تاريخ النشر: الأربعاء 17 مارس 2010
فن التحفة الدمشقية الساحرة
الموزاييك يصوغ الخشب أشكالاً هندسيةً تكتسب بعداً إبداعياً
عمّار أبو عابد
يقوم فن حرفة الموزاييك على تطعيم الخشب بجزئيات صغيرة ومختلفة من خشب آخر، أو بالصدف، بحيث تُجمع في القطعة الواحدة قطع عديدة على شكل مربعات أو مثلثات أو صدف لتشكل لوحة فسيفساء أخاذة الجمال. ويعتمد فن الموزاييك على العمل اليدوي بشكل كامل، إذ تمتزج فيه روح الحرفي الفنان والمبدع.
تشكيل جميل وخطوط متلاحمة من خشب الورد والليمون والكينا والتوت والسرو تتماوج ألوانها الطبيعية على أرضية من خشب الجوز السوري المتين لتصوغ تاريخاً من الجمال والابتكار، ولتعكس صورة حرفة تقليدية سورية أصيلة. إنه فن الموزاييك الشامي الذي يصنف باعتباره فن التحفة الدمشقية الساحرة.
قوام الموزاييك
تطور فن الموزاييك على يد حرفي دمشقي مبدع هو جرجي بيطار الذي ابتكر في القرن التاسع عشر طريقة تطعيم الخشب بالخشب، وأنشأ مركزاً لمنجور الموزاييك ضم عشرات من العمال الذين تعلموا هذا الفن الجميل منه، وتخرج في ورشته حرفيون شهيرون، علموا غيرهم في الورشات التي افتتحوها، حتى بلغ عدد الذين يعملون في هذه المهنة بين عامي 1920 و1940 ما يزيد على ألف شخص، وأدى هذا الكم من الحرفيين إلى انتشار منتجات هذا الفن ورواجه تجارياً داخل سوريا وخارجها.
ويؤكد حرفيو الموزاييك في دمشق أن المعلم جرجي نقل حرفة الموزاييك نقلة كبيرة، فقد كان فناناً بطبعه واستطاع أن يدمج الفن بالعمل اليدوي وبتقنية تداخلت فيها عناصر اللون وجودة الإتقان، وبيديه الماهرتين استطاع أن ينظم الخطوط والأبعاد في قطع الموزاييك وأن يرفعها إلى مستوى الإبداع النادر. وكان له الفضل في تعليم المئات من التلاميذ الذين أتقنوا هذه الحرفة وطوروها من بعده، بإدخال الصدف وعظام الحيوانات والعاج في زخارف خشبية.
الفنان الزاهد
يعتبر بيطار الفنان الزاهد محطة هامة في انطلاقة الموزاييك، فقد كان الرجل زاهداً وصاحب خيال فني رفيع، وبعد تطويره لهذه الحرفة، أراد أن يدخل سلك الرهبنة المسيحية، لكن رجال الكنيسة رفضوا طلبه، وأقنعوه بأن عمله المبدع يمكن أن يخدم الناس ويرضي الله أكثر. وهكذا انصرف إلى عمله الفني بقوة، فصنع قطعاً فنية فريدة، بعضها صغير الحجم، وبعضها وصل إلى حد صناعة الأثاث الفاخر للمنازل والمكاتب.
وعمل جرجي في تزيين الكنائس في دمشق وفرنسا، وذاع صيته في أوروبا، وشارك في عام 1891 في معرض فيينا، وفي عام 1895 كلفه والي دمشق بإعداد هدية ثمينة لتقديمها إلى السلطان العثماني عبد الحميد، فصنع خمسين قطعة موزاييك وسافر معها إلى استانبول، وقدمها للسلطان الذي أعجب بها كثيراً، فمنحه مبلغاً كبيراً من المال، وقلده وسام المجيدي الخامس وميدالية الافتخار الفضية. وفي عام 1904 منحته الجمعية الزراعية الخديوية الجائزة الأولى بالمصنوعات الخشبية، كما قدم بيطار (خزانة خشبية) من الموزاييك لبابا الفاتيكان عام 1908، فمنحه الأخير وساماً ذهبياً رفيعاً، وعبر عن إعجابه بفنه الدمشقي الفريد.
مفروشات وخزائن
تطور الموزاييك في الشكل والتلوين، كذلك تطورت الأدوات التي تصنع منه، فلم يعد يقتصر على إنتاج القطع الصغيرة، بل اتجه إلى صناعة المفروشات يدوياً، فأنتج الحرفيون المكاتب وخزائن الكتب والكراسي والقلاطق (الكراسي العريضة) وغرف الاستقبال، لكن قطع المفروشات مرتفعة الثمن، ولا يطلبها إلا الأثرياء المقتدرون، وهي غالباً ما تصنع بناء على توصية مسبقة ولحساب شخص معين. ويمكن مشاهدة هذه المفروشات والخزائن في الأماكن السورية الرسمية كقصر الرئاسة ومجلس الشعب وصالة الشرف في مطار دمشق الدولي ووزارة الخارجية وفي قصور الشام القديمة كقصر خالد العظم السياسي السوري المعروف والراحل، وبيوت السباعي والقوتلي ونظام ومكتب عنبر، حيث تضم هذه البيوت نماذج جميلة ومبهرة من منتجات هذه الحرفة التقليدية.
وتعتبر أحياء دمشق القديمة موطن حرفة الموزاييك، لاسيما حي باب توما وحارة القشلة تحديداً، وباب شرقي وحي القيمرية، إضافة إلى بعض الورش القائمة في سوق الحرف التقليدية في مجمع تكية السلطان سليم. وهناك عائلات دمشقية ورثت المهنة أباً عن جد، تعمل في صناعة المفروشات الخشبية المطعمة بالصدف، وأهمها ثلاث عائلات معروفة. ويبلغ عدد الورش العاملة بالموزاييك حالياً حوالي عشرين ورشة، تدفع بإنتاجها إلى سوق الحميدية وإلى سوق الحرف التقليدية، بينما تصدر كميات لا بأس بها إلى الدول الأجنبية وبعض الدول العربية.
أسعار الموزاييك
لا يغالي حرفيو الموزاييك في أسعار منتجاتهم، فهناك قطع صغيرة أسعارها في متناول جميع المستهلكين، إذ يتراوح سعر علب هدايا وطاولات الزهر بين مائتي ليرة وألفي ليرة سورية (من 5 إلى 40 دولارا أميركيا)، ويمكن أن تجد صندوقا للمجوهرات بسعر لا يتجاوز ثلاثمائة ليرة، بينما صواني الموزاييك المؤلفة من ثلاث قطع يمكن أن تحصل عليها بأربعمائة ليرة، لكن هذه القطع نفسها يمكن أن يتجاوز ثمنها عدة أضعاف إذا طعّمت بالصدف. وعلى سبيل المثال، فإن طاولة الزهر العادية يمكن أن تباع بين أربعمائة وألف ليرة، لكن سعرها يصل إلى عشرة آلاف ليرة سورية، إذا طعمت بالصدف. ويقول أبو نادر، أحد معلمي الحرفة، إن ما يحدد ثمن القطعة هو مقدار الجهد الذي يتطلبه إنتاجها، وقيمة المواد الداخلة فيها كالصدف، أما المفروشات والمكاتب والخزائن، فإن أسعارها تصل إلى أرقام فلكية، وهي تصنع عادة بناء على توصية مسبقة.