كنت دائما أتصدى وما زلت لجملة من التصورات لكوكبة من الكتاب المغاربة واستعمالهم لبعض المفاهيم الأدبية الدخيلة على الفن العربي المعاصر، ليس رفضا متصلبا للتداخل والتمازج الحميمي الذي ينشأ من دون وعي منا أحيانا بين الأجناس والمعارف والعلوم بشتى ألوانها، بل لعدم نجاعتها وقدرتها على الإنبات في غير أرضها، فتصبح بالتالي أشبه بنسخة مزورة عن الأصل. ومن بين هذه المفاهيم التي لا أستسيغها والتي باتت تشكل مع الأسف تراثا معجميا لدى بعض من الكتاب المغاربة المتتبعين للتشكيل المغربي أن يستعملوها بمحبة مفرطة «الحساسية الجديدة». والحقيقة أن هذا المفهوم كما ظهر وتبلور على يد الأديب ادوارد الخراط في تسعينيات القرن المنصرم، والذي كان يهدف أساسا إلى البوح بهاجس المغايرة والاختلاف، الذي طبع بعض الأعمال الروائية العربية، مما يعني أن المفهوم كان مرتبطا بسياق تاريخي ومعرفي داخل جنس أدبي أحس فيه ادوارد الخراط أنه بات يشي ببعض من الفيض الفكري والزخم الجمالي داخل الكتابة الروائية العربية المعاصرة. لكن ما لا أستسيغه بتاتا هو هذا القلب غير المعرفي الذي يحدث في نقدنا التشكيلي المغربي من استعمال مبالغ فيه لمفهوم «الحساسية الجديدة». إذ أن لا شيء حقيقة يشي بهذا الحس الجمالي المنفلت من قبضة الاجترار داخل الجيل الجديد، باستثناء تجارب قليلة جدا معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وبشكل أكبر داخل التجارب التي تجاوزت اللوحة بمفهومها «الكلاسيكي»، فضلا عن التجارب الفنية الرائدة التي أرست دعائم وبرازخ الحداثة الفنية المغربية، والتي ما زال إرثها الفني اليوم حاضرا بقوة (تعرض على سبيل المثال هذه الأيام أعمال أحمد الشرقاوي بمتحف الفن المعاصر بالرباط) وأعني: الجيلالي الغرباوي، فريد بلكاهية، محمد القاسمي، عباس الصلادي، أحمد الشرقاوي، فؤاد بلامين وغيرهم. لكن المثير للاهتمام وللمفارقة أن مفهوم الحساسية الجديدة قد نبت وبوعي شديد ومن دون أسمدة «النقد الكيماوية» في بعض التجارب العربية التي وسمت ببعد جمالي وفلسفي خارق ومغاير عن التجارب الأخرى، التي ظلت مجرد صدى باهت لبعض التجارب العالمية.
الفن قاطرة نحو التنمية
يأتي مهرجان سجلماسة الدولي للثقافة والإبداع، الذي اختير له هذه السنة شعار «الشعر والتشكيل جسر نحو الدبلوماسية الثقافية» من ضمن المهرجانات المميزة التي باتت تحتل المشهد الثقافي والفني المغربي، لأنه مهرجان يعمل على جعل الفنون والآداب بشتى ألوانها وتفرعاتها وأجناسها كمطية ورافعة للولوج نحو التنمية الجهوية بجهة درعة تافيلالت وهذه خاصية متفردة يتميز بها، لما تزخر به هذه المنطقة من تراث طبيعي وفني متمثل في الواحات والمباني الطينية التي وسمت معمار هذه المنطقة، تظل شاهدة على تراث فني عريق، فالمنظومة العربية اليوم لن تكون قادرة على الصمود أمام هذا المد الدعوي المرضي الذي استبد بها، ما لم يكن تراثها الفني والأدبي قوي البناء، شامخ التشييد، وما لم تكن هويتها الثقافية والجمالية راسخة بما يتيح لها إمكانية التواجد والاستمرار، لذلك أصبحت الضرورة تفرض على كل مجتمع عربي يريد أن يتبث للآخر أنه يجاوره ويحاوره ويقارعه حضاريا، أن يحشد كل بناه الثقافية ومكوناته الفنية والجمالية لتتشكل قوته على المقاومة من خلال المهرجانات والندوات والإصدارات، حتى تتجلى فيه صفات المجتمع المبدع والناجح الخالق من مساره التاريخي وتراثه الحضاري صيرورة فنية وجمالية على المستوى البعيد. لذلك فمن الأفيد اليوم أمام هذا التشرذم والتآكل والضياع الذي تعيشه الأوطان العربية، استثمار كل تراثنا الفني والأدبي بشتى ألوانه من شعر وقصة ورواية ومسرح وتشكيل وسينما، لتهيئة منظومة فنية وجمالية فعالة تستطيع بلورة كل المستجدات التي شهدتها الثقافة العربية في السنوات الأخيرة واستثمارها بشكل علمي وفعال. كما لا ننسى أن الاهتمام بالرواية أو القصة على حساب الشعر والتشكيل أو العكس بشكل مجحف، قد يؤذي الذوق العام والهوية والذاكرة الجمالية والفنية العربية التي تشكلت عبر قرون طويلة.
حساسيات مختلفة..
تنتمي التجارب التشكيلية المشاركة في هذا المهرجان إلى «المدرسة» الفنية المغربية المعاصرة، بما تتميز به من تجارب تشكيلية تنأى بنفسها عن بعض التجارب العربية الأخرى، تلك التي ظلت أسيرة للوحة المسندية بمفهومها التقليدي، ولم تستطع أن تخرج من إسارها وتجترح لنفسها أفقا فنيا وجماليا معاصرا. خاصة وأن بعض الأسماء التشكيلية المشاركة هنا قد حققت نجاحا باهرا داخل الأوساط الفنية المغربية، بأسلوبها التشخيصي والتجريدي والواقعي المميز بتقنيات فنية معاصرة متفردة وألوان صارخة أحيانا في وجوه المشاهدين، لا تلبث أن تذكرنا ببعض ألوان ماتيس الوحشية. لوحات تشخيصية وتجريدية وواقعية متحررة من الرطانة الفنية لاجترار الواقع ومحاكاته، بل تعمل بعض الأسماء إلى عملية الهدم المسبقة لذاكرتهم الفنية وما تختزنه من نظريات ويقينيات سطحية مميتة، ليعيدوا بناء عوالم فنية جديدة خاصة بهم، عوالم ظلوا يحفرون فيها بصمت عبر سنوات مجترحين بها لأنفسهم «مشروعا» جماليا وفنيا متفردا، وهي ميزة ظلت تتميز بها بعض تجارب هذا المهرجان عن بعض التجارب الأخرى، التي ظلت تسبح في النهر نفسه أبد الدهر بتعبير هيراقليط، تجارب لم تستطع أن تجدد نبع مائها الذي به تحتمي من التغيرات الفنية والجمالية التي تطاول المنظومة الفنية العربية، وأيضا من رياح وأعاصير النقد وأن تفتح لنفسها آفاقا تشكيلية جديدة، فظلت بالتالي مجرد تحريف بشكل من الأشكال وصدى باهت لبعض التيارات الفنية العالمية على جميع المستويات الجمالية والتخييلية وحتى التقنية، سيما بعض التجارب المغربية الشابة، التي ظلت تنسب نفسها بشكل أو بآخر إلى التجريدية.
في هذا المهرجان المنظم بمدينة الراشدية تواصل تجاربه الفنية نسج علاقات حميمية مع شخصياتها شبه الواقعية بموادها وألوانها، كما تظل ترصد ألم ومعاناة الإنسان والفنان في يومه من خلال فيض من الألوان يتمايز فيها الواقعي بالمتخيل والمكتمل بالجزئي والمتلاشي، إنها لوحات ذات بعد إنساني تصور لنا صراع الفنان في يومه، لوحات فرحة وحزينة، لا هي بالحية ولا هي بالميتة، تعطي للمشاهد والزائر للمعرض انطباع الحضور والغياب في آن واحد، يتعلق الأمر هنا بما تسميه سارة كوفمان بانزلاق الواقع بالعمل، «إذ تضيع كل مباشريته: إنه هنا من دون أن يكون هنا، بلا واقعية لا مكترث، خال من المعنى. لذلك فإن الفن يلغي لدى المشاهد كل إحساس مقرر أو متوقع..مع غياب الشيء المرسوم وصمته يتماثل فتورا للشعور لدى المشاهد أو على الأقل تحويلا لمؤثراته ذات القيمة التطهيرية: يحس بالمتعة فيما يثير الفزع أو الرعب في الحياة الاعتيادية، يحتمل ما لا يحتمل، أو أنه يبقى غير مكترث بما يمكن أن يثير البهجة…»(1).
والحقيقة أن التجارب المشاركة هنا، تنتمي إلى أجيال مختلفة وحساسيات متباينة يتداخل فيها الواقعي و التجريدي والتشخيصي عبر مواد مختلفة ودرجات فنية متفاوتة في الاشتغال.. . عبـد الكريــم الأزهر، رشيد باخوز، خليفـة الدرعـي على سبيل المثال لا الحصـر، تجارب فنيـة استطاعت أن تنفلـت بحساسيتهـا الفنيـة بعيـدا عن زعيق وطبول الساحة التشكيلية وما تحبل به اليوم من تجارب فنية مصطنعة لا علاقة لها بالتشكيل المغربي، كما خبره المشاهد في المعارض الضخمة التي شكلت أحداثا فنية كبيرة عند ثلة من الفنانين الذين أرسوا دعائم الحداثة الفنية المغربية الحديثة منها والمعاصرة كالجيلالي الغرباوي ومحمد القاسمي وأحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية وفؤاد بلامين وعباس صلادي وغيرهم. والحقيقة أن المتتبع للمشاريع الفنية لهذه التجارب الرائدة يلمس تلك الديمومة الجمالية والفلسفية، التي ظلت تسم تجاربهم بالكثير من الاحترافية الفنية، سواء تعلق الأمر بالاتجاه الفطري الذي نقل المغرب إلى الفضاء اللوني، عند كل من محمد بن علي الرباطي، مولاي أحمد الادريسي، محمد بن علال، أحمد الودغيري..أو الاتجاه التجريدي عند كل من أحمد الشرقاوي، الجيلالي الغرباوي، محمد شبعة، محمد المليحي… فالاتجاه التراثي الواقعي عند محمد السرغيني، مريم مزيان، أحمد بن يسف..فضلا عن التعبيرية الواقعية مع عزيز أبو علي، محمد الدريسي وإلى غيرهم من الفنانين الذين نسجوا للمخيلة المغربية عبر تاريخها الجريح تراثا فنيا وجماليا غنيا بالرموز والصور والعلامات.. . لذلك فإن التجارب التشكيلية المشاركة في هذا المهرجان ليست مجرد احتفاء بها وحدها، بل هي تعبير صادق من مهرجان سجلماسة الدولي للثقافة والإبداع والاعتراف برواد التشكيل المغربي «الأموات» والذين ما زال إرثهم الفني حاضرا اليوم بيننا كما سبق لي الإشارة من قبل.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحالة المزرية التي أصبح يعيشها التشكيل المغربي اليوم من طمس للهوية الفنية لدى هؤلاء الرواد (وربما المشاركون بالمهرجان فيما بعد)، تستدعي نوعا آخر من العلاج المستعجل لضخ دماء جديدة في شرايين وسطائه وفي أوردة نقاده وفي كافة جسده المنخور من فرط تبعية الناقد العمياء للفنان، والارتكان وراء الكتابة الصحفية، وما رافقها من تصدع في الكيان الفني والجمالي المغربي، وقد اسهم ذلك في ظهور الكثير من الكتابات الضبابية، التي تخبرنا بوجود معرض فني ما، من دون الحفر في حيثياته وتفجير مكنوناته وفك ميكانيزماته وتخوماته اللامفكر فيها، وهو الأمر الذي أفرز لنا متابعين للمعارض عوض نقاد فنيين، كما تبلور هذا الجنس في الغرب على أيدي نقاد كبار متخصصين في النقد الفني. يقول الناقد المصري أسعد عرابي في هذا الأمر «يجمع الارتزاق الناقد غير المتخصص والفنان المتواضع الخبرة والموهبة، فالأول يستجدي شرعيته من هذا التحالف القائم على المنفعة المتبادلة والمعرفة الشخصية، والثاني يعوض عن قصوره الفني بحضوره الدائم في الصحافة ووسائل الإعلام « (2).
الهوامش:
1 – سارة كوفمان، الفن والاكتئاب، ترجمة عبد السلام الطويل، مجلة حكمة الإلكترونية.
2 ـ أسعد عرابي، النقد الفني بين الشرعية والإدانة، مجلة الوحدة، العدد 70 – 71 أغسطس 1990، ص: 67