غادة السمان و أدب المراسلات والاعتراف
غادة السمان،علم من إعلام الأدب العربي الحديث والمعاصر وعنوان للكلمة الصادقة المعبرة بقوة المشاعر و الوجدان والضمير الإنساني، والمنطلقة بجرأة غير معهودة والتي لا يمكن لأي شيء إن يقف إمام قلمها الحر الذي يؤرخ أرشيفها الأدبي بمواقفها السياسية والاجتماعية والنفسية، لأنه هو جزء من التاريخ وهي صادقة مع نفسها لتاريخها ولتاريخ نفسه والإحداث التي تمس وجودها و وطنها العربي من مشرقه إلى مغربه،
غادة السمان و أدب المراسلات والاعتراف
فواد الكنجي
غادة السمان،علم من إعلام الأدب العربي الحديث والمعاصر وعنوان للكلمة الصادقة المعبرة بقوة المشاعر و الوجدان والضمير الإنساني، والمنطلقة بجرأة غير معهودة والتي لا يمكن لأي شيء إن يقف إمام قلمها الحر الذي يؤرخ أرشيفها الأدبي بمواقفها السياسية والاجتماعية والنفسية، لأنه هو جزء من التاريخ وهي صادقة مع نفسها لتاريخها ولتاريخ نفسه والإحداث التي تمس وجودها و وطنها العربي من مشرقه إلى مغربه، لأنها متميزة بثراء وبتجذر روحها في الأنا والوطن الغائب الحاضر في شخصيتها، لأنها أديبة تعيش الفن اغترافا واغترابا وتمارس فعل الثورة متمردة على كل الإشكال الحياة التقليدية الرتيبة، فبقدر ما تعيش (غادة السمان) حاضرها بكل أعاصيره وطوفانه هي ذاتها التي تمتلك رونق الماضي وتألق الحاضر وروحه برفضها إن تكون شخصية نمطية طارئة في الحياة بل شخصية فاعله حاضره وحاضره بقوة قلمها وأنوثتها وكيانها، وهو هذا الثراء وهذا التجذر الذي فقدته الساحة الأدبية في عالمنا العربي ولم تفقده (غادة السمان) فتكتب في زمن تتاجر الأقلام وبيعت بابخس الإثمان ولكن لم يثروا الأدب بثراء الأدب الحر الذي تنطلق منه غادة السمان وما أثراها في عالم الأدب …!
فموج الصقيع الذي يجتاح منطقتنا العربية منذ أمد ليس بالقصير، لم يحد قلم (غادة السمان) الحرة بالمسير فوقه مهما كانت نافذته موحشة، لتنزع عن القلم غطائه لتكتب، لتكتب في ليل الصقيع والبرد والأعاصير عن وحدتها وعن غربتها وعن غربة الوطن المذبوح بالصراعات السياسية والحزبية والدينية والقومية والمذهبية والطائفية وعن حصارها في حرب الأهلية التي أحرقت بيروت في سبعينيات القرن الماضي، عن كل ما هو مستحيل، عن كل ما هو متناقض في دواخلنا وفينا وما حولنا، لان الكلمة وجدت طريقها من عمق أعماقها السحيقة في ذات (غادة السمان) فجاءت الكلمة لتنطق، لتنطق بلغة المخالب المفترسة، لتخلق من عالمها المتناقض تاريخا متغير تحول الكلمة الثائرة إلى شكلا من إشكال (ليل الغرباء) الثائر يحمل انتفاضته في عالم متناقض، رافضة المثالية والرومانسية والتقاليد والرتابة ومتمسكة بعالم المتغير في واقع التاريخ، لان (غادة السمان) أرادت إن تكون وكانت العاشقة الثائرة تناشد الحرية في ضل استبدا الواقع العربي و(صفارة إنذار في داخل الرأس) وفي داخل أعماقها تحذر من الفجع الأتي، لأن الأخر أراد افتراسها فقاومت وتصدت وثارت وانتفضت رافضة رفضا مطلقا إن تلعب دور المرأة العاشقة الخجولة المتوارية والمتيمة والخائفة والمستسلمة، لان الحب كان يعيش في أعماقها، ولأن إيمانها بالحب هو إيمانا بالثورة التغير والحرية، ولأنها وجدت هناك من يحاول (محاكمة الحب) فتحدت وصاحت بأعلى صوتها: كيف يحاكم الحب الذي هو جزء ليس من كياني فحسب بل من كيان البشرية…!
فكيف لها وهي (عاشقة الحرية) و تعيش (الحب من الوريد إلى الوريد) ، ولان الحب في نظرها ليس حكايته (حكاية حب عابرة)، هو كل شيء وهي من تقول (لا شيء يسقط كل الشيء)، لان كيان الحب قائم في القلب و(القلب نورس وحيد) وهو القلب قائم في الحب لان (القلب العاري عاشقا)، عاشقا الحب وكل شيء جميل….!
وهذا هو التحدي والجنون الثائر لمن هو عاشق، و(غادة السمان) عاشقة، وعشقها هو ليس عشقا تقليدا بل هو الطيران دون الأجنحة والدخول إلى المستحيل والسير بعكس اتجاهات لأنها ضلت على الدوام تقول (اشهد عكس الريح)، فـ(غادة السمان) التي لها عنوان في (حب) فهي من قالت وصاحت بأعلى صوت في الوجه الأخر دون خوف وتردد وخجل (أعلنت عليك الحب) في جرأة غير معهودة في العالم العربي المتقوقع في ذاتها، لتبرهن بان المرأة العربية لقادرة إن تأخذ مكانتها في المجتمع وان تعبر عن مشاعرها دون تردد ودون خوف مهما كان الاستبداد قائم في ضل نظرة الرجل المتخلف إليها وفي ضل الأنظمة العربية المتخلفة والأعراف والتقاليد والإحكام الغيبية المسبقة، فان المرأة العربية لقادرة على التحدي وكسر كل القيود والحواجز إن وجدت نفسها محاصرة من كل الجهاد لان لا محال الاضطهاد لن يستمر ضدها إلى ما لا نهاية وكما قالت : (ستأتي الصبية لتعاتبك- وهذا هو- بدايات زمن التمرد) على سطوة الرجل، فالزمن التمرد آت لا محال، وقد وجدنا حالها في (ليلة المليار) وما عانته المرأة في ضل الحرب وكيف كان أسلوبها في التحدي، فـ(غادة السمان) هذه الإنسانة العاشقة والتي تأخذ جراءتها بهذه الصراحة هي مشاهدة لمشهد (اشهد عكس الريح) لأنها عاشقة في كل شيء(عاشقة في محبرة) وعاشقة في الكلمة والشعر والكتابة، وكتاباتها (كتابات غير ملتزمة ) غير تقليدية لان (أعماقها محتلة) وصارت أعماقها ملجئا للاغتراف و للسفر، ليتحول كل شيء في وجودها وكيانها سفر، سفر في شعرها وعيونها وذاتها وكلها ليصبح (الجسد حقيبة سفر)، نعم إن جسدها تحول إلى حقبة سفر تدخل مدن وتخرج من مدن لتمتلئ جواز سفرها بأختام وبتأشيرات الدخول والخروج (لان زمن الحب الأخر) قد أعلن واتخذ قراره حين قالت لدمشق موطنها (يا دمشق وداعا) وهي تنزف شوقا وحنينا وحبا لحارات دمشق القديمة وجمالها، فـ(فسيفساء دمشقية) شكل نموذجا جماليا الهم كيانها ومشاعرها فعشقت هذا التنوع الدمشقي وظلت تحن اليها، ولها في أعماقها كل الحب بعد إن أجبرت على الرحيل عنها وكلها (رسائل الحنين إلى الياسمين ) ياسمين دمشق وجبل القاسيون وأسواق الحميدية وحارات باب توما والصالحية وشارع الحمرا و حدائق تشرين، لتقف بعد غربتها مرغمة وكلها حنين تتذكر ولكن الغياب أصبح يقينها بعد إن شدت حزام حقيبتها لترحل عن مرافئها القديمة، ليفتح( رحيل المرافئ القديمة ) شرخا في أعماق قلبها ذرى الملح على جراحها لتئن لتصرخ لتعو كذئاب البراري في ليل الصقيع، لتقضي لياليها بـ(تسكع داخل الجراح) بعد إن قتل حلمها في الشام وخرجت قتيله ورغم قتلها ضلت (القبيلة تستجوب القتيلة)، كيف يستجوبوها وهي القتيلة، وهل (استجواب متمردة) وهي مجنونة بحب الوطن جائز…! وكل من الوطن و الحب و الأرض ينبض في أوردتها وشرايين قلبها، بل ليغدو كل شي في أعماقها ينبض كالقلب حتى (الرغيف ينبض كالقلب) لان في أعماق أعماقها حب محتل ينبض لمدينة القديمة ولمدينة جديدة، فبيروت التي أحبتها أجبرت الرحيل عنها كما أجبرت الرحيل عن موطنها الأول، لتقول بعد (ليلة المليار) وهي تصرخ (لا بحر في بيروت) فكيف لهذا البحر إن يحاكم سمكة أحبته ولا تستطيع ان تعيش دونه، فتسأل هل (البحر يحاكم السمكة) بعد إن تحول كل شيء في (بيروت 57 ) إلى (كوابيس بيروت) بعد ان حولتها الحرب الأهلية إلى جحيم لا يطاق جثث وقتلى على الأرصفة والطرقات وحرائق وانفجارات، لتحول حرب بيروت المدينة إلى مجرد أكوام من حطام وركام و جثث لكي لا تصلح المدينة إلا لإقامة سهرات تنكريه ولكن من نوع أخر من السهرات وهي (سهرة تنكرية للموتى)، فهذا هو (موزايك الجنون البيروتي) فيصبح كل شيء مستحيل فلا تستطيع (غادة السمان) التعبير لان (الرواية المستحيلة) كتم هويتها في قلبها وهو ينبض تحت (القمر المربع) اغترافا واغترابا لتكون غربتها (غربة تحت الصفر) لتحمل في ليالي البرد والصقيع جسدها المعبئ بالهموم تصعد وتنزل وكأنها تحمل صخرة (سيزيف) في دوامة أبدية، هذه هي (الأبدية لحظة الحب) وفي أعماقها السحيقة حب تُخيله لـ(الحبيب الافتراضي) لتمضي نحوه إلى المجهول في دوامة الشقاء والعناء كـ(سيزيف) وإمام هذا العناء فلا مستحيل حتى وان لجئ الإنسان إلى (الرقص مع البوم ) …!
نعم إن في زمن الموحش كل شيء جائز، بعد إن كانت (غادة السمان) في ذات يوم تعيش حالة الحب، لتقول لمن تحب (عيناك قدري) لتختم قلبها وذاكرتها بحب بعد إن كان ذات يوم لها حبيبها ولكن سافر بعيدا فلا تريد من بعد ذلك الحب إن تتذكر شيء فتقر بـ(ختم الذاكرة بالشمع الأحمر) لان قدرها أصبح في (زمن الحب الأخر) لان (ألأعماق المحتلة) ما زالت تدوي في ذاتها بموج الحنين وعذاب الاغتراب و بقسوة مناخه ببرده وثلوجه وصقيعه وإمطاره وأعاصيره، لتعيش في بلاد الغربة (غربة تحت الصفر)، فالحب قدرها لا محال بعد إن غاب عنها لترفع الشعار ممنوع الوقوف وسر باتجاه معاكس، لتمضي (غادة السمان) مستيقظة غير خائفة من المستقبل لأنها ليست نمطية ولا موظفة معينه في الحياة، لان الحياة عندها تمرد في العطاء الحر الذي لا تستوقفه إحكام مسبقة لان (غادة السمان) كما نجدها في كل كتاباتها تحب الحرية وتحب إن تقف مكشوفة تحت الشمس والريح والمطر دون المكابرة ودون القنوط، فلها وقت لكل شيء وقت لتأمل ووقت لالتقاط الأنفاس ووقت للمحاربة ووقت للسلام والمضي قدما دون استسلام ودون إن تقر بالهزيمة ودون إن تتوقف، فلا مستحيل عندها حتى وان اضطرت (السباحة في بحيرة الشيطان)، لان إيمانها بعدالة قضيتها وحريتها هي التي تعزز في ذاتها شعور بالتفوق والنجاح والانتصار وهذا ما يٌقوم حضورها بالمنجز وبالاسم وبالحب وشراسته وبالدم الثائر وفصيلته لأنها تحب المواجهة لان في يقينها بان زمن الهروب من الواقع قد ولى ومضى كما مضى زمن البكاء والنواح على إطلال ليلى العامرية، فزماننا هو زمان المواجه و(غادة السمان) تواجه بلغتها، الثورة وتحطم عقارب الساعة للقضاء عن الرتابة والملل، لان تغريدها يوجه نحو الطيران والتحليق في الأفاق الحرية لتكشف من فوق كل الطرق التي لا تؤدي إلى المخارج، لان لها شوق غامض إلى شيء مجهول وهي تمضي إليه لا تبالي بما ستخسره من زمن الساعة لان قلبها كالريح لا يعرف الاتجاهات وكالبحر الذي لا يستقر، لان يقينها بقلمها هو كطائر الخرافي لا احد يعرف شكله وفصيلته ولونه وطبيعته وما يخبئه تحت جناحيه، وهي تريد الاكتشاف و(اعتقال لحظة هاربة) و حتى (السباحة في بحيرة الشيطان) لأنها إنسانة أولا و(مواطنة متلبسة بالقراءة) وتريد ان تكتشف كل شيء ولا تفقد أي شيء.
هذه هي معادلة (غادة السمان) فما عادت راغبة بالغياب عن الواقع، ولان واقعها لم يعد راغبا في مخادعة ذاتها، تلك هي معادلة (غادة السمان) لان لغة التعبير عندها تتضافر ولا تقوى على مضارعتها وهي تنهض وتتكامل بالتعبير فهي لا تنكر ذاتها ولا تقفز من فوقها بل تواجه الواقع بكل فساوته لأنها تقر الـ(تسكع داخل جرح) وكأنها محاولة لزحف فوق كسور الزجاج لمساحة طويلة في ميدان المواجه في الساحة الثقافة العربية والأدب العربي .
فلا غرابة ممن يضع النقاط فوق الحروف بشكل الذي يفز القاري ويشده للغوص في عمقها ليغرق كما يغرق كاتبها ليمضي بأوجاع الكتابة دافعا ثمن غربته لها كما تدفع (غادة السمان) وهي تعيش غربتها في باريس منذ أواسط الثمانينيات القرن الماضي لظروف (الحرب الأهلية) التي طحنت مفاصل (بيروت) لتخرج بروائع كتاباتها متنقلة بصفحاتها كما كانت الحرب تنتقل بصفحاتها من شارع إلى شارع ومن حي إلى أخر لتحرق البلاد بأكملها فاتت (بيروت 57 ) ورائعتها (كوابيس بيروت) و (ليلة مليار) وإعمال كثيرة أرخت تلك الإحداث الدامية من تاريخ المنطقة والتي ضلت منذ تلك الإحداث والى يومنا هذا تشتعل وتحرق الإنسان والحجر، لتحرق نيران (بيروت) أرشيفها الكبير في منزلها الذي احترق كما كانت كل (بيروت) الحبيبة تحترق آنذاك، لتودع بعد مكوثها في بلاد الغربة أرشيفا مهما في بنك (سويسرا) على أنها ستسعى إلى نشره في الوقت المناسب او بعد وفاتها، وهذا الأرشيف المودع يكمن أهميته ليس في قيمته الأدبية فحسب بل للمعلومات الثمينة التي يحتويها فـ(غادة السمان) الذي خلف ورائها روائع كـ(( محاكمة حب وعيناك قدري – 1962 و لا بحر في بيروت – 1963 و ليل الغرباء – 1967 و حب – 1973 و رحيل المرافئ القديمة – 1973 و بيروت 75 – 1975 و كوابيس بيروت 1976 و أعلنت عليك الحب – 1976 و زمن الحب الآخر- 1978و القلب نورس وحيد و الجسد حقيبة سفر – 1979 و السباحة في بحيرة الشيطان – 1979 و ختم الذاكرة بالشمع الأحمر- 1979 و اعتقال لحظة هاربة – 1979 و مواطنة متلبسة بالقراءة – 1979 و الرغيف ينبض كالقلب – 1979 و شهوة الأجنحة – 1979 و اصطياد لحظة عابره – 1979 و حكاية حب عابره- 1986 و ع غ تتفرس – 1980 و صفارة إنذار داخل رأسي – 1980- و كتابات غير ملتزمة- 1980 و الحب من الوريد إلى الوريد – 1981 و القبيلة تستجوب القتيلة – 1981 و البحر يحاكم سمكة – 1986 وليلة مليار- 1986 و اشهد عكس الريح – 1987 و الأعماق المحتلة – 1987 و تسكع داخل جرح – 1988 و الرقص مع البوم – 1989 و تسكع داخل جراح و القمر المربع و الرواية المستحيلة – فسيفساء دمشقية 1997 و ستأتي الصبية لتعاتبك – بدايات زمن التمرد و يا دمشق وداعاً وفسيفساء دمشقية -2015 و رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان – 1992 و عاشقة في محبرة – شعر- 1999 و رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان و سهرة تنكرية للموتى – موزاييك الجنون البيروتي -2003 و امرأة عربية .. وحرة – 2006 و استجواب متمرده -2011 و رسائل الحنين إلى ألياسمين – 1996 و الأبدية لحظة الحب و الحبيب الافتراضي – 2005 و لا شيء يسقط كل شيء..! و غربة تحت الصفر 1986 و شهوة الأجنحة – 2006 و القلب نورس وحيد – 1998 و رعشة الحرية – 2003 والقلب العاري عشقا – 2008
….. ملاحظه/ التواريخ قد أتت لبعض الكتب لطبعة الكتاب وليس تحديدا بتاريخ الإصدار، لان هناك كتب طبعت لأكثر من ثمانية عشر طبعة، وما تم ذكره من العناوين غير خاضع لتسلسل الزمني لإصدارات الكتب)).
وظل القارئ العربي يتابع ويقتني كل ما يصدر من (غادة السمان) لأنه يجد في كتاباتها الضمير المتكلم بعمق وصدق المشاعر، فأصبحت كتاباتها تلاقي استحسان الكثير من القراء والنقاد والباحثين، ليم لكثير من الطلبة الدراسات العليا تخصيص دراساتهم لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه في أدب (غادة السمان ) بعد إن تركت كتاباتها بصمة خاصة في الأدب العربي، ولم يقتصر مدار اهتمام بكتاباتها عند القارئ والإعلام والأكاديمي العربي بل تعدى الاهتمام بكتاباتها في الغرب فترجم كتبها إلى أكثر من لغة.
ولحجم اهتمام القارئ والإعلام بكتاباتها فان لا محال إن أي عمل يصدر منها وعنها سيكون مدار اهتمامهم وسيسلطون الضوء عليه، وكيف الحال إن كان العمل الذي تصدره هو متعلق بأدب المراسلات كون هذا نمط من الأدب يثير اهتمام القارئ والإعلام بشكل ملفت فكان لصدورها كتاب ((رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان – 1992 )) بمثابة قنبلة فجرتها (غادة السمان) ليس فحسب في الوسط الأدبي بل امتد صداها في الوسط السياسي، ما احدث ضجة إعلامية كبيره في حينها وخاصة بعد إن وجدت مراسلات بين (غادة السمان) و الأديب الفلسطيني الكبير (غسان كنفاني) طريقها إلى النشر، مما اثأر نشرها ردود فعل مؤيده ومعارضه، ومهما كانت تلك المواقف إلا إن الحقيقة التي يجب إن تقال هنا بان (غادة السمان) لم تكن هي الأولى بنشر نصوصا من مبدعين بعد رحيلهم ولكن هي المتميزة في صراحتها وجراءتها و بأمانتها الأدبية بنشر الوقائع كاملة دون بتر أي مقطع من تلك الرسائل وفبركتها، إلا بما كان يتعلق الأمر بالمعلومات الأمن السياسي، فمثل هكذا أدب أي (أدب المراسلات والاعتراف) قد عرف في الوسط الأدب العربي، فرسائل الحب المتبادلة بين الكاتبة (مي زيادة) والشاعر( جبران خليل جبران) و (الأديب المصري عباس محمود العقاد) اللذان كليهما أحبا (مي زيادة) وأرسلوا لها رسائل حب والتي قامت هي بنشرها ، وما عرف بان( جبران) كان متيما بها وهو الوحيد الذي بادلته (مي زيادة) الحب حسب ما عرف من رسائلها، وكما نذكر أيضا بان هناك رسائل حب بين الصحفية (إيفانا مارشليان) والشاعر الكبير( محمود درويش) نشرتها بالقول بان الشاعر( محمود درويش) كتب لها بالنص ((أنا الموقع أدناه)) تقول إنه حوار بينها وبين (محمود درويش) خولها بنشره بعد وفاته. ومع ذلك لم تثر تلك الرسائل جدلا على المستوى الثقافي والإعلامي كما حدث اثر نشر المبدعة (غادة السمان ) كتابها((رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان)) او ما نشرته أيضا من رسائل حب أخرى كان قد كتبها لها الشاعر (أنسي الحاج) في العام 1963 وجمعتها في كتاب عنوانه ((رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان)).
فهذه الرسائل والمراسلات الرائعة بين الكتاب والروائيين والمبدعين هي بكل تأكيد روائع لا يمكن إخفائها، فكل الحق مع (غادة السمان) في نشر أي شيء تجده بأنها كمال لأدب الرائع المعبر عن صدق المشاعر لأنها أولا وأخير هي صادرة عن ذات أدبية لها مكانتها على الساحة العربية ونشر مثل هكذا مواضيع يتطلب من الكاتب الجراءة ، لان الجراءة إحدى سمات المبدع يجب إن يتمسك بها أي أديب ومبدع، ونحن على يقين بان هناك الكثير من مراسلات بين المبدعين ولكن لم تنشر في وقت الذي أكد بعض من هؤلاء المبدعين بوجودها ولكن لاعتبارات خاصة حجبوها عن النشر، فان كان لهم في ذلك حق، فحق القارئ الاطلاع عليها طالما تم تأشير بوجودها، كرسائل التي أرسلها الشاعر الكبير (نزار القباني) الى الشاعرة والأديبة والروائية المبدعة (كوليت خوري) والتي هي اعترفت بوجودها ولكن حجبتها عن النشر وهي تارة تصرح بأنها ستنشرها وتارة أخرى تتوقف عن نشرها، ومن هنا من حق القارئ إن يطرح تساؤله لماذا يتم الإعلان بوجودها في وقت الذي يحجب نشرها…؟
فمثل هكذا مواقف ما هو إلا استفزاز بمشاعر القارئ والمعجبين، ولكن (غادة السمان ) لم تخيب ضن المعجبين والقراء كتاباتها، لأنها كاتبة جريئة مؤمنة برسالتها الأدبية دون خجل، لان الأدب لا يحتمل هذا النوع من الهروب لان رسالته تقتضي المواجه، ولهذا فان (غادة السمان) بثقة بالغة تواجه دون تردد وعسى إن يتعلم من جراءتها الآخرين ممن يعمل في حقل الإبداع لسد النقص في مجال أدب المراسلات في المكتبة العربية والتي لم يجرأ أحدا بالنشر خلال أكثر من عقدين من الزمان في هذا الحقل الأدبي، فالذي يكتب وينشر بصدق وأمان لا يخاف النقد، لان النقد الذي يأتي في غير مكانه يخمد، وهذا ما حصل مع كل الانتقادات التي وجهت إلى (غادة السمان ) بل زادها إصرار بنشر كلما وصل بيدها من حقائق فهي من تقول:(( .. الحملة الصحافية ..لم تخفني ، ولأن أحدا سواي لم يتقدم .. سأقوم أنا بذلك وسأتابع نشر رسائل المبدعين الراحلين لي، وليكن ما يكون، ثمة حروف جميلة في الأدب العربي لا يحق لأحد إحراقها أو حذف كلمة منها، سأقوم من طرفي بنشرها وأعرف أنه سيأتي في المستقبل من يساهم بذلك، لقد سبقنا كثيرا الغرب في حقل نشر رسائل المبدعين واعترافاتهم أما عندنا فقانون الازدواجية يحول بيننا وبين نشر الحقيقة . وكم أثار الراحل الكبير سهيل إدريس غضبا حين كتب في مذكراته حقيقة والده ، إنه الرائد الأول في قول الصدق في صفحات مذكرات..)).
كما إن (غادة السمان ) تشير بان(( ثمة أديبة عربية نشرت رسائل حبيبها الشاعر (خليل حاوي) بعدما حذفت اسمها – واحتراما لرغبتها لن اذكره – كما شطبت بنفسها بعض السطور التي وجدتها محرجة في حق سواها على الأرجح، ولم تنج من اللوم، لأنها تجنت على الأمانة الأدبية ، و أنا اعتقد إن العتاب لا يجب إن يوجه لها بل إلى القيم التقليدية السائدة التي تجعل سلوكا كهذا مفهوما – بل مدعاة للاحترام – وللهجوم لا يجوز إن يوجه للأديبة التي نفذت تعاليم مجتمعها، بل لذلك المجتمع المهتري بالزيف الذي يجد في اكبر حقائق الحياة عيبا يجب التنصل منه في حجرات السر المظلمة..)).
هكذا تتحدى (غادة السمان) المواقف بشجاعة وجراءة كما هو معروف عنها، ونتمنى للمبدعات العرب إن يحذو حذوها لان يقيننا بان (غادة السمان) لن تكون الأخيرة في هذا المجال، لان الأدب العربي في تاريخه حافل بمثل تجاربها ومشاعرها في الحب والتعبير عنه دون خوف، فالكم الهائل من قصائد وقصص الحب في الجاهلية رسمت في ضمائرنا قيم الأصالة ونبل المشاعر بما جعلنا نحفظ سيرة حياتهم كقصص وإشعار خالدة تناقلها الأجيال من جيل إلى جيل ولم يكن في ذلك عيب او خجل من إفصاح عن المشاعر وتجارب الحب خفقا ونجاحا، لتبقى نماذج تؤرخ القلب والجسد العاشق على مر التاريخ، ونتمنى للمبدعات العرب إن يتخذن من شجاعة ومبادرة (غادة السمان) قدوة لقدومهن بنشر وبوح بإسرارهن وقصصهن إن كان لديهن خلفيات حب مشابه لقصص (غادة السمان) مع مبدعين لهم مكانة في الأدب العربي لان في ذلك أمانه لنشر لتلك الإبداعات لمبدعين لكي لا تذهب ما كتبوه وما دونوه من مشاعر حب وشوق صادق أتى من أعماق ضمائرهم إدراج النسيان، وما نتمناه إن لا يحور ما كتبه الأخر إليهن ويحيلونه إلى رموز وإيحاءات مبطنه يخرجونه بإشكال الأدب فيشوهون جوهر الرسالة ومحتوى الموضوع بادعاء أنها من مخيلتها ولا علاقة الأسماء و شخصيات وان تشابهه بالشخصية الحقيقية، نعم إن الأمر قد يكون في كثير من الأحيان صعبا وصعبا جدا ولكن ليس صعبا للأديب الصادق مع نفسه كما هو الحال بالنسبة إلى المبدعة (غادة السمان) بكونها كان بإمكانها عدم البوح أو النشر أي شيء من هذا القبيل، لان الأمر يمس حياتها الزوجية ومكانتها الاجتماعية، وكان بالإمكان التنكر وعدم النشر، ولكن صدقها لأدبها ولقلمها وللقارئ العربي هو الذي حملها إن تنشر الحقيقة وهي تعلم بأنها ستدفع الثمن غاليا وخاصة هي تعلم بان المجتمع العربي ما زال يعيش العادات والتقاليد والأعراف القديمة، ولكن قبلت وتحدت ونشرت الحقيقة وكما قالت ((ليكن ما يكن)) هذه هي الإرادة القوية لـ(غادة السمان) وإيمانها بقيمة الرسالة التي حملت على أكتافها عبء الرسالة ونزلت الساحة الأدبية والإعلام العربي لتنشر كل ما تحس بها وكل ما تريد قولها للإنسان العربي دون تشويه ودون تسويف لتساهم في تعزيز ثقة بنفسه في مواجه كل شيء، هذه هي الرسالة الصحيحة لمن حمل القلم ونزل الساحة الأدبية وعلى كل أديب و أديبة عربية إن تتيقن ذلك وتضعه إمام مرآة عينها وضميرها، وعلينا إن نقر ونعترف بغض النظر عن مواقفنا، لان كل إنسان له موقف، لان الاختلاف أمر سليم في المجتمع، فان ما أقدمت عليه (غادة السمان) في نشر رسائل الحب التي بعثها كل من الأديب المبدع (غسان كنفاني) والشاعر الكبير (أنسي الحاج) يعتبر أمر نشرها ريادة في موضوع أدب المراسلات وموقف يليق بمكانة (غادة السمان)، لأننا نكتشف ونحن نطلع على تلك الرسائل بهاء الشمس ونور الكلمات الصادقة في الجانب الأخر من شخصية (غسان كنفاني) والشاعر (انسي الحاج) كانت إلى الأمس القريب غائبة عن القارئ العربي ولكن (غادة السمان) كشفت النور عنها وإضاءتها على الورق، ورغم إن عدد الرسائل التي نشرتها (غادة السمان)لـ(غسان كنفاني) هي رسائل محدودة بكون كل أرشيفها في بيروت احترق اثر اشتعال النار منزلها في بيروت إعقاب الحرب الأهلية ألبنانية عام 1976 وما نشر من الرسائل (غسان كنفاني) وهي مكتوبة بخط يده كانت (غادة السمان) محتفظة بها وموجودا معها خارج بيروت .
و(غسان كنفاني) روائي وقاص وصحفي فلسطيني معروف في الوسط الأدبي والسياسي فهو عضو المكتب السياسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تم اغتياله على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في 8 يوليو 1972 وذلك بنصب كمين عبر تفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت فاستشهد على الفور وهو في مقتبل العمر إذ لم يتجاوز عمره حين تم اغتياله عن36 عاما.
ومن هنا تأتي أهمية نشر رسائل (غسان كنفاني) المرسلة إلى (غادة السمان)، إما رسائل التي كتبتها إليه – لأنها تعترف بكتابتها، في وقت الذي تنفي بكتابة أية رسالة إلى الشاعر(أنسي الحاج)- لم تستطع حصولها أو العثور عليها رغم أنها نشرت خبر بكل من بحوزته رسائلها إلى (غسان كنفاني) ان يرسلها لها لنشرها او لينشرها، لأنها كما تؤكد بأنها ظلت بحوزة الشهيد(غسان كنفاني) وانه كان ينشرها هنا وهناك . فـ(غادة السمان) تشير بان ما جعلها تنشر رسائل (غسان) كونها وجدت فيها إبداعا أدبيا كان من الصعب إخفائها، لأنها من حق معجبين بأدب (غسان كنفاني) الاطلاع على رونق قلمه ومشاعره وأدبه ليطلع القارئ العربي الوجه الأخر من (غسان كنفاني) بعيدا دائرة الكفاح والنضال من اجل عدالة قضية شعبه الفلسطيني، فهو أولا وأخيرا إنسان عاشق يحلم بحبيبة كما يحلم بأرض وطنه المغتصب فلسطين، لان عنده لا يمكن فصل الأدب عن مشاعره وكيانه بالحب والعشق عن الكفاح والنضال، لان في اعتقاده كلاهما يسيران معا في خندق المواجه النضال والحب .. والكفاح والحلم، لتأتي رسائله كما وجدت (غادة السمان) بان نشرها يأتي برهان لهذه الجدلية في تسخير الأدب لصالح الكفاح والنضال وهذا ما برهن قلمه ليستشهد على يد أعدائه مغتصبي ارض فلسطين الذين انهزموا أمام قلبه العاشق وقلمه، فتقول(غادة السمان ) بهذا الصدد :
((..ولعلي كنت حنثت بعهدي لغسان على نشر تلك الرسائل، لو لم أجد فيها وثيقة أدبية وسيرة ذاتية نادرة الصدق لمبدع عربي، مع الوطن المستحيل والحب المستحيل، وثيقة ثرية بأدب الاعتراف الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربية، والرسائل بهذا المعنى تسد نقصاً سبقتنا الأمم الأخرى إلى العطاء في مجاله، وتؤسس لنوعٍ جميل من الأدب ما زلنا نتهيب أمام بحاره، ومن أجدر من القلب العربي الثّري للخوض في لجته ..)).
وهنا ننشر نماذج من تلك الرسائل التي وردت في كتاب أصدرته (غادة السمان )عام 1992 تحت عنوان ((رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان )) وهي موثقة بصورة هذه الرسائل:
في ألمقدمة تقول (غادة السمان):
(( … محاولة إهداء
إلى الذين لم يولدوا بعد, هذه السطور التي أهداني إياها ذات يوم وطني مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة . اهديها بدوري إلى الذين قلوبهم ليست مضخات صدئة، والى الذين سيولدون بعد ان يموت إبطال هذه الرسائل .. ولكن سيظل يحزنهم مثلي ان روبرت ماكسويل دفن في القدس في هذا الزمان الردى بدلا من إن يدفن غسان كنفاني في يافا ….))
غادة السمان
((..رسالة غير مؤرخة- لا أذكر التاريخ…! لعلها أول رسالة سطرها لي – غادة:
أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش.. وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين…ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.
الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه ، وبدت لي تعاساتي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف…
الآن أحسها ، هذه الكلمة التي وسخوها ، كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري.
إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت.
أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك إلى شرائح متطاولة…
أحسها وأنا أتذكر أنني لم أنم أيضا ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أُجلد – أبكي بحرقة. بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي ، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء …وتساءلت: أكان نشيجاً هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟
لا.. أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرَفُ منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل جانب ، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها ، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي ، وبالصخرة التي كتب علي ّ أن أجرها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد …وأنا أعرف منك أيضاً بأنها حياتي أنا ، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا ، وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له ، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمر بها دون أن….
ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه ، بالصورة التي تشائين ، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة ، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء.
أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟ لست أدري.. ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحدا يستطيع احتماله ، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة ، واستعجالاً لا مبرر له، وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت…
إن قصتنا لا تكتب ، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل ، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم ، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون وكنت فخورا بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي ، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد .
وكان هذا فقط ما يعذبني …إنني أعرفك إنسانة رائعة ، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين…..كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس ، و لم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك .
لا يا غادة ….لم يكن إلا ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني ، مثل ذبابة أطبق عليها صدري ، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.
إن الشروق يذهلني ، رغم الستارة التي تحوله إلى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل – أمامي – مجرد شرائح….وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك ، لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي . ببساطة لأني أحبك. وأحبك كثيراً يا غادة، وسيُدَمرُ الكثير مني إن أفقدك، وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت عليها الريح .
أنا لا أريد منك شيئاً وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وزِعَت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها
أنا لا أريد منك شيئاً ، ولا أريد- بنفس المقدار- أبداً أبداً أن أفقدك.
إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني ، لقد بنينا أشياء كثيرة معا ً لا يمكن ، بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.
ولا أريد أن أفقد ( الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها…ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا . ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي …
ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..
غسان )).
((……………..غزة في 29/11/1966
غادة
كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها ، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين ، وأنا ، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر. إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل ، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟ ثم جئنا جميعاً إلى هنا : أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب ، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.
إنني معروف هنا ، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع ، أكثر بكثير . وهذا شيء، في العادة ، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس ، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني . طوال النهار والليل أستقبل الناس ، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه ، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب ، ولكن أيضا بذل من طراز صاعق………
ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي.. أنا لم أفقد صوابي بك بعد ، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى وأنبل وأجمل. لقد كنتِ في بدني طوال الوقت ، في شفتي، في عيني وفي رأسي. كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود…إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك.. وحين أرى منظراً أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني ، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي . أحياناً أسمعك تضحكين، وأحياناً أسمعك ترفضين رأيي وأحياناً تسبقينني إلى التعليق ، وأنظر إلى عيون الواقفين أمامي لأرى إن كانوا قد لمحوك معي، أتعاون معك على مواجهة كل شيء وأضع معك نصل الصدق الجارح على رقابهم. إنني أحبك أيتها الشقية كما لم أعرف الحب في حياتي، ولست أذكر في حياتي سعادة توازي تلك التي غسلتني من غبار وصدأ ثلاثين سنة ليلة تركت بيروت إلى هنا .
أرجوك.. دعيني معك. دعيني أراك .إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً ولكنني أعرف بأنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ كفي عن تعذيبي فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا فقد أذلني الهروب بما فيه الكفاية ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد. سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفيّ، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك ، وسأفقد بعدك ، كل شيء.
(إنني لا أستطيع أن أكرهك ولذلك فأنا أطلب حبك) ..أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي..فأنا، أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك وأعرف أنني إذا فقدتك فقدت أثمن ما لديّ ، وإلى الأبد..
سأكتب لك وأنا أعرف أنني قد أصل قبل رسالتي القادمة، فسأغادر القاهرة يوم 5 كانون وتأكدي : لا شيء يشوقني غيرك.
غسان …….)) .
((……………….رسالة غبر مؤرخة ، ولكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت في القاهرة أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)وقبل 29/11/1966 بيوم أو اثنين.
عزيزتي غادة..
مرهق إلى أقصى حد : ولكنك أمامي ، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة عيناك وشفتاك وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق ، حين يبدأ الألم في التراجع . سعادة الألم التي لا نظير لها . أفتقدك يا جهنم ، يا سماء، يا بحر. أفتقدك إلى حد الجنون . إلى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك .
ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار ….إنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية. الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك: فحين أغلقت الباب وتركتني أمضي عرفت ، عرفت كثيراً أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي ، تتشبث بي مثلما أنا بك ، وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة.
لن أنسى. كلا. فأنا ببساطة أقول لك: لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً . لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساك، لا…إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معك ويبدو لي أنني سأنتهي معك.
سأكتب لك أطول وأكثر…لقد أجلوا المؤتمر إلى 30 ولكنهم سيسفروننا غداً ، الأحد إلى غزة كي نشترك بمآتم التقسيم. يا للهول. ويبدو أنه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع . وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل…إلا إذا فررت من المؤتمر وأتيتك عدْواً..
حين قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه، بل أجبرني على التعاقد معه لأكتب له مواضيع مماثلة ……قال لي وهو يهز رأسه: أخيراً أيها العفريت وجدت من يُسكت شراستك. سينشر الموضوع في (المصور) التي علمت أنها توزع في كل البلاد العربية أعداداً هائلة وتحوز على ثقة الناس واحترامهم …ولكنني بالطبع لا أعرف متى..
وزعت كتبك. تحدثت عنك كثيراً .فكرت بك.بك وحدك.. وأنت لا تصدقين.. وأنت حين (أعذب نفسي في المساء) موجودة في الماي فير مع الناس والهواتف والضحك..
حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو .القاهرة فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين..
آه.. يا عزيزة
غسان كنفاني …)).
((…………… 20/1/1967
صباح الخير..
ماذا تريدين أن أقول لك ؟ الآن وصلت إلى المكتب ، الساعة الثانية ظهراً ، لم أنم أبداً حتى مثل هذه الساعة إلا أمس ودخلت مثلما أدخل كل صباح : أسترق النظر إلى أكوام الرسائل والجرائد والطرود على الطاولة كأنني لا أريد أن تلحظ الأشياء لهفتي وخيبتي. اليوم فقط كنت متيقناً أنني لن أجد رسالة منك ، طوال الأيام ال17 الماضية كنت أنقب في كوم البريد مرة في الصباح ومرة في المساء . اليوم فقط نفضت يدي من الأمر كله، ولكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحها . لقد كانت رسالتك فوق الكوم كله، وقالت لي: صباح الخير ! أقول لك دمعتُ
منذ سافرتِ سافرت آني ، وإلى الآن ما تزال في دمشق وأنا وحدي سعيد أحياناً ، غريب ٌ أحياناً وأكتب دائماً كل شيء إلا ما له قيمة …حين كنتِ على المطار كنت أعرف أن شيئاً رهيباً سيحدث بعد ساعات: غيابك وتركي للمحرر، ولكنني لم أقل لك. كنتِ سعيدة ومستثارة بصورة لا مثيل لها وحين تركتك ذهبتُ إلى البيت وقلت للمحرر أن كل شيء قد انتهى.
إنني أقول لك كل شيء لأنني أفتقدك. لأنني أكثر من ذلك ( تعبت من الوقوف) بدونك.. ورغم ذلك فقد كان يخيل إلي ذات يوم إنك ستكونين بعيدة حقاً حين تسافرين.
ولقد آلمتني رسالتك. ضننت عليّ بكلمة حارة واحدة واستطعت أن تظلي أسبوعاً أو أكثر دون أن أخطر على بالك، يا للخيبة! ورغم ذلك فها أنا أكتب لك: مع عاطف شربنا نخبك تلك الليلة في الماي فير وتحدثنا عنك وأكلنا التسقية بصمت فيما كان صاحب المطعم ينظر إلينا نظرته إلى شخصين أضاعا شيئاً.
متى سترجعين؟ متى ستكتبين لي حقاً؟ متى ستشعرين أنني أستحقك؟ إنني انتظرت ، وأنتظر ، وأظل أقول لك : خذيني تحت عينيك..
غسان ….)) .
رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان
اما من الرسائل التي كتبها الشاعر (أنسي الحاج) إلى (غادة السمان) عام 1963 فقد جمعتها ونشرتها في كتاب تحت عنوان (( رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان)) فالكتاب تضمن بعد محدود من الرسائل كتبها في الفترة المحصورة مابين نهاية عام 1963 وعام 1964 ومن الملاحظ عند قراءة الرسائل كونها اقرب إلى نصوص أدبية وقصائد، وكأنه تعمد في كتابة رسائله هذا إلى (غادة السمان) بهذا الأسلوب لغاية في نفس يعقوب…! فنصوص الرسائل كتبت بأسلوب شعري على غرار قصائد (أنسي الحاج) ونستشف من رسائله بأنه أعلن حبه لها علنا وهنا يطرح السؤال نفسه هل كان هذا الحب من طرف واحد ……؟
فـ(غادة السمان)المعروف بجرأتها وصراحتها ليس فحسب في كتاباتها بل حتى في حياتها الشخصية بانها ( لم تعلن حبها له ) رغم أنها كانت تلتقي به كل يوم فهي تؤكد بأنها لم ترد على رسائله في المطلق، فهي قد كتبت في مقدمتها المختصرة للرسائل (أنسي الحاج) التي نشرتها تقول:
((..لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نلتقي كل يوم تقريباً في مقهى الهورس شو – الحمرا أو مقهى الدولتشي فيتا والديبلومات – الروشة أو مقهى الأنكل سام …))
كما وإنها أشارت في هذه المقدمة على أنها عجزت عن تمزيق رسائل (أنسي الحاج) كونها وجدت فيها نصوص أدبية رائعة فنشرتها غير آبهة بما سيثار من لغط حولها ، وقد وفقت بفعلها بنشر الرسائل، لان المهتمين بأدب وقصائد (أنسي الحاج) اكتشفوا من خلال رسائله التي نشرتها (غادة السمان) زوايا جديدة من أسلوب تعبيره النثري وعن جوانب من حياته التي كان له تأثيرا كبيرا على قصائده، فوجدوا من نصوص هذه الرسائل نصوصاً جميله لا تقل بتاتا جمالا عن قصائده. فـ(أنسي الحاج) بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته المشبعة بالتوتر والتردد والقلق وروعة المفردة الشعرية.
وهنا ما يجب توضيحه بان نجم (أنسي الحاج) في هذه المرحلة قد ظهر في الساحة الأدبية وتحديدا في بيروت اثر نشره العديد من المقلات وقصائد في جريد (النهار) ألبنانيه، كما كان يكتب قصائده في مجلة (شعر) وكان آنذاك قد أصدر ديوانه الشعري المعنون بـ(لن) والديوان (الرأس المقطوع).
وهنا نقدم بعض من نصوص رسائل الشاعر(أنسي الحاج) إلى (غادة السمان):
ومن رسائله نختار
((……. الوضوح الذي أنا بحاجة إليه، لم أقدمه. كنتُ أعرف أنني سأفشل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرب. أردت، لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حد بعيد جداً. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئاً واضحاً. وقبل كل شيء، هذا: إنني بحاجة إليك. (إذا ضحكت الآن بينك وبين نفسك سخرية من هذه العبارة، فسيكون معناه أنك لا تحترمين مأساتي. ولن أغتفر لك ذلك أبداً). تتذكرين دون ريب أنك ضحكت مرة بمرارة، وانتقام دفين، وشك وسخرية، حيث قلت لك إنني بحاجة إليك. وربما فكرت: كيف يعرف أنه بحاجة إلي، أنا بالذات، شخص لا يعرف عني شيئاً، ولا أعرف عنه شيئاً، ولا يعرف إذا كنت، أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحد بحاجة إلي… وربما فكرت (وأنا لو كنتُ مكانك لجاءتني الأفكار نفسها) أيضاً، إنني، في تسرعي للقبض على الفرصة السانحة (السانحة في الظاهر) نسيتُ حتى أن أكون لبقاً، أو أن أذهب بمراوغتي مذهباً ذكياً على الأقل، فلا أصوغ حاجتي بتلك العبارات المسلوقة، المبتذلة، المبريّة حتى الاهتراء على بلاط النفاق البشري والتعاملات العابرة والزَيف والخبث والتدجيل. وربما، أخيراً، (ولو كنت مكانكِ لفعلت) وربما فكّتِ: أ إلى هذه الدرجة يظنني وطيئة المستوى، فلا يكلف نفسه، معي، مشقّة الارتفاع بالنفاق إلى حد أكثر جاذبية، على الأقل…؟
ولا أستبعد أن تكون هذه الأفكار، وغيرها أمرّ، قد راودتك في مناسبات أخرى. فقد كانت معظم مواقفي الظاهرية معك مواقف ناقصة تحمل كثيراً على الشك وأحياناً على الاستخفاف والألم والرغبة في تأكيد الذات بنوع من القسوة حتى لا أقول الظلم لكن، يا عزيزتي (يا لهذه اللفظة السخيفة!) دعيني أوضح مرة أخرى، وأرجو أن لا تضجري.
قبل أن أتصل بك للمرة الأولى كنت أعلم، لكن ربما أقل من الآن، أنني بحاجة إلى إنسان. بحاجة إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه. وفكرت طويلاً. ورفضتُ، شيئاً بعد شيء، كل الحلول التي مرّت بفكري. ورفضت كل الأشخاص، ممّن أعرفهم وممّن لا أعرفهم، الذين استعرضتهم. وعندما اتصلت بك للمرة الأولى كنتِ ما تزالين مجرد إمكانية غامضة، لكن قوية. وظلّت هذه الإمكانية غامضة عندما قابلتك للمرة الأولى. وظلّت غامضة أيضاً عندما قابلتك في المرة الثانية، لكنها ازدادت قوة. وفي ما بعد، أصبحتِ أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحّة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه. أصبحتِ أنتِ هذا الإنسان لا لأنني أنا صنعتُه منكِ، فحسب، بل لأنك كنتِ أهلاً لذلك. كنتِ أهلاً لذلك رغم أنّك ما تزالين، بالنسبة لي، منغلقة على نفسك ترفضين الخروج إليّ بالعري الذي أشتهيه وأريد أن أتحمّل وزره.
هل حدث هذا التجسيد بسرعة….؟
أتتّهمينه بأنه مسلوق سلقاً …؟
بأنه من تصوير خيال مريض…؟
بأنه إسقاط نفسي…؟
بأنه انتهازي ووصولي..؟
لا يا غادة.. السرعة التي تتصورينها ليست في الحقيقة، سرعة. ربما كانت كذلك بالنسبة لمتفرّج من الخارج لا يعرف شيئاً عن الدوافع البعيدة والمخفية واللامباشرة. أؤكد لكِ أن العملية تمّت، على العكس، ببطء. نعم ببطء. وأعتقد أنني بذلتُ حتى الآن جهوداً جبارة لكي أستطيع الصمود أمام عدم تصديقك وأمام تريّثك وأمام انغلاقك وأمام رفضك وصمتك وابتساماتك التي تظنين أنني لا أدرك مغزاها العميق. بذلتُ جهوداً عنيفة لكي لا أنهار ولكي أحتفظ أمامك بشيء من الاستمرار والقناعة. ولو نفذتِ إلى أعماقي لهالك المنظر: منظر القتل والتقتيل والموت.
بحاجة، إذن، إليكِ.
لا، لستِ مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة لي. عندما أقول أنا بحاجة عظيمة إليكِ فمعناه أنني، كذلك، بحاجة إلى من يكون بحاجة، عظيمة، وربما أعظم بكثير من حاجتي، إليّ… إن لجوئي إليكِ ليس لجوء إنسان إلى شيء، بل لجوء إنسان إلى إنسان آخر. إنه رغبة في الارتباط. وإذا كنتُ أريد أن أتخطى وضعي فيكِ فإنني أريد، كذلك، أن تتخطّي وضعكِ فيّ. ليس مثلي من يدرك معنى الكلمات يا غادة: معناها العميق، الحقيقي، الثقيل، المُلزِم، والمحرِّر أيضاً. ليس مثلي من يدرك معنى صرخة: أحبك.
لقد ذكرتُ لكِ، فوق، كلمة جريمة. لماذا؟ لا أعرف. أريدك أن تساعديني على تحديد هذا الشعور، وعلى معرفة أمور كثيرة غيره. أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ.
سأتوقف الآن عن الحكي. الساعة الرابعة والربع صباحاً. لا أعرف إذا كان الخط سيكون سيئاً اليوم أيضاً وأُخطئك. الويل لي إذا لم أستطع أن أراك اليوم. هل تنامين؟ هل تحلمين بشيء جميل؟ الويل لي إذا لم أرك. ماذا سأفعل الآن؟ أنام؟ مستحيل. بلى. يجب. قليل من الشجاعة أيها الجبان. ))
وهذه الرسالة موخة بتاريخ 2-12- 1963 .
ومن رسائله نختار أيضا
((………….
غادة
أظن أنني كنتُ أحس بأنك منذورة لي. وكلما كنت أطالع خبراً عنك كان يتولاني شعور واضح بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم. إنني أذكرك بلهجتي عندما كلمتك للمرة الأولى بالهاتف وكنتِ في دمشق. ألم تشعري بنبرات صوتي المليئة باللهفة؟ أم أنك نسبتها إلى المجاملة، أو إلى عادة كل رجل في التودد؟ على كل حال لم يكن هناك لديك أي سبب معقول لتفكري في أي شيء.
وحين رأيتُك للمرة الأولى ألم تلاحظي أنني لم أكن أقابل امرأة غريبة لا أعرفها وإنما امرأة كأنني عرفتها من عهد بعيد؟ ربما لم تلاحظي. أو لعلك لاحظتِ ولم تفكري في شيء.
(أفكر الآن أنك قد تكونين مريضة اليوم فلا أراك. أمس أيضاً لم أرك. أفكر ماذا سأفعل. هل ستكونين مريضة اليوم؟ هناك شيء رهيب يتآمر علي في الخفاء. إنني مصاب بسرطان الزمن والخيبة).
أين كنت؟ كفى… يخيّل إلي أنني سأخسر معركتي الأخيرة. ومهما قلتُ فلك أقول شيئاً مما أريد. اخرس إذن. اخرس أيها المسكين. لقد أُعطيتَ أن تتعلم دروساً كثيرة لكنك لم تتعلم شيئاً. إلى أين ما تزال تمشي؟ إلى أين ما تزال تأمل؟ إنك تنتفض كالديك المذبوح. هذا هو كل شيء. انزف بقية دمك وأنتهِ.
أحقاً؟ رغم كل شيء ما تزال عندي القوة التي تمكّنني من المطالبة بأملي الأخير. إنني أرفض أن أستسلم قبل الدخول في هذا القَدَر. أريد أن أعرف للمرة الأخيرة، وبكل قواي، مَنْ مِن الاثنين أشدّ ظلماً وقسوة ولا معقولية: أنا أم العالم؟
أريد أن أنتزع الجواب، أن أنتزع الجواب بأسناني. لن أذهب قبل أن أعرف.
ليتك تعلمين كم أنتِ أساسية وخطيرة وحساسة. ليتك تعلمين كم أنتِ حيوية ولا غنى عنك. ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء في صيرورتي. ليتك تعلمين كم أنتِ مسؤولة الآن؟
لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرة عليك.
هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبي.
وأنتِ؟ هل أظل أتحدّث إليك دون حوار؟
لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحد من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دفعة واحدة من الحب.
يمكن؟
فليخلُ. فلينتهِ الحب من الأرض وليذهب الناس إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحب وحدي الموت والأشباح. وسأحب النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم القبر. وسأحبك. ولن أقول شيئاً غير هذا.))
وهذه الرسالة موقعة بتاريخ 4-12-1963 .
وأيضا نختار هذه الرسالة
((……..
غادة..
مر النهار؟ إنما العبرة في الليل. لكن الحقيقة أنني طماع، فلو كان الليل قد مر لكنتُ قلت: مر الليل؟ إنما العبرة في النهار. وإذا كان من حقيقة أخرى (والحقائق تُخترع لتغذية الحديث) فهي أن لا ليل هناك ولا نهار وإنما وقت للمجابهة ووقت للهرب. والمرتاحون هم الذين نظموا هذه المناصفة وجعلوا التعاقب مرتباً. بالنسبة لي، مثلاً، اختلط وقت المجابهة بوقت الهرب فصرتُ أجابه وأهرب في وقت واحد وتفرّع هذا الوقت نفسه إلى أجزاء كل جزء منها يتنازعه الهرب والمجابهة إلخ… وليس صحيحاً أنني أخاف الليل أكثر من النهار وإنما أنا أخاف أن أكون وحدي، معزولاً عما يهمني، عما أهجس به وأحبه ولا أصدقه، مقطوعاً عن العالم الذي أتهمه بأنه يخدعني دائماً وخصوصاً في غيابي. فكم أشتهي أن أُباغت العالم وأفضحه وهو يخدعني، هذا الذي يدعي الإخلاص لي، ويدعي العذاب من أجلي، ويدعي العزلة والوحشة والوفاء!
أهلاً بك يا غادة. الساعة الآن شيء ما بعد نصف الليل، لعلك نائمة.
تُرى ماذا يشغل فكرك الآخر؟ أقصد فكرك المخفي وراء الوجه الآخر للقمر؟ كم أحب أن أعرف ماذا دار وماذا يدور في رأسك! وكم تخطئين في وصف هذه الرغبة بالفضول! لأنها ليست أكثر من شهوة عارمة عظيمة إلى تصفيتك من غربتكِ وضمك إلى قلبي وأفكاري وحياتي. أريد، ولا شيء أكثر الآن، أن أتّحد بك.
هل أمضيتِ نهاراً حلواً أمس؟ وسهرة السبت؟ والدروس، كيف الدروس؟ والكتابة؟ ماذا كتبتِ هذه الأيام؟ لم تُقرئيني شيئاً بعد. كأنك تعتبرين ذلك مُستهلكاً سلفاً، أو سراً بينك وبين نفسك وحدها، أو فضيحة للكتمان.
الكتمان! هذه هي الكلمة. أريد أن أمزق الكتمان عنكِ. لماذا يخيّل إلي أنك تخافين مني؟ أقصد تخافين مني خوف عَدَم الثقة لا خوف الجبن. لماذا؟ هل تعتقدين حقاً أنني شرير ومغامر وممثل أو طالب قصة عابرة؟
هل ضايقك هذا الكلام؟ يجب أن لا تتضايقي. لا أعرف شخصاً سواكِ أتحدث إليه. صرتِ كل شيء. أعرفُكِ وتعرفينني منذ البداية. أنتِ أُختي وحبيبتي. بلى، بلى. محوتُ عن شفتيكِ جلاد الابتسامة الهازئة ونفختُ فيكِ إيماني بكِ. ولا أريد أن أعترف بشيء آخر عدا أنكِ هنا، وأنني هنا، وأننا سنبقى معاً، وأنك ستبكين وتضحكين من قلبك وقلبي، وأن مجهولك أضاء في خلايا كياني وانتشر كماء العشق في أحلامي وبدّد جسورك وجسوري وصرنا نهراً واحداً. ولن أدعكِ تتراجعين. ولن أدعك تتركينني أتراجع. لن أدعك تقترفين الجريمة…
… ثم، لماذا يخيّل إلي أنني، في كل ما أقوله لك، أصرخ في واد…! وأن حواري معك حوار طرشان…! وأنك لا تقدرين أهميتك بالنسبة لي…!
هل صحيح هذا….؟
يا إلهي….! ماذا أفعل……!
………….)).
ومن رسائله أيضا
((……………..
غادة ..
صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كله تحفز إليك. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني. هل أكمل يا غادة؟ هل أكمل محاولة وصف ما بي؟ أم أنك لا تبالين؟ أم أنك ستقولين لي أنك معتادة على هذا الهذيان؟ وأنه هذيان مؤقت؟ وأن الصحو الذي يعقبه يفضحه؟ أم أنك ستظلين تتسلحين بالهدوء والحكمة والصبر والتصبر والانتظار والدرس؟ ألا يكفيك؟ ألا ترين؟ ألا ترين؟ هل صُنعَت عيناك الرائعتان لتكونا رائعتين فقط لمن ينظر إليهما؟
لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.
أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً…
ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني… ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر – إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي……..)) .
وأخيرا وليس الأخير، فان أرشيف (غادة السمان) المودع في مصارف سويسرا فيه الكثير وربما في قادم الأيام سيتم نشرها كما وعدت بنشرها في الوقت المناسب لأنها لا تكترث بإخفائها ولن تخفيها لان مبدئها كما قالت (سأنشر وليكن ما يكن) وقد أوصت بنشر ملفها اذ ما غادرت من عالمنا – بعد عمر الطويل – لان الساحة الأدبية بحاجة إلى (غادة السمان) الإنسانة والأديبة صاحبة القلم الجريء والصارخ بوجه الأخر .
نشر في الموقع بتاريخ : الاثنين 3 رمضان 1438هـ الموافق لـ : 2017-05-29