تمت مشاركة ذكرى من قبل George Ashy.
نجمي السكري – صالة سينما الحمراء 1979 عدسة وقلم : جورج عشي
نجمي السكري :
عازف الكمان السوري المصنف عالمي يرفع أسم وطنه عاليا في المحافل الدولية .
من الصعب جدا الكتابة عن قضية أو مشكلة أو ظاهرة لا يمكنك فيها تقديم نماذج مقنعة ، فالكتابة عن شاعر أو رسام أو حتى مؤلف موسيقي تبدو سهلة أمام الكتابة عن عازف موسيقي ألا أذا أرفقت كتابتك بأسطوانة مدمجة وخاصة أذا كان هذا العازف يتبوأ اليوم صدارة العازفين الأوائل في العالم .
نجمي السكري هو القضية الشائكة والمعادلة الصعبة التي لا يمكن أن نجد لها تفسيرا في قاموسنا المعاصر ، نتعمد تجاهله لكونه يعزف موسيقى لا علاقة لنا بها ، أو أنه يعيش في عالم لا نمت له بصلة ، أو أننا لا نفهم قيمة إبداعه المتميز في تقديم موسيقى الآخرين بروحية سورية ورثها عن تنسم هواء موطنه الجميل . العازف الماهر بحاجة إلى مؤلف موسيقي بارع ليترجم الأول براعته ، والسؤال أين هو المؤلف السوري الذي يمكن أن يقدم لهذا العازف البارع مقطوعة موسيقية على مستواه .
ومع أن نجمي هو سلاح قادر وقوي في المحافل الدولية عندما يقدم نفسه على أنه من سوريا ، نحن من طرفنا لا نعرف قيمة هذا السلاح ولا قدرته على التدليل عن مكانة السوريين وحضارتهم وإمكانات أفرادهم بقدر ما يعرف عدونا الذي يحارب نجمي .
أنا من القلائل الذين سمعوه شخصيا وفي بعض الحفلات الموسيقية الرسمية التي تكرم نجمي بها علينا ، وكنت ألاحقه من مدينة إلى أخرى لشغفي الكبير بآلة الكمان واطلاعي على أبعاد تلك الآلة الموسيقية اطلاعا وافيا إلى جانب كوني أحفظ كل ما كتب لها من مقطوعات وكونشرتويات ، وأقول بصدق أن نجمي كان يؤدي ولنقل يترجم كل عمل قدمه لنا بمهارة وأمانة تامين مضفيا عليها من روحه ما يستوجب منه ذلك .
ولكي نتعرف على هذا العازف المميز لا بد لنا من المرور على فن الموسيقى ولو على رصيف أبعاده الكبيرة ثم التعرف على تاريخه عن كثب .
الكثيرون منا لا يفقهون دور الموسيقى في حياة الأمم ولكنهم يجاملون . أن هذه المجاملة أخف جرما من الذي لا يفقه ولا يعتبر هذا الفن الأداة الحازمة لتثقيف النفس البشرية والارتقاء بها إلى المستوى الإنساني اللائق وبخاصة الموسيقى العالمية .
يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب : ” بدأت حين اتصالي بالموسيقى العالمية الرفيعة أدرك بأن هناك آفاق واسعة علي أن أرتادها قبل أن أصل إلى ما أصبو أليه من مركز في عالم الموسيقى . ”
أغلب الناس يستمعون إلى الموسيقى كل بحسب كفايته ، ولكن عند تحليل عملية الاستماع يجب أن نستمع وفق ثلاثة مستويات أولها ” المستوى الحسي ” وثانيها ” المستوى التعبيري ” وثالثها ” المستوى الموسيقي الصرف “وأبسط الطرق المألوفة للاستماع هي مجرد الاستمتاع بالأصوات الموسيقية ذاتها والاستسلام لها دون تقدير وهذا هو الغالب لدينا .
إلى ذلك علينا أن نكون على دراية ولو بسيطة بالآلات الموسيقية ونمتلك بعض المعلومات عنها ولنأخذ مثلا آلة الكمان .
ألكمان ( الفيولين ) أو ( الفيولون ) – التي هي آلة نجمي السكري الموسيقية – هي بالطبع آلة وترية وهي الأشهر بين الآلات الموسيقية حتى أذا بحثت عنها في القاموس أو اللاروس ستجد عبارة : ( ملكة الآلات الموسيقية ) ولها المقدرة على الغناء الشجي يمكنها أن تحاكي القيثارة بطريقة العزف عليها بدون قوس Pizzicato وتحاكي الناي ( الفلوت ) حين تلامس أصابع العازف الأوتار لمسا Flute d Harmonique ويمكن العزف عليها بطريقة مرور القوس على وترين بآن واحد Double Cordes وأخيرا نستطيع استعمال الرنين Sourdine وتكون أصوات الكمان حينئذ مقنعة ودقيقة وذات بحة ناعمة وشجية أشبه بالبكاء , وتشترك مع هذه الآلة الآلات الوترية كافة ولكن بمقدرة أقل كا لفيولا والفيولونسيل والكونترباص .
أما الحالة الموسيقية فلها ثلاث ركائز أساسية متميزة 1 – مؤلف 2 – مؤدي ( عازف منفرد أو بمصاحبة آلة أخرى أو قائد أوركسترا وفرقة موسيقية 3 – متلقي .
أنا أكتب بلغة علي ترجمتها لشخص آخر . الكاتب هو المؤلف والمترجم هو العازف والشخص الآخر هو أنت . هذه الركيزة الثلاثية لا يمكن أن تتم بفقدان أحد عناصرها . من هنا يجب علينا أن ندرك أن استمرار الإبداع الموسيقى لا يمكن أن يتم بدوننا جميعا ومعا .
نبدأ من المؤلف ، أن المؤلف الموسيقي لا يحكي لنا قصة مثل القاص ولا ينقل لوحة من الطبيعة كما يفعل الرسام ولا يكون لمؤلفاته أثر نفعي مباشر كتصاميم المهندس المعماري بل يحلق بنا في أطار التعبير عن ذاته إلى أجواء وجدانية تعتمل فينا وتتداخل موحية ألينا بعالم صراعي مهووس مثلا كما قدم لنا بيتهوفن نفسه ، من منا لم يتفاعل مع هذا الموسيقي العبقري الفذ في مؤلفاته الإنسانية المعبرة ؟ .
اللوحة التي يرسمها الرسام بحاجة إلى عرض كي يراها المتلقي ولكن الموسيقى بحاجة إلى من يفسرها ، يترجمها ، يقدمها ، يحاول إضفاء روح مؤلفها عليها إلى جانب خصوصيته كفنان مترجم لذا وجب على المترجم أو المفسر أن يتمتع بمهارات فنية خارقة أكثر مما يمكن أن يتطلب منه ذلك ومع هذا يواجه أحيانا معضلة هي : إلى أي حد ينتظر منه أن يلتزم بحرفية العمل الموسيقي المكتوب .
المفسر أو لنقل المترجم له شخصيته الفنية المتميزة أيضا وهنا نقف أمام المعادلة الصعبة وهي كيف يمكن للفنان العازف أن يقدم خصوصية بيتهوفن مثلا في مؤلفه وكيف يمكن له أن يقدم خصوصيته هو أيضا باعتبار أن له شخصية اعتبارية مهمة للقيام بذلك .
من هنا ندخل إلى عالم نجمي السكري والموهبة التي يتمتع بها والرغبة والجدية في تفسير الأعمال الموسيقية بعد دراسة دامت ستة عشر عاما ونيف بين حلب وباريس وموسكو وممارسة بين بلجيكا وفرنسا وروسيا ومع الفرق العالمية كسوليست ” كونسيرت مايستر “وضمن تشكيل موسيقى الحجرة التي قوامها طلاب معهد تشايكوفسكي في موسكو ، ورغم الصعوبات المادية والمعنوية التي تعرض لها وصلب من أجلها فنه الراقي أو كاد ، يكفي على حد قول أحد العظماء : أنه مؤمن بما يعطي .
إن طريقة السكري في أداء المؤلفات الموسيقية المكتوبة لآلة الكمان ليست أداء فقط بل فلسفة لأعمال لم يرثها عن والده عازف الكمان الهاوي أوالمؤلف الموسيقي المغمور بل خلق تغييرا لمفاهيم على أسس جديدة تنبع من صميمه هذبها في فرنسا وروسيا أساتذة كبار دفعوه دفعا وبإخلاص في سبيل إضافة أسمه إلى قائمة الفنانين العظام فنانا سيحتل عاجلا أم آجلا سدة العازفين في العالم .
لم يسلم نجمي من أيادي الصهيونية فدفعت لأن يكون ترتيبه التالي في مسابقة الملكة أليزابيت ببروكسل بعد الصهيوني زيفوني رغبة منها في الظهور أمام العالم بمظهر الدولة الحضارية التي تمتلك أفضل العازفين في العالم .
هناك عازف بولوني ، وبولونيا بلد يهتم بالموسيقى ، قدمت له الحكومة البولونية ميدالية ذهبية تقديرا لمهارته في العزف على الكمان رغم أنه لم يكن أهلا لدخول مسابقة جاك تيبو . (عازف الكمان الفرنسي المتوفى ) للعزف على الكمان والتي جرت في باريس ، أما نحن ماذا قدمنا للسكري لنشجعه على الاستمرار في عطائه ومع هذا فاز بالمرتبة الخامسة في هذه المسابقة .
أستاذ نجمي ميكل أنديلا الفرنسي ، وشكرا له ، قدم له كمانه الخاص والذي تقدر قيمته اليوم بالملايين ليعزف به أمام لجنة تحكيم ليس بينهم عربي واحد تشده رابطة الروح ليقف إلى جانبه كي يتبوأ مركزا أفضل في الترتيب الذي حصل عليه .بينما كافة المتسابقين من الدول كافة قدمت لهم دولهم كمانات مميزة وأجور سفر وإقامة في بلجيكا للاشتراك في هذه المسابقة بينما نحن فقط سمحنا لنجمي أن يشترك ولكن على حسابه الخاص . ولم يكن في القاعة هناك سوى العلم السوري الذي صفق لنجمي .
في نيسان من العام 1959 أوفد نجمي إلى موسكو لمتابعة الدراسة بعد أن حصل على المرتبة الأولى من المعهد الوطني العالي للموسيقى في باريس وقد أشير عليه في موسكو أن يبقى حتى موعد مسابقة تشايكوفسكي العالمية العام 1962 أذ كان الأمل كبيرا بأن يحصل على المرتبة الأولى ولكن وزير التربية آنذاك كما يقول نجمي لم يوافق وبقي السكري في دمشق إلى أن زارها العلامة الموسيقي المصري أبو بكر خيرت وسمع عزفه في حفل موسيقي خاص بالمركز الثقافي العربي بدمشق وأشار على الوزير إيفاده ثانية إلى موسكو ورفض ذلك مجددا . والقصة وراء هذا الرفض هي أنه وخلال وجوده في موسكو رفض نجمي أن يعزف للملحق الثقافي العربي ومدعويه في حفل عشاء .
عاد أبو بكر خيرت إلى القاهرة غاضبا وأتم ما يجب عمله لإعادة إيفاده إلى موسكو وتم ذلك فعلا ، وبين الفترة التي عاكس فيها الوزير أعادة إيفاده وسعي أبو بكر خيرت كان يدفع لنجمي راتبا شهريا مقداره سبعين جنيها لم يسبق أن نال مثل هذا الراتب موسيقي عربي من قبل آنذاك. وسمح له في العام 1961 بالذهاب إلى موسكو ولكن على نفقته الخاصة وتعهد معهد تشايكوفسكي متابعة تأهيله عل حساب المعهد وكان يتلقى دروسه على يد العازف العالمي المعروف دايفيد أويستراخ وترك أثرا طيبا لدى أقامته هناك من خلال الحفلات التي كان يحييها في المعهد .
أنه اليوم يعيش في باريس بعيدا عنا لكنه قريب من الذين يقدرون موهبته .
جورج عشي