساس أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، حين يرى صورة والدته التي تعمل بائعة خضراوات في الشارع مثلًا؟ كيف سيكون رد فعله؟ يتساءل صديقنا.
يختلف مع هذه الرؤية، المصور الصحفي، بلال وجدي، حيث يعتبر الأماكن العامة مكان يتشارك فيه كل الأشخاص المتواجدين في نفس اللحظة، وبالتالي فمن حق الجميع فيه التصوير وتوثيق هذه اللحظات، وهذا الأمر يختلف تمامًا عن الأماكن الخاصة.
ورغم كل ذلك إلا أن العُرف أو العادات هي التي تحكم الصورة التي يلتقطها بلال، والعُرف أيضًا هو من يحدد، هل تنشر الصورة أم لا.
في النهاية.. هل سرقة اللحظات الجميلة تعتبر جريمة؟
بكل إنصاف، لا، لأن معظم الصور التي التقطت خِلسة دون معرفة أصحابها يمكن تصنيفها أنها من أجمل الصور التي التقطت على الإطلاق، بل إن كثيرًا من الصور لو انتبه الإنسان أن هناك كاميرا تحاول اقتناصه لتحولت الصورة والقصة بشكل كامل.
لكن على الناحية الأخرى يجب احترام خصوصيات الناس، وخاصةً تِلك اللحظات الحميمية التي ربما تسبب لأصحابها انزعاج حال نشرها في الإعلام أو في وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أوسع انتشارًا من الإعلام التقليدي.