بقلم : مهند النابلسي – الاردن …
طموح “نولان” لتحقيق ملحمة حربية فريدة حافلة بحب الوطن والقدرة على البقاء حيا:
العيون الشاخصة دوما للأعلى!
انه عمل جماعي يسلط الضؤ اساسا على عمليا اجلاء الجنود البريطانيين، اللذين حوصروا في الميناء الفرنسي الشهير، في آواخر مايو واوائل يونيو من عام 1940…فيلم مدهش يخوض في مجموعة من الرهابات المرعبة: الارتفاعات، النار والحرائق، الغرق، الأماكن المحصورة، الظلام الحالك والعدو القاتل الذي لا نشاهده، فقد تمكن المصور السينمائي البارع “هويت فان هويتما” من وضعنا بجسارة في الاطار الواضح للأحداث القتالية الرهيبة وبتصوير آخاذ لكاميرا الآيماكس (70ملم مع اللارج فورمات)، فشعرنا كيف نكون في قمرة القيادة لطائرة حربية تهوي بسرعة للبحر، او كيف يركض جندي مشاة من نيران القناصة الألمان ليتفادى الاصابة، كما انه يدخلنا ببراعة لما يسمى “رؤية النفق” التي تحدث عنها الكثير من الناجين من الكوارث والموت المحقق…تأتي هذه المشاهد وغيرها للحياة ثانية بأدق تعبير سينمائي متخيل، مما وفر للمشاهدين متعة سينمائية فريدة من نوعها…كتب نولان السيناريو عبر ثلاثة “مناظير” متوازية وليست متتالية: الأرض والبحر والجو، مع استخدام الحد الأدنى من الحوار، وبنى هيكلية التشويق المطلوب من خلال تصوير المشاهد وليس استنادا للمؤثرات والموسيقى التصويرية، كما قام “هويت فان هويتيما” بالتصوير، مستندا للمؤثرات العملية الواقعية وليس الخاصة، مثل استخدام الآف القوارب في عملية الاخلاء الشهيرة، ومستخدماعددا من طائرات الحرب العالمية الثانية القديمة، مستعيدا بدقة كبيرة المشاهد القتالية الجوية المعبرة، وقد قدم لنا نولان حبكته السردية الفريدة بتقسيمه للزمن عبر ثلاث فترات متوازية: اسبوع للعمليات الأرضية، ويوم للعمليات البحرية، وساعة للعمليات الجوية، هكذا انقذنا كمشاهدين من الملل والتشتت، وبدأ بسرد مكتوب يوضح مجريات ما حدث في العام 1940 بعد احتلال فرنسا من قبل المانيا النازية، حيث وصل لشاطىء “دونكريك” آلآف جنود الحلفاء بنية مهاجمة الألمان، وفيما يفشل الحلفاء بتقديم الدعم القتالي المطلوب، يتزايد بشراسة هجوم الألمان من كل الجهات، لذا فقد كان على الجنود المتروكين الانتظار للاخلاء في ظروف قاهرة من اليأس والمعاناة والاستهداف المستمر وانعدام الدعم الآني بكل صنوفه، علما بأن تشرشل تعهد باخلاء 30000 جندي فقط، وبأنه لن يسعى ابدا للسلام مع الألمان.
اسقاط القنابل المتوقع واحدة تلو الاخرى على جموع الجنود الفزعين المنتشرين على الشاطىء او المحشروين على سطح السفن او في بطنها، فكرة انك محاصر وتنتظر الموت لا محالة ومن كل الجهات، حينما كانت القوة الألمانية في اوج عظمتها وصعودها في بدايات الحرب الكونية الثانية، فيما كان هناك الأمل بالصمود هو السلاح السري النفسي البريطاني بدعم تشيرشل وكاريزميته ودهائه ووطنيته الهائلة، القصة رويت سابقا في فيلم “ليزلي نورمان” تحت نفس العنوان في العام 1958، ولكن الاختلاف يتمثل هنا بطريقة صنع الفيلم ونمط الاخراج المدهش.
يدخلنا نولان (المخرج وكاتب السيناريو) لقلب الأحداث فجأة بلا مقدمة مملة، ويبقينا هناك كشاهدين، ثم يضعنا ضمن الحشود، ويرشقنا بالماء البحري المالح ويخنقنا احيانا بالدخان المنبعث من النيران، وضمن الحد الأدنى المطلوب من الحوار المسموع، حيث نبقى لدقائق بلا اصوات، بعيدا عن الاسهاب في السرد والحوار، وقد عملا معا نولان و”فان هويتما” لتثبيت المشاهد البانورامية الممتعة مع التفاصيل اللافتة، وربما بقصد لتمكيننا كمشاهدين من النظر وتأمل تفاصيل المشاهد، لنقرر ما الذي نود ان نركز عليه ابصارنا؟!
تماما كترانس مالك الذي غرس الصورة القتالية مع التسامح الفلسفي في تحفته الشهيرة “الخط الأحمر الرفيع”، او كروبرت ألتمان الذي نجح برسم الاستعراضات الدقيقة للصور الحضارية التفاعلية في أفلامه، مثل “ناشفيل” و”شورت كاتس”(المقاطع القصيرة)، يأتينا اخيرا نولان بتحفته الحربية “دونكيرك” ليعامل كل الأشخاص على الشاطىء وهؤلاء الآخرين في الطائرات والسفن والقوارب الحربية والمدنية الصغيرة كجزء مدمج من “الكائن الحي الجماعي” للحدث التاريخي الكبير، متجاهلا السيرة الذاتية ومصائر الأشخاص، ومركزا على الدراما التاريخية لمجمل الحدث…الفيلم بدا كمزرعة نمل كبيرة، وكلوحة مشهدية بانورامية لمجتمع متعدد الشخصيات والأنواع، وهم يستبسلون جميعا للقتال والدفاع والحفاظ على حياتهم، محاولا قدر الامكان تجاوز محنة الأفراد الا اذا كانوا يحاولون انقاذ حياتهم او حياة غيرهم، فهو لا يهتم هنا بمصائر الأشخاص وذواتهم بقدر ما يهتم بالصورة الكلية لمجمل الأحداث: فعندما ينحشر مجموعة هائمة من الجنود في سفينة صغيرة معطوبة للنجاة بأنفسهم، نسمع حوارا “لئيما” فيما بينهم لاخراج أحدهم لأنه مشبوه وصامت ولا يتحدث الانجليزية، ولأن السفينة موشكة على الغرق وعلى شخص واحد ان يغادر، فيما يدخل جندي هولندي تائه على الخط ليكشف حقيقة استهداف الألمان للسفينة، ويستمر الألمان بتوجيه الرصاص الغزير باتجاهها حتى توشك على الغرق، وينجو الجميع منها فيما عدا “الجندي الفرنسي” المسكين الذي لا يتقن الانجليزية!
“توم هاردي” مثلا يلعب دور طيار شجاع مثابر في مقاتلة “سبيت فاير” البريطانية الشهيرة، يسعى جاهدا لقنص الطيارين الألمان وتدمير طائراتهم قبل ان يتمكنوا من قتل الجنود على الأرض وتمزيق السفن والقوارب في الميناء…نراه طوال الشريط يهيم باحثا وقالقا مختفيا وراء قناع، تماما كما فعل في فيلمه الأخير مع نولان “عودة فارس الظلام”، ولكن هذا الممثل المتميز يترك انطباعا قويا بطريقة تعامله مع شخصية الطيار الشجاع لمجمل مهاراته القتالية الجسورة، كما يستبسل وحيدا، وينجح مرة اخرى باسقاط قاذفة المانية كانت قد دمرت كاسحة الألغام البريطانية وتسببت بحريق بحري هائل، ثم ينجح اخيرا باسقاط مقاتلة المانية اخرى منقذا السفن البريطانية المكشوفة ومتلقيا التصفيق العارم من الجموع وكأننا في مشهد استعراض اوبرالي (بدا التمجيد هنا أيضا رمزيا ووطنيا للطائرة البريطانية العتيدة “سبيتفاير”)، قبل ان يهبط أخيرا بسلام على الشاطىء وقد استنفذ كامل وقود طائرته وأسره الألمان في مشهد يحيطه الغموض بقصد…أما الممثل المحنك “مارك رايلنس” فيلعب هنا دور كهل مدني ووطني شغوف مع ابنه المراهق المتحمس، ونراهما عازمان ومثابران على المبادرة الذاتية وعلى ادخال اليخوت الصغيرة المدنية لعملية الاجلاء والانقاذ في دونكيرك، متجاهلين المخاطر الجمة، ومشكلين أعظم اسطول مدني شارك في معارك القرن العشرين (يقال أن عدد القورب المدنية التي شاركت لاحقا بالاخلاء قد وصل لحوالي ال700 قارب وقد نجحوا بانقاذ حوالي ال400000 جندي)، ويسقط “رايلنس” على الشخصية روح القيادة والحكمة والوطنية الجارفة، ثم نرى هناك ثلاثة جنود، أحدهما لعب دوره ” هاري ستايلس”، ونراهم يندفعون من البلدة باتجاه الشاطىء، ثم للممر الطويل ساعين لانقاذ جريح، وهذه ربما هي الطريقة الوحيدة التي يمكن فيها للقوارب الكبيرة أن تقترب بما فيه الكفاية للشاطىء لالتقاط الركاب والجنود اللذين تقطعت بهم السبل، قبل ان يتراكموا وينحشروا داخل القوارب، وقبل ان تتمكن بعض القاذفات الألمانية الشهيرة من تمزيقهم بالرصاص او بالقذائف، وبعضهم ما زال يلتهم شرائح الخبز بالمربي مع الشاي الساخن داخل أحشاء السفينة الحربية!
ثم ان هناك شخصيات لافتة اخرى لعبت ادوارا مميزة، مثل هاردي فاريير ومارك داوسون و”كينيث بارانا” بدور الضابط البريطاني الرفيع “بولتون” الذي بدا كشاهد وراو للحدث، كما أن البعض الآخر لم نعرفهم الا من منظرهم العام وافعالهم، مثل “سيليان مورفي” الذي ظهر بدور “الجندي المرتجف المصدوم” الذي تم انقاذه وسحبه من حطام سفينته في اجواء جليدية قاسية، مما ادى لتولد عقدة لديه دفعته للاصرار على العودة للابحار بعيدا عن دونكيرك باتجاه الوطن، ويحدث شجار مع “رايلانس” وابنه، مما يتسبب لاحقا بموت الفتى الشجاع “جورج” متأثرا بسقوطه على رأسه…وفي البداية هناك على الشاطىء يلتقي تومي البريطاني مع جيبسون الذي كان يدفن صديقا له، حيث يجردونه من أشيائه الضرورية لهما كبسطاره، ثم يقوما باجلاء جريح ثالث مثابرين على الوقوف ضمن صف طويل لاخلاء الجرحى بالدور، ثم يبادران لاحقا بانقاذ جندي ثالث اسمه ” اليكس” من الغرق…وهكذا تظهر المبادرات الشخصية الشجاعة طوال الفيلم هنا وهناك…
واجه هذا الفيلم نقدا تمثل باعتراض الفرنسيين والأفارقة والشمال افريقيين والهنود لعدم اظهارهم كما يجب وتجاهل دورهم في هذا الحدث التاريخي المحوري، كما اعترض بعض المؤرخين على اظهار بلدة “دونكيرك” سالمة وغير مدمرة، في حين انها كانت انقاض وفي حالة خراب كبير، كما لوحظ الاستخدام المفرط لموسيقى “هانز زيمر”، فيما ربما كان الصمت هو الأقوى تعبيرا مع المشاهد الدالة المشحونة بالتفاصيل، وان كنت شخصيا لم اشعر بذلك، كما لاحظت أن نولان ومصوره الفذ لم يستخدما مشاهد الدماء المسالة بالشكل الذي استخدمه “سبيلبيرغ” في عملية الانزال الشهيرة على شاطىء النورماندي بفيلم “انقاذ الجندي رايان”، وربما قصدا ذلك لتقنين المشاعر العاطفية والتأثيرات “الميلودرامية المحزنة”: ومع نهاية الشريط تشعر تلقائيا بوصول رسالته الملهمة المتمثلة بنقله للوقائع وتمجيده الهادىء للبطولات اليومية والمواقف والصبر والعناد والوطنية الجارفة، مع تصوير عميق للصمت وللكرب واليأس والمعاناة ولفكرة العودة والاخلاء، ينخفض ايقاع المشاهد حينا ثم يتصاعد ويتضخم ويتوتر، تماما مثل موجات البحر الهادرة الهائجة، ونتفاجىء بصفعات “مالحة” تندب على وجوهنا!
كريستوفر نولان مخرج بريطاني عبقري يثبت للجميع انه يستطيع دوما الخوض في كافة الثيمات السينمائية بطريقته الخاصة وان يخرج منتصرا ومحققا تحفا سينمائية فريدة شكلا ومضمونا (صاحب “الأرق وثلاثية الفارس الأسود والاستهلال وبين النجوم”)، وهذه هي الخلاصة التي قد نخرج بها بعد مشاهدتنا لهذا الشريط: فقد نجح هنا باحاطة المشاهدين بكم كبير من الفوضى والرعب واللقطات المذهلة ضمن شاشة كبيرة، وجعلنا نتعاطف مع الجنود المرعوبين المندفعين نحو البحر الهائج والهائمين على الشاطىء المكتظ والمنحشرين على ظهر السفن (الناظرين للأعلى خوفا من هجوم الطائرات)، والمعرضين دوما لطلقات وقذائف طائرات العدو، وهناك مشهد معبر في بداية الشريط نرى فيه جنديا مقداما يحاول دائما اصطياد طائرات العدو ببندقيته البائسة، وأثناء الهجوم ينقلب على ظهره للتمكن من التصويب، ونرى احدى القذائف الملقاة تضربه مع الآخرين وتقذف به بعيدا ليختفي من المشهد كجثة هامدة مجهولة الهوية…يتحرك فيلم “نولان” في لحظات غير متوقعة، ليكشف لنا غموضا مذهلا، ولا يحدث ذلك بسبب المشاعر المصطنعة او البطولات الفردية “المبالغ بها” او المؤثرات المتقنة، وانما تنبثق العواطف هنا من عمق المشاهد في أوقات متباينة ولأسباب انسانية مختلفة، حيث لا يوجد تلاعب درامي مقصود كما في افلام “سبيلبيرغ” لكسب مشاعر الحضور، كما لا يوجد ما هو مصطنع لتحريك “الوعاء العاطفي” المتلهف للجمهور المتعاطف والمنبهر! وبتلخيص أخير موجز فربما يكون هذا الفيلم: أعظم فيلم حربي للقرن الحادي والعشرين (حتى الان وربما لعقود قادمة)، كما انه مذهل سينمائيا لتناغمه المتكامل ما بين عناصر “الاخراج والتمثيل والتصوير والموسيقى التصويرية”، كذلك لن ننسى قدرته على توجيه الرسائل المعبرة ذات المغزى!
مهند النابلسي / كاتب وناقد سينمائي
تحفة “دونكيرك” السينمائية: بقلم : مهند النابلسي
- 21 أغسطس، 2017