قيس الزبيدي الرجل الذي أرخ بالكاميرا
ارتبط اسم قيس الزبيدي بالسينما الفلسطينية، إخراجا ودراسة وتنظيرا. وقد جعل الزبيدي من القضية الفلسطينية قضيته السينمائية. كانت فلسطين، أو “وطن الأسلاك الشائكة”، كما هو عنوان فيلم تسجيلي له، أكبر تراجيديا استلهم منها أعماله وأفلامه. بينما يسعى اليوم في إخراج فيلم من نوع الأفلام التسجيلية، بالنسبة إليه، يجمع فيه مشاهد من مختلف أعماله، كما يشرح ذلك في هذا اللقاء مع “العرب”.
تكتب السينما التسجيلية تاريخ الأفراد والجماعات كتابة بصرية. ويبقى المخرج العراقي قيس الزبيدي أحد الذين كتبوا تاريخ القضية الفلسطينية بالكاميرا، وبعين السينمائي الخبير، هو الذي أخرج أفلاما كثيرة، كما أصدر دراسات غزيرة عن السينما الفلسطينية، وعن فلسطين في السينما. في هذا اللقاء، يعود بنا قيس الزبيدي إلى تجربته الأساسية في هذا الباب، مع فيلم “وطن الأسلاك الشائكة”، وقد كان هذا التسجيلي، حسب رأيه، فيلما سياسيا، “يعتمد على مادة من واقع الاستيطان الصهيوني، وقد تناول أساليب النضال في الوطن الفلسطيني الممزَّق، الذي تحاول إسرائيل، عن طريقة الاستيطان، قضمه قطعة تلو قطعة”.
وبحسب الزبيدي، فإن أعماله الأخرى قد التقت وتقاطعت مع هذا الفيلم، مستفيدة من التراكم الذي يتحقق للمخرج مع التجربة. “أما الفيلم الذي لم أصوره”، يضيف محدثنا، فهو “فيلم أخير لم أصوره حقيقة، ولم يعرض بعد وعنوانه »فلسطين عنوان مؤقت!« وهو فيلم مركب (compilation)، أي فيلم مكون من عدة أفلام، لكن مادته البصرية والسمعية هي من أفلامي العديدة ومن مواد أرشيفية من أفلام أخرى عن فلسطين، ويتناول تاريخ الاستيطان في فلسطين واستيلاء الصهيونية، بدءا من مؤتمر بال إلى الوقت الحاضر، على أغلب أرض الوطن الفلسطيني”.
تسجيل الأزمات
غير أن فلسطين لم تكن أزمتنا الوحيدة. فالعراق، وطن الزبيدي، أنهكته الحروب والأزمات، أيضا، وسوريا التي أقام فيها الزبيدي ردحا طويلا، تحترق على مرأى من الجميع. عن زخم الأفلام التسجيلية التي أنتجها المخرجون العرب ارتباطا بتداعيات ما سمي ربيعا عربيا، وكيف يتابع الزبيدي هذه الموجة، يؤكد أن الأفلام كثيرة، “خصوصا عن سوريا التي تحترق منذ سبع سنوات… لكني لم أشاهدها كلها، مع أني قرأت عنها وتابعت تأثيرها ومنهجها في التعبير ومن أنتجها، أما أسلوبها وأشكالها فتكاد تبدو شبيهة بالربورتاجات التلفزيونية التي لا تخلو من محاولة تضليل وتلاعب بعقول المشاهدين”.
الزبيدي: لو أننا “اعتبرنا أن المخرج التسجيلي صاحب قضية يهدف إلى إثبات حقه أو إدانة غيره، فليس أمامه سوى الوقائع، مهما كان قديرا وموهوبا وحرفيا”
فهل قدر السينما التسجيلية في الوطن العربي أن ترتبط بالأزمات دائما؟ يرى المخرج العراقي أنه ما دام المخرج التسجيلي غير مستقل فإنه “لا يعبر عن رأيه أو تصوره لأزمات الواقع ومشاكله في الصور التي يصورها أو يستعملها، وبالتالي تشاركه في هذا التصوّر -بهذا القدر أو ذاك- جهة الإنتاج، التي غالبا ما تلزمه بأن يأخذ بعين الاعتبار موقفها مع أو ضدّ، شاء ذلك أم أبى”. أما الأمانة والصدق الفنيان، وهما الركيزة الأساسية في التسجيلي، فسيغيبان لا محالة.
ويضيف الزبيدي أنه لو أننا “اعتبرنا أن المخرج التسجيلي صاحب قضية يهدف إلى إثبات حقه أو إدانة غيره، فليس أمامه سوى الوقائع، مهما كان قديرا وموهوبا وحرفيا”.
فالموهبة والحرفية، عنده، عاملان مساعدان فقط، في الفيلم التسجيلي، وأي محاولة من المخرج للتفنن على حساب الوقائع تضعف مصداقيته في الإقناع بعدالة القضية التي يعتقد أنه يدافع عنها.
سينما بديلة
عبر تجربته السينمائية التي قاربت نصف قرن من السينما، أحاط الزبيدي في مساره الأكاديمي بمجموعة من الصناعات السينمائية من تصوير ومونتاج وإخراج وكتابة سيناريو. فهل هذا هو السبب الذي منحه حرية أكثر في عمله، لكي يقدم الفيلم الذي يريد، وينقل إلينا الرؤى والأفكار التي حفزته على الإبداع؟ عن ذلك، يرى الزبيدي أنه ينتمي إلى جيل سينمائيي السبعينات من القرن الماضي، الذين درسوا السينما في أوروبا وفق منهج أكاديمي وتعرفوا على تاريخ السينما، وتأثروا بتياراتها الفنية المختلفة واعتقدوا أن بوسعهم لعب دور مهمّ في تجديد السينما العربية، وجعلها ظاهرة فنية موازية للسينما التي برزت في أوروبا الشرقية، أو في بعض بلدان العالم الثالث أو في كوبا.
ويتابع موضحا “وكان هذا دربا آخر ظهر بصوت عال لكن صداه في الواقع الموضوعي كان ضعيفا، أسميناه وقتها السينما البديلة أو الجديدة”. من هنا، يقول المخرج، فقد “حاولت منذ فيلمي الأول الروائي القصير »الزيارة« أن أبتعد عن محاكاة ما هو تقليدي سائد، وفي فيلم »اليازرلي« كنت كمن يحاول أن يكتب بيانا لسينما بديلة، وهو سبب العقاب الأساس الذي حل بالفيلم، ومن ثم بمخرجه!”.
وحول انحيازه إلى التجريب وجمالياته في الأفلام الروائية، وهي أفلام تجريبية قصيرة في الغالب، يرى قيس الزبيدي أن محاولاته في التجريب، في مجال الفيلم الروائي، كما في بعض الأفلام التسجيلية/ التجريبية، كانت بحثا في العلاقة الفنية والجمالية بين اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية الثابتة والصورة السينمائية، التي هي بالتالي تختلف عن الرسم والفوتوغراف، لكونها متحركة زمنيا.
وحول انفتاحه على التشكيل وباقي الفنون البصرية، بعد تجاربه في عدة أفلام، مثل الزيارة، وشهادة الأطفال، وزائد ألوان، وكابوس، يصل بنا المخرج إلى فيلمه الأخير “ألوان”، وهو عمل تسجيلي مختلف عن تجربة الرسام العراقي جبر علوان، عمل يراه الزبيدي “محاولة أبعد في اللقاح الجمالي بين هذه الفنون وعلاقتها فنيا ببعضها، لأن في مثل هذه العلاقة الجدلية تنشأ سردية جمالية للصورة المتحركة في السينما”. هكذا، يسمو المخرج العراقي قيس الزبيدي بالفيلم التسجيلي إلى مراتب عليا من الجماليات، كلما أحس بانحدار التجارب الحالية نحو مستوى الربورتاجات المباشرة والعابرة، في سياق من الأزمات تنعكس على الإبداع السينمائي نفسه، وتضعه في مآزق وأزمات أخرى.