“محمود اسماعيل”.. الأب الروحي لموسيقيي وعازفي “دير الزور”
اسماعيل نجم
“يمكن القول عنه إنه صاغ نفسه بنفسه”. هكذا يتحدث الملحن “يحيى عبد الجبار” عن “محمود إسماعيل” أول موسيقيي دير الزور والأب الروحي لجميع ملحنيها وعازفيها، بدأت علاقته بالناي – وهي الآلة الوحيدة المنتشرة في المدينة آنذاك- لوحده دون معلم حتى أتقن العزف به، وكله أمل في الحصول على آلة عود يشبع به هوايته الموسيقية دون جدوى، فالمدينة الصغيرة وقتذاك كانت تفتقر إلى محال مختصة ببيع الآلات الموسيقية، ومع ذلك لم ييأس، إذا استطاعت والدته استعارة عود مكسور استغنى عنه أحد الجيران، ففرح به، ودفعه إلى أحد النجارين الذي رممه وأصلحه وأعاده له، غير أن فرحته لم تتم فهو لا يعرف كيف تركب الأوتار عليه، ولا يعرف كيف تشد وتضبط، وكان عليه أن ينتظر معجزة تحقق له ما يصبو إليه، وذات يوم حل ضيفاً على أخيه جمال، الهاوي مثله للموسيقا، صديقه ياسين سكرية، الذي كان على اطلاع يسير، فعمد إلى تركيب الأوتار وضبطها لتستقيم عزفاً، وعزف بعض الجمل الموسيقية التي يجيدها، ومنها لحن أغنية ” على دلعونة “، كان محمود هو البداية، هو الشخص الأول في عائلة تخصص معظم أفرادها في الموسيقا، وتحولوا إلى ظاهرة في المدينة.
يشكل “آل اسماعيل” ظاهرة موسيقية في المنطقة الشرقية كلها، هم لم يشكلوا فرقة تجمعهم، ولكنهم جميعا اهتموا بالتدريس الموسيقي دون سواه وشكلوا فرقا خاصة بهم من طلابهم وطالباتهم، أما “محمود” رائد العائلة فكان يدرس البيانو، و”عبد المجيد” يدرس الكمان، و”عبد الحميد” يدرس الغيتار و”سحر” تدرس العود، وعلى أيدي هؤلاء تخرج معظم العازفين الجدد من مدينة دير الزور.
يتميز “آل الأسطة اسماعيل” بأنهم فنانون بالفطرة. يقول “يحيى عبد الجبار”: ” قاموا بجمع التراث الفراتي القديم وتوثيقه بشكل علمي لينشروه بعدها إلى العازفين الذين تصرفوا به بما يتناسب مع العصر وتطورات الحياة في البيئة الفراتية”.
وقد أبدع “محمود” في تطوير الأغاني الفراتية التراثية ليصل بها إلى أعمال اوبراليه، وكانت ثمرة أعمال العائلة الفرقة التي أسستها “سحر” من طلابها وطالباتها التي ركزت فيها على إيصال الفلكلور الفراتي بشكل أوبرالي أخاذ.
ويروي “صميم الشريف” في كتابه “الموسيقا في سورية” تفاصيل الليلة الأولى التي قضاها محمود اسماعيل برفقة آلة العود التي أعاد إحياءها على لسان محمود نفسه ونتائج هذه الليلة: “لم أنم ليلتي تلك لدهشتي من آلة العود التي زادت من ظمأي القاتل للموسيقا، فقمت في الليلة نفسها بمحاولات دؤوبة بالعزف دون كلل من وراء تذكري لحركة أنامل الصديق سكرية حتى استطعت عزف الحان بعض الأغاني لا سيما أغنية “حبيب العمر” لفريد الأطرش، وتطور الأمر بعد ذلك من وراء مثابرتي إلى أن توصلت إلى تأليف بعض المقطوعات الموسيقية”.
يعتبر “محمود اسماعيل” رائد العائلة علماً حقيقياً في محافظة “دير الزور” بدأ عمله منذ أن تخرج في بداية الستينيات بترجمة هذا العلم الموسيقي إلى واقع بعد أن غادر وطنه الأم للعمل محاولا مزج موسيقى الفرات بماء النيل فخرج بعلم رائع قل من يمتلكه، بدأ بتشكيل الفرق الموسيقية وكانت تتألف من بعض الفنانيين، و أمتع دير الزور بالمقطوعات الموسيقية وعزف الأغاني “لعبد الوهاب، وعبد الحليم، وأم كلثوم”، أما في مجال التلحين فقد أبدع في تطوير الأغاني الفراتية التراثية واللوحات الشعبية والشعر الفصيح الفراتي.
كانت أول فرقة أسسها عام ١٩٥٥، بعد أن بلغ ما بلغ في العزف، فرقة موسيقية صغيرة من بعض الوجوه الفنية في دير الزور هم: الأستاذ “صالح النجار” بالناي، والصحفي “فريد المانع” بالدف والمرحوم “يوسف حميد” بالكمان، والمرحوم “جلال علي” بآلة إيقاعية مبتكرة من البيئة قوامها الملاعق بدلاً عن ” الكاستنييت “، وهو بالذات بالعود.
الفرقة دأبت على تقديم حفلاتها التي اعتبرت أكثر من ناجحة لافتقار المدينة إلى فرق موسيقية، والى من يعنى بالموسيقا تعليماً وعزفا وغناء، وكانت جل المقطوعات التي قدمتها للمشاهير إضافة لمؤلفاته الموسيقية، كانت الموسيقا ودراسة الموسيقا هي هاجس “محمود إسماعيل” الوحيد ولم تتح له الفرصة لذلك، إلا بعد نيله الشهادة الثانوية وانتسابه لكلية الحقوق في جامعة دمشق، حيث أقنع أسرته بالدراسة في مصر، مصمماً على دراسة الموسيقا فيها.. وفي عام ١٩٥٧ سافر إلى القاهرة أملاً في دراسة الموسيقا في معهد تابع للدولة، ولكنه لم يعثر على ضالته فانتسب إلى كلية الزراعة، وقبل بدء العام الدراسي اخبره الملحق الثقافي السوري في القاهرة الأستاذ ” يوسف شلبي الشام ” بافتتاح المعهد العالي، فقدم أوراقه ومثل أمام اللجنة الفاحصة المكونة من عميد المعهد الدكتور “عبد الرحمن سامي”، والأستاذ سعيد عزت، والملحن الراحل المعروف كمال الطويل، فنجح وجاء ترتيبه الأول بين المتقدمين، ومنح اثر فوزه راتباً شهرياً قدره عشرة جنيهات بقرار من الرئيس “جمال عبد الناصر” يشمل كل طالب غير مصري يحرز المرتبة الأولى في دراسته سنوياً، إضافة لراتب مماثل من نادي الطلبة الشرقيين. وظل “محمود إسماعيل” يتقاضى الراتبين مدة خمس سنوات، وكان من زملائه السوريين الراحل “تيسير عبد الحق” وشقيقته الراحلة “وجيهة عبد الحق”.
وعقب تخرجه تقرر إيفاده إلى ايطاليا لمتابعة دراسته، غير أن الوحدة بين مصر وسورية التي انفصمت عراها بالانفصال عام ١٩٦١ ، وقف حائلا بينه وبين الإيفاد إلا ذا وافق بالعودة إلى مصر بعد التخرج، فرفض وعاد إلى وطنه ليبدأ نشاطه الموسيقي في مدينة حلب التي عين فيها مدرساً للموسيقا، ونزولاً عند رغبة محافظ دير الزور في ذاك الوقت “مصطفى النابلسي” بضرورة العودة إلى دير الزور كي تستفيد منه مدينته، رضي بذلك شرط أن تزود المدينة بالآلات الموسيقية التي يحتاجها العمل الموسيقي، ولكن طلباته لم ينفذ منها شيء إلا في الحدود الدنيا، ومع ذلك استطاع تحويل ثانويات دير الزور إلى خلية نحل، وتمكن بالمسابقات والمهرجانات الموسيقية التي شارك فيها على مستوى القطر الفوز بجوائز عدة انتدبته وزارة التربية عام ١٩٧٤ ، للتدريس في مدرسة حطين السورية في دولة الكويت، وهناك أتيح له بالإمكانات الواسعة التي وجدها القيام بأنشطة متعددة، من أهمها الحفل الفني في جامعة الكويت الذي استحوذ على الإعجاب، وشارك في المسابقة التي أعلنتها دولة الكويت بعد استقلالها لتلحين النشيد الوطني، التي شارك فيها موسيقيون متميزون من مختلف أرجاء الوطن العربي، ففاز بالجائزة الأولى واعتمد النشيد الذي لحنه ليصير النشيد الرسمي للدولة.
أثناء تواجده في الكويت عهدت اليه العراق بتنفيذ بعض أعماله الموسيقية والكورالية بمصاحبة فرقة الإنشاد العراقية والأوركسترا الوطنية العراقية، فسجلها بنجاح كبير، واثر ذلك عرض عليه البقاء في العراق والعمل مدرباً لفرقة الإنشاد مع الأوركسترا الوطنية، ولكنه رفض، وآثر العودة إلى سورية عام ١٩٧٧ بعد أن انتهت مدة إعارته لدولة الكويت. وفي سورية تابع نشاطه في الفعاليات الموسيقية، واستطاع في المهرجان المركزي الأول للأغنية السياسية عام ١٩٨٨ ، الفوز بالمركز الأول. وقد انبرى السيدان “غسان زوين” و”عبد الرحمن اللاذقاني” في الندوة التقييمية التي أعقبت المهرجان إلى القول حرفياً: “ليس من الإنصاف أن نشترك في مهرجان يشارك فيه محمود إسماعيل المختص علمياً بالموسيقا، لذا نطالب المسؤولين، إقامة دورات تدريبية للغناء الكورالي الموزع على أن يقوم “محمود إسماعيل” بالتدريب والإشراف”.
وفعلاً قام “محمود اسماعيل” بالتدريب والإشراف على خمس دورات للغناء الكورالي، كان من ثماره انتشار الغناء الكورالي الموزع في أغلب محافظات القطر، وظهور عدد من المدربين على هذا النوع من الغناء من أبرزهم: “مشهور طافش من حلب، ومي زروف من محردة، وسعيد حرب من السويداء”.
انشغل كل من “عبد الحميد” و”عبد المجيد” بالتدريس في دير الزور على آلتي البانو والكمان في المدرسة التخصصية للفنون والمهارات في دير الزور والتي يتم إلحاق الطلبة ذوي المواهب بها من كافة المراحل العمرية الابتدائية والإعدادية والثانوية، أما الجيل الثاني من العائلة مثل “ماهر اسماعيل” فقد اهتم بالتلحين، وانضم ماهر إلى فرقة الفرات كعازف للأورغ وقدم خلال وجوده في الفرقة ألحانا كثيرة مستوحاة من التراث الفراتي، بينما التفتت “سحر اسماعيل” إلى الأطفال، فكانت مؤسسة أول فرقة موسيقية للأطفال في المنطقة الشرقية، كما كانت أول فتاة في هذه المنطقة تعزف العود على خشبة المسرح، تعزف “سحر” على أكثر من آلة موسيقية مثل البيانو والأورغ والأكورديون وتخصصها الأساسي هو العود، وتركز في تعليمها للأطفال على النوطة والصولفيج الإيقاعي والغنائي.
توفي الموسيقار محمود إسماعيل عن عمر ناهز 74 عاماً، إثر نوبة قلبية في دير الزور، مساء يوم الجمعة المنصرم 19 آذار 2010.