شمعون” تعميق الصلة بين الروح والجسد
الخميس 06 تشرين الأول 2011
لوحات “جورج شمعون” تناغم بين الكلمات والتاريخ تقدّم إبداعاً يبدو للوهلة الأولى قصائد يجب أن نقرأها، لكن حينما تقترب ترى أنّ اللوحة تقرؤك وتشي بمكنوناتك الدفينة التي ربّما تكون قد نسيتها.
حديثٌ مفعم بالقصيدة في هذا اللقاء الذي أجريناه مع الفنان “جورج شمعون”:
* بدايةً كيف وجدت ردود الفعل عن آخر معرض لك؟.
** إنّ أي عمل لابدّ أن يعبّر عن هموم وتطلعات النفس الإنسانية في زمن ضيّق متحرك لا بدّ أن يترك أثراً في نفس المتلقي، كما أنّ صدق الإحساس وقدرة الفنان في إيصاله يعتبر ركناً أساسياً من مقومات العمل الناجح، والتميّز في الأداء يضفي ألقاً على السرد البصري الذي يسعى بارتقاء الذائقة لدى الآخر، وعدم اجترار الذات في كل المعارض بحجّة الخصوصية علامة جيّدة تعبّر عن المقدرة الدائمة في العطاءات الجديدة واللا محدودة، ونتيجةً لمراعاة كل هذه الأمور في معرضي الأخير الذي كان في “صالة اتحاد الفنانين التشكيليين” بحلب، جاءت ردود الأفعال ايجابية بامتياز وخاصةً أنّ الحضور كان نخبوياً.
* اعتمادك في الأغلب على الأساطير في لوحاتك، إلى أي حد يحمل مخزوناً فكرياً؟.
** يقول الدكتور”أحمد زياد محبك”: المبدع الجيد من يطرح من خلال عمله الإبداعي وعيه الثقافي، ولما كانت الأساطير تعبيراً عن طموح وهموم الإنسان كان لا بدّ من أن تعزز سيطرتها الإيحائية عبر تجسيد اللا مرئي بما هو مرئي والابتعاد عن التشبيه الواقعي وذلك بتحوير أشكال المرئيات وتشويهها والمبالغة في توصيف مفرداتها بنيّة رفع القدرة الإيحائية بتعميق الصلة ما بين عالمي الروح والجسد.
وأخذ الأسطورة وإسقاطها إلى عالم اليوم هو الاستدعاء الثقافي الذي نادى به الدكتور”محبك”، وهي الرؤيا التي يقدمها الفنان في عمله الإبداعي، فجلجامش ملك مدينة “أور” في مرحلة استبداده يمثل اليوم الهيمنة الغربية على العالم الذي لا حول ولا قوّة له، والبحث عن نبتة الخلود حلم وطموح الإنسان الذي يسعى للخلاص من هذه الهيمنة والعيش باستقرار وطمأنينة.
* كيف استطعت تهذيب مادة الحجر لإظهار تكوينات حساسة وبحاجة إلى رقّة أكثر؟
** حين تقف أمام تمثال “الشفقة” لمايكل أنجلو، تشعر بأنّك أمام فيض من الحنان والرقة ورهافة الحس في ملمس هذه المادة حتّى إنه يغيب عن ذهنك الرخام القاسي المستخدم، فالانطباع الذي يتشكل لديك ناتج عن دلالة الموضوع لا طبيعة المادة، وأنا حاولت أن أرسم الحجر بما يتناسب مع الموضوع الذي أقدّمه، فتارةً تراني أرسمه بمنتهى القسوة حين أريد أن أعبّر عن الصرخة وتارةً تجدني أرسمه بمنتهى الرقة حين أريد أن أعبّر عن موضوع يمثّل الأمومة أو الطفولة أو السلام.
* ما الخصوصية التي يتمتع بها الفنان “جورج شمعون”
في ما يقدمه من أعمال؟.
** مرّ الفن السومري بمرحلتين: في المرحلة الأولى كان نزوعاً تجريدياً مع ميل إلى تأكيد البساطة في الأداء وتجنّب المبالغة في البروز النافر في الجداريات، أمّا المرحلة الثانية فقد اتسمت بغنى المواضيع التي عالجتها وتسعى إلى التقرّب من الأسلوب الواقعي إلى حدٍ ما وعلى الأخص عند رسم الأشكال الحيوانية والمشاهد الطبيعية.
أمّا الفن الأكادي فقد أكّد الفنان الأكادي مقدرة عالية في التعبير وإحساساً عالياً بالنسب الذهبية بين الأجزاء مثل “رأس سركون”، في حين المرحلة البابلية وميلهم إلى استخدام الأجزاء المتداخلة لعدّة حيوانات في محاولة لتجسيد تخيلاتهم المختلفة عن أشكال آلهتهم وطقوسها الأسطورية واستخدام الرموز الجزئية كدلالات دينية، وكثيراً ما كان الفنان البابلي يلجأ إلى تجاوز التفاصيل التشريحية ليوحي بحرية انطلاق الحركات العفوية.
أمّا في المرحلة الآشورية فقد اهتم الفنان بنحت الجزئيات وإيجاد التوازن بين الكتل واستخدام الزخرفة ضمن إيقاعات مناسبة، وكثيراً ما كان يفرد زوايا رؤية خاصة وأكّد ضرورة تعبيرية الوجوه واستخدام الخطوط المستقيمة التي تزيد من الإيحاء بقوّة، وفي جدارياته كان ساعياً لتقديم بعدين: البعد التشكيلي والبعد الرمزي في الوقت نفسه، وأنا أمتدّ لتلك التجارب مع التأكيد على الجانب الروحي، لأن الروحي أسمى من الطبيعي، وأي فكرة تخترق فكر الإنسان هي أرفع وأعظم من أفضل إنتاج للطبيعة لأنها تصدر عن الروح.
* من الممكن أن نستلهم من اللوحة قصيدة، فهل من الممكن أن يستلهم “جورج شمعون” من القصيدة لوحة؟.
** هناك مثل ياباني يقول: «القصيدة ليست سوى صورة أضيف إليها الصوت، والصورة ليست سوى قصيدة بلا صوت». وإن خلت القصيدة من الصورة اختل مستواها وسقطت، وإن خلت الصورة من الحساسية الشعرية سقطت ودنت قيمتها الفنية لدى المتلقي.
كان الإحساس باللون يتسرّب في الصورة كما في الأدب، فإن تأملت لوحة “المرأة المجنّحة” النائمة بشاعرية في الكأس تجد نفس الهدوء الموجود في قصيدة “إبراهيم الخليل” التي يقول فيها: «أنت خمري، وأنا الكأس، احتضنك ملاكاً مدللاً، فتنامين في سرير النعاس».
* إلى أي حد تفيدك القراءة في الرسم؟.
** صاحب نظرية “النظم المشهورة” “عبد القاهر الجرجاني” اعتبر الاستعارة والتمثيل وجمالها وتأثيرها يعود إلى قدرتها على التجسيم المعنوي وتقديمه تقديماً حسياً وتشخيصه وبث الحياة والحركة فيه حتّى لتكاد تراه العيون، لقد ركّز على الجانب البصري الخالص من التقديم الحسي للمعنى وتجسيمه أمام العين، جعله يرد روعة الشعر إلى براعة التصوير، ويقارن بين
عمل الشاعر وعمل الرسّام.
* ما مدى حمل الفنان السوري لفكرٍ فيما يقدّمه من لوحات برأيك؟.
** الفنان السوري الحقيقي حاملٌ جينة حضارية لا بل أهم جينة حضارية في التاريخ لأنه ابن أوّل أبجدية في التاريخ وابن أوّل حضارة احتوت جميع حضارات العالم القديم، كما أنّه قارئ نهم وباحث مجدّ ومهتم ومطّلع على كافة الثقافات، فهو محصّن بكل هذه الدروع الثقافية التي يعتمدها في تحقيق ذاته، وكل فنان سوري اعتبر الفن وسيلة لوعي أسمى لأفكاره وروحه واهتماماته، وقد عبّرت أرقى الشعوب عن تصوراتها ونتاجاتها ورعتها عن طريق الفن، وهذا ما يسعى إليه الفنان السوري المجّد.
* في سورية القليل من الفنانين الحقيقيين كما سمعتك تقول، ما تقييمك للفنان السوري وما سبب هذه القلّة برأيك؟.
** سبق أن قلت بأن الجينة السورية هي أفضل جينة في التاريخ وهناك مؤامرة لضرب هذه الجينة عن طريق ضرب الذائقة البصرية والسمعية والثقافية، وهذا حقيقةً ما يتعرض له الأدب والتشكيل والموسيقا.
فعلى صعيد الأدب كثرت دور النشر والمراكز الثقافية التي تروّج للنص الهابط، وكذلك للفضائيات دور في تغييب الأغنية الجادة والطرب الأصيل وبثّ الأغنية الهابطة واللحن الشنيع ووجود كثير من الصالات الخاصة التي تروّج لأعمال بائسة تفتقر للحوامل الأربعة للوحة، وهذا الترويج البائس أبعد الجادين في الحركة التشكيلية عن إظهار نتاجاتهم خوفاً من الخلط بين الأوراق مع أغلبية مدّعيه، ومع الأسف يتم التسويق لهم.
* للأنثى دور بارز في لوحات أغلب الفنانين، لماذا نرى قلّة في المفردات لدى الفنانين باستثناء موضوع المرأة؟.
** الجميع يعلم أنّ الجمال ملازم لخواص كل الأشياء التي تستوقف النظر وتبهجه، وبواسطته تحفّز النفس وتمتّع الروح، ولما كانت المرأة رمزاً للعطاء والحنان والأمومة والخصوبة والجمال فلا بدّ إذاً أن تستوقف النظر عند الفنان وتبهجه لتكون محوراً في أغلب أعماله، ثمّ إن الإرث الحضاري الذي عرفناه بعشتار الأرض وهي الأم والزوجة والابنة جعلها أقرب الكائنات التي تداعب عواطفه وتلهمه لخلق أجمل إبداعاته، كما أني أرى المرأة بالنسبة للجنين والطفل هي فردوس ضائع يبقى الفنان يبحث عنه لعّله يجده في لوحاته.
وقد التقينا الفنان التشكيلي “بشير بدوي” الذي قال عن لوحات الفنان “شمعون”: «الحقيقة “جورج شمعون” من الفنانين المهمين على الساحة الفنية، والمعرض الأخير له خير دليل على ذلك، فقد تفاجأت حين دخولي إلى المعرض بتقنيات جديدة له بالإضافة إلى الغنى والتنوّع في المواضيع التي يطرحها، فتشعر
بالدفء من خلال لوحاته سواء من خلال حساسية الخطوط المستخدمة أو حتى المواضيع، فهو يمزج بين الحداثة والتاريخ في لوحاته بأسلوب جميل جداً».
أما الفنان التشكيلي “نعمت بدوي” فقال: «من المعروف عن الأستاذ “جورج شمعون” تعدد المواضيع التي يقدمها على الرغم من أنّه يدور في فلك روحانية الأسطورة التي تتحدث عن المرأة والخصوبة والتاريخ، وهو يأخذ من مصادر متعددة تحت مناخ واحد فتكون التكوينات التي يأخذها كما هي دون أن يلعب بعجينة التكوين ويضيف إليها من وحيه هو، ويمكن القول إنه فنان مثابر يحاول دائماً تقديم الجديد في المواضيع والأطروحات».
من الجدير بالذكر أن الفنان “جورج شمعون” من مواليد “رأس العين” 1957 وهو عضو في اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين منذ عام 1983، وله الكثير من المعارض الفردية والجماعية ضمن سورية وخارجها، حتى إنّه له عمل في متحف “انستيتيود” في “أمريكا”، وقد أنجز أكبر لوحة نحاسية في العالم مع الفنان “علي منير الأسد” عام 2009.