السنونو العائد
بقلم :د. غسان لافي طعمة
كان طائر السنونو صديق طفولتي و صباي في بيتنا الطيني و قد بنى عشه في الزاوية العليا بدقة قشة بعد قشة وذرة تراب بعد ذرة و قطرة ماء بعد قطرة و كان هذا الصديق البيتي الحميم يرحل في نهاية شهر آب و يغيب بعيداً و لكنه يعود في أوائل شهر أيار فكنت ألوح له تلويحة الوداع وأستقبله بشوق و حب
و في شبابي عرفت طائر سنونو من نوع آخر عرفت الأديب الصديق دريد يحيى الخواجة الذي عمل مدرساً لمادة اللغة العربية في محافظة حمص ثم رحل إلى المغرب العربي – مراكش – و عمل هناك مدرساً لمدة أربع سنوات و أبدع هناك مجموعته القصصية المتميزة التي كانت باكورة منشوراته
وحوش الغابة – و التي نقل لنا في بعض قصصها آفاقاً سحرية من المجتمع المغربي و منها قصة الإشارة يا سيدي رحال
و عاد إلى مدينته حمص إلى عشه الأول و أقام و لم يطل الإقامة فغادر إلى دولة الامارات العربية و عمل هناك مدرساً وأديباً فأبدع مجموعته القصصية الثالثة – رسام البحر و فيها من رمال الخليج و مياهه الكثير الكثير بعد أن أصدر مجموعته القصصية الثانية في وطنه تحت عنوان – التمرير و عاد صديقي إلى عشه – حمص – ثانية ثم شد رحاله إلى اليمن و عمل في جامعتها – جامعة صنعاء – و كان قد نال درجة الدكتوراه في الآداب
و عاد السنونو بعد بضع سنوات من اليمن إلى عشه الأول و لكنه لم يطل الإقامة فرحل ثانية إلى السعودية ليعمل مدرساً وأديباً و هو القاص المتميز و الناقد الحاذق منذ كتابه النقدي الأول – الصفة و المسافة – الذي صدر ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب في سورية و يتابعه في كتب نقدية هامة منها : الغموض الشعري في القصيدة العربية الجديدة و إشكالية الواقع و التحولات الجديدة في الرواية العربية و قد صدر في وطنه سورية عام ألفين و على الرغم من انشغاله بالنقد و الدراسات الأدبية إلا أنه لم يتوقف عن الإبداع في فنه الأول فن القصة القصيرة فنشر مجموعته القصصية الرابعة- رهائن الصمت – في مطلع الألفية الثانية عن مركز الانماء الحضاري في حلب و كان دائماً يعود إلى عشه الأول ليقول بكل صدق و عفوية مثل سورية مافي وعندما بدأ العدوان الكوني على وطنه سورية كان مستاء غاضباً يمتلك رؤية واقعية نافذة بعيدة المدى و أدرك حجم المؤامرة الاستعمارية الصهيونية على وطنه و اقترب لهب المؤامرة من منزله فغادر إلى الولايات المتحدة حيث يقيم ابنه الوحيد و كان يتواصل معي عبر الهاتف يسأل عن الوطن عن الأصدقاء و في اتصاله الأخير من أمريكا الذي دام أكثر من نصف ساعة لم يغفل صديقاً و خصوصاً أدباء حمص من الأسئلة التفصيلية قال لي : سأعود سأعود إلى سورية و منذ حوالي الشهرين اتصل بي هاتفياً ليقول لي أنا أتكلم من حمص و كنت أعانقه بعد ربع ساعة عناقاً طويلاً و تكرر اللقاء و هو يؤكد سعادته بالعودة إلى عشه الأول و بدأ بإصلاح بيته، بيته الذي تشغل المكتبة أكثر من نصفه و كم كان فرحاً بهذه العودة و لكن اليوم الأول من شهر رمضان الكريم حمل خبر رحيله الأخير رحيله عن هذه الدنيا الفانية و هو من كان معجباً بقول الشاعر الحمصي وصفي القرنفلي في وصيته :
حسبي – و لا حسب خلف القبر – متكىء في حضن أمي و أني في ثرى وطني