تجربة حسن المسعود الخطية وعدنان يحي الحروفية
العلاقة بين الفن التشكيلي والخط العربي علاقة جمالية بصرية تحوّل الفكرة من الذهن إلى الصورة ومن التفاعل الذاتي إلى انسياقات الصور المرئية التي تواكب العلامات ودلالاتها.
فقد عرف الخط العربي دهشة العمق الروحي والإيماني في تعامله مع النصوص المقدسة، كما جمع إثارات الجمال الفاتنة في الشعر وصوّره بهندسة صاغها التشكيل في غموضه الجمالي في التجريد الحداثي المبتكر لأساليب عميقة من بيئة زاخرة بتوافقات بصرية وجمالية.
الخطاط العراقي حسن المسعود
فعلاقة الخط بالفن التشكيلي تبدأ من الحرف لتفرض قيم تقليدية الهندسة حديثة التقنيات والمواضيع ذات تأثير جمالي، فاللوحات التشكيلية التي اعتمدت أسلوب الخط العربي والتوجه الحروفي، ارتكزت ملامحها على عمق النص والبيت في القصيدة في الشعر القديم والحديث، وهو ما بدا في تجربة التشكيليين حسن المسعود من العراق، عدنان يحي من فلسطين حيث تميزت تجربتهما بالتشابه في اعتماد عنصر الخط العربي والاختلاف في توظيفه بنائه وتشكيله، ما منحه اندماجا جماليا عالميّ الخصائص خلق تجاوبا بين علامات اللغة والخط والصور والمجاز إضافة إلى التعبير عن القضية الإنسانية الوجودية والسياسية، وهو ما ميّز التجربتين ومنح كلا منهما التفرد والجمالية سواء على الورق أو القماش والخشب.
فقد أصبح متلقي النص الديني أو الشعري قادرا على التواصل مع اللوحة واستدراك المعنى في عناصرها البصرية، باعتماد موسيقى اللون ومجاز الإيقاع الخطي وفضاء اللوحة نفسها الذي بات يعكس عالما وجغرافيا وطبيعة وحلما يتفاعل داخله الحرف مع امتداداتها وارتفاعاتها انحناءاتها وتوازناتها سكونها وصخبها وتمردها الذي مزج الحرف مع التشكيل ومع خيال الفنان ومهارته في الانتقاء وفق انتمائه ومشاعره ومواقفه وحنينه.
فلبنية الشعر مثلا أوهندسة الصورة المقدسة رمزية قابلة لقراءة تتخطى أطر اللغة لتكون في حد ذاتها إلقاء بصريا مبالغا في التأصيل ومنفتحا بشكل يخرق حدود الفهم المادي والمعنوي التي تتجاوز المعرفة باللغة نفسها وقراءتها، نحو استيعاب ملامح لغة تشكيلية شاملة قابلة للتأمل البصري.
تجربة حسن المسعود من جمالية الخط إلى ابتكارات الشكل والمعنى
تبدو الحركة متناغمة بين الفكرة والصورة في التجريد والجمالية الفاتنة باعتماد الخط العربي في تجربة حسن المسعود، لأن الحروف العربية في مقاماتها هي تراث حي استطاع توظيفه خدمة للصورة وارتقاء بالمعنى في الكلمة خاصة باعتماده الشعر الذي يعتبره روح التراث العربي وسحر تجلياته كما أنه انعكاس لمرونة الخط في النضج والتطور وتقمص عصره ومواكبة الزمن في تبني المعنى بأكثر فتنة وجمالية ليبعث في الحروف تناغما يتكامل حداثيا مع التجريد بالحرف والتشكيل الخطي وفق أصوله وقدرته على انتزاع الكلي من الجزئي وتخليص المعنى من المادة حتى تستثار التفاصيل الدقيقة وتتفجر علاماتها.
حسن المسعود خطاط عراقي استطاع التوجه عالميا بالخط العربي وإكسابه مرونة تقمص حروف اللغات الأخرى وقواعدها الهندسية، ولد بمدينة النجف سنة 1944 بدأت علاقته مع الخط بمدينة بغداد متأثرا بخاله ومنبهرا بآثار الحضارة الإسلامية التي كانت تبوح بجمالها وعراقتها وزخرفها في العراق، سافر سنة 1961 إلى فرنسا، تحصل من مدرسة الفنون الجميلة بباريس على ديبلوم في الفنون التشكيلية، وهناك استقر ليختص و يعمل على نشر القيمة الفنية للخط العربي عالميا، قدم قرابة 36 فيلما وثائقيا عن الخط، كما أقام أكثر من 60 معرضا شخصيا بفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، واقتنت أعماله عدة مؤسسات دولية عامة منها مطار الملك خالد الدولي بالرياض ومتحف الفنون الإفريقية بباريس، متحف ستيدلجك ومتحف ستيفري بهولاندا، والمتحف البريطاني بلندن، له عدة مؤلفات عن الخط العربي وعن تجربته التشكيلية الإنسانية معه نذكر منها “الخط العربي”، “حسن المسعود الخطاط”، “خطوط الأرض”.
يعتبر المسعود من الخطاطين المنفتحين على كل أنماط الخط في العالم وخصوصا خط منطقة الشرق الأقصى معجبا بالحرف الصيني ومتأثرا بتجارب الرسامين اليابانيين مستلهما منهم أسلوب ارتجال الرسم الحرفي وقد خاض هذا الأسلوب مع الخط العربي في استعراض فني أمام الجمهور في فرنسا.
لم يهدأ يوما عن البحث في عمق الخط إسلاميا بجذوره وطبيعته تراثيا وعالميا فقد ساعده اكتشاف الشحن الحراري للصورة في الخط الصيني وترابطه مع الطاقة وما تمنحه الكتل للمعاني، ليخلق تمازجا هندسيا حسابيا بينها في لوحاته التشكيلية التي هيّأت الفضاءات لاستقبال الكيان الحرفي دامجا إياها مع أسس الجماليات البصرية العربية بهندسة الفضاء ومكانة الحرف داخله وتقنياته اللونية والتشكلية حيث خلقت توازنا عمّق تفاعل كل حرف مع الفكرة وثباته في موقعه دون تجميده، فقد مكّنه من الانفلات من المشاهد الكلاسيكية ما ميّز الحضور الشكلي الحداثي في التجريد بخلق إيقاع متوازن بين الخط واللون والدلالة.
يخوض المسعود داخل المساحات جدالات صاخبة بين الشكل والمعنى والحس الذاتي مع الألوان المتناسقة التي تحمل الأبعاد الجمالية ببساطة موشحة بموجات مغنطيسية شفافة متدرجة في تلاوينها لتبدو البناءات الحروفية للوحة عنده مسكونة بالفضاء في لغز المعنى بخط القصب يبتكر غنائية تتماهى مع عذوبة الانسياق اللحني خاصة وأن انتقاءه للنصوص والأبيات والقصائد والحكم والأشعار يحررها من مقصدها التاريخي ليعبُر من خلالها نحو موقفه الإنساني وتفاعله مع واقع بلاده بتفاصيل التاريخ والجغرافيا والطبيعة والحياة وفي هذا السياق يقول حسن المسعود
“تأثير الصورة الشعرية تنعكس عليّ.. فلا يمكن خطها دون التأثر بعواطف قائلها وتقمصها، بالنسبة لي فإنني أستخدم الخط بطريقة أخرى وتغلب على خطوطي تأثيرات المناظر والصور أبدأ دائما بتخيل الصورة الشعرية وأنتظر أن تفرض إحدى الكلمات نفسها لكي أكبّرها وأعطيها مظهرا جديدا أحسب عدد الحروف المستقيمة ثم الحروف المنحنية لكي أكوّن بناء متناغما من خلالها فأبقى أتصور أشكالا مختلفة لهذه الكلمة أفكر بها بكل الأساليب التي أعرفها فأعمل بقلم الرصاص تخطيطا سريعا للشكل الجديد أغير أشكال بعض الحروف التي لا تريد المشاركة بالشكل العام أو أبدل مكانها في الكلمة…ولا أنسى في هذه اللحظات الصورة الافتراضية للشاعر فأخمن بالحدس ما أراد قوله خلف الكلمات”.
إن خصوصية الخط العربي الإسلامي عند المسعود لها مدركات حسية وروحية وجماليات بصرية ولها طاقة وإحساس وفنيات في تجلي التجريد مع الشعر العربي وهو ما يتوافق مع الخط إذ يسمو به لدرجات بصرية ذهنية تميزه في تشكيلاتها.
حسن المسعود: أرضعتني العراق ثدي هواها وغزتني بطرفها بغداد ابن الحسن مطرف
كلما نضج شغف المسعود بالشعر كلما تطور تشكيل حروفه وطريقة خطه، فتعلقه بالنصوص الأدبية الشعرية العربية بإيحاءاتها الغائبة والمرمّزة والمصقولة بقدرة اللغة على الالتحام مع الحرف بثقة، سرب بداخل الخطاط فيه الفنان التشكيلي التي طوّر خلفية الحروف مع انفجار الحنين داخله بحثا عن التفرد في صور العراق وحضارته الإسلامية بتداخلاتها وفتراتها وقصائدها وشعرائها “الكلمات لم تعد كلمات لأنني اخترت أن أعيد تشكيلها وبناءها من جديد لتتوافق مع النص الشعري وصوره وهو ما جعلني أجد نفسي أمام اكتشافات جديدة ومساحات أوسع منحت الحروف طاقات تعبيرية تمثلت في الحركات التي أصبحت تُغني المشاهد عن القراءة لأن كل حرف له حركاته الفصيحة بمعانيها”.
حسن المسعود: فالحب ديني وإيماني ابن عربي
*حسن المسعود: مالي أطيل على الديار تغربا أفبالتغرب كان طالع مولدي ابن حمديس
الحروفية وتجلياتها الوجودية في تجربة عدنان يحي
تجربة عدنان يحي الحروفية لم تكن وليدة صدفة ولا مجرد تقليد فهو يعد من التشكيليين الملتزمين جدا بالمعنى الذي يخدم الانسان والانتماء والقضية والموقف والعطاء بتوظيفاته الوجودية وقد أنضجت الخبرة تجربة يحي حين طوّع الحرف خدمة لها واستغل المعنى لترويض الفكرة فحقّق ابتكارا واسع المنافذ قدمه ليحاكي الفكرة “الوطن والقضية” في كل إنجاز حروفي يعبر عن الانتماء للذات للوطن للأصل والحرف في مدلولاته التراثية.
ففي لوحاته يتشكل الحرف من عناقات المجاز ومداعبات المعاني البصرية الماورائية مع تنفيذ حركيته على الخشب بتوظيف الألوان الزيتية التي تقع على مسطح داكن تحاول الحروف أن تثبت وجودها تشكيليا بموسيقى تؤسس الانعتاق والتحرر لتلامس النور وتفتش عن أبعاده النفسية وتحاكي عمق المعنى في اللوحة.
فرغم أنه ركّز على أكثر على الآيات القرآنية إلا أنه اختار أيضا أبيات شعر ذات منحى صوفي أو وطني أو وجودي انساني ليمنح اللوحة سمة تعبيرية لا تنفصل عن التراث الموروث في تنفيذ الحرف العربي ومنحه قدسية متأصلة في منشئه ولكنه كان جرئ التنفيذ الحداثي إذ حرّرها من أطر الزخرف بعلامات تشكيلية وعن هذه التجربة يقول يحي “التجربة الحروفية التي أقدّمها هي تجربة تتعلق بالحرف العربي من منطلق تشكيلي فقد حاولت أن أجعل منه حرفا موسيقيا أكثر من أن يكون حرفا مقروء وذلك من خلال الحركة والضوء التي تتماشى مع فكرة الهدم والبناء”.
لوحات عدنان يحي الحروفية تسير في انفتاحات بيانية تلتحم مع عصرها دون تفسخ تعبر بجماليات حداثية.
فهو يستفز توتر الخط بين المعنى والاحساس في تعازفات أوتاره وانفلات عصبه وتحكمه بتداخلاته وهنا يكون قد أوقعه في موهبته وخبرته وحساسيته ليحوّله إلى عمل فني حيوي مستقل يتوهج مع الألوان الحارة والذهبية والألوان الباردة بدرجاتها الهادئة وبؤرها التي تراوغ العتمة وتنصف الأصوات الضوئية وتمنح إيماءاتها حركية وتناغما يرتب الفوضى تلك التي يعيشها في تواتراتها ليتناسجها ويتفاعل بها حتى تصل إلى الضوء وتخترق المعنى من علاماته المباشرة بتفكيك الصور والتشابيه في تلاوين الحرف وخصوصية الدلالات وتعابيرها بانفعالاتها وصراعها وتداخلاتها وتشابكها وحضورها الراسخ حفرا وتكوينا.
يتجسد حفر الحرف بشكل ثنائي الأبعاد يتشكل من ملامح الفكرة إلى عمق الروح في اللوحة كدلالة بصرية على التوحد بالأرض بالتراث بالفضاء وبالذات التكوينية، وذلك بتشريح الحرف مع الخطوط والأشكال وتكثيفها وتكتيلها متكئا على نظرية الظل والنور التي تعبث بالأضواء وتحدد المسارات التي تسطع على منافذها في توجيه الحروف نحو مسارات العمق التشكيلي بالتعامل مع شكل الحرف والخط وهندسة الفضاء الخاص باللوحة ككيان تعبيري يتجانس مع المعنى بندية.
فهو لا يتجاوز دوره كمكمّل للمعنى بل يروضه ليكون كيانا بصريا جماليا، يهندسه ليصبح رمزا تعبيريا قائم الذات يعبّر عن فلسفة روحانية ساطعة ببريق أمل، إذ أنه لا ينجز لوحة خطية بل لوحة تشكيلية تقع على مسطح حيوي يخلق منافذ متعددة تهيؤ الحرف لاستقبال الانفعالات والمحتوى وفق حركة اليد التي تحفر داخله بحثا ونبشا عن المسارات الجمالية فيتكون متفردا في تشكيل الخطوط بهندسة فوضوية وبترتيب يتقمص الأشكال المكونة في النص المنتقى في الفعل المنجز فنيا حيث الحرف عنصر فاعل يخدم المشهد ويستفز للبحث عن طريق تبصر المعنى.
إن التجديد في الانتقاء بين تجربتي المسعود ويحي سواء في النص والشعر وفي اختياراته التشكيلية التجريدية الحداثية بالصياغة الخطية أو الحروفية تطلب أيضا تجديدا في الحركة وتبسيطا لتكوينات الخط المنجزة ما خلق تفاعلا بين اليد التي تحمّل الفكرة حروفا وانفعالاتها المتفاعلة مع الريشة وتسارعاتها في تحديد المساحة وهندسات الخط المفتعلة بين المعنى والدلالة والرمز واللون والصيغ والفضاء وتحديد إيحاءاته الصارخة بمجازات النص وتعابيره ما يخلق صورا أخرى وتجليات تتواصل وتتصل بين الصورة في النص والمعنى في الخط، فتتفاعل الحركة كرقصات صوفية تعانق أفق السماء وتتشبث بالأرض والانسان.
فالرؤية الحداثية في الأسلوب التشكيلي طورت الخط كعنصر جمالي من خلال حركة الخط وتشكيلها وخلقت شبكة هندسية بينها لامست الخيال بفنيات حملت الحنين والشوق الألم والأمل الوجد والفرح إذ عبر المسعود من ابن برد إلى السياب ومن المتنبي إلى الذبياني ومن جبران خليل جبران إلى محمود درويش وهو ما خلق ابتكارات موسعة للحضور الخطي على الورقة بين الأشكال وتوافقاتها والنقاط ورقصاتها بالتحليق في التقاطعات والمنافذ التي غيرت الأحجام والألوان والاشكال والمكان والمكانة والعلاقة بينها بتجريد صاعد سقط على مظاهر الثقل والخفة في موازين المساحة بحركة ديناميكية ثابتة لكنها متناغمة لاكتمال التكوين الخطي.
كما لم ينفصل يحي عن الواقع رغم خيالات وانفعالات الحلم الخطية وفضاءاته التاريخية وجمالياته الحالمة المعتقة بالعلامات ولا عن السياسي في لحظات رافقت تاريخ المنطقة وخاصة فلسطين، فتفاعل مع جوهرها بالالتزام موقفا وحسا وانتماء بدا في الخطوط التي كانت تتجدد وتنفلت بين ثنايا الواقع لتعبر عن الحدث الممزوج بالألم والحنين والخوف كحركة تمنح النص علامات نفسية تبدأ من الذاتي لتلامس الإحساس من خلال ارتباطه بالإنسانية وبكل تفاصيلها وطبيعتها حيث يتشابه الفنان والمتلقي في معايشتها.
فالفضاء المتناغم بين الحروف ينصب على المعنى وشكل الحرف وهو يستقبله بين الجسم المتفرد والأجسام المتلاحمة بتجريد يتجاوز الفضاء، وهو ما يخلق جمالية ناطقة العلامات روحانية تثير التفاعل الشكلي والذهني في حساب العلاقة بين العناصر الجمالية في التجربتين سواء في التشابه أو الاختلاف.
*الأعمال المرفقة:متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية – Farhat Art Museum Collections