عاشت الفنانة سنوات مراهقتها في ظلال الحرب الأهلية التي دمرت النسيج المديني لبيروت، وكان استذكار عبوة قذيفة فارغة ضمن مقتنياتها المبكرة دافعاً لإعادة تفعيل ذاكرة الحرب التي صمتت طويلاً ولكنها لم تمت، كي تعود إلى الوجود مع أحداث الربيع العربي عام 2014، على ضوء النزاع المستمرّ في سورية، الذي دفعها إلى التساؤل عمّا إذا كان البشر قادرين على العيش بسلام. من المؤكد أن اندماج الفنون التطبيقية بالمعنى الحِرَفي، مع فن التجهيز قد أعطى الفكرة جمالياتها القصوى ودلالاتها الرمزية، فقد أمضت كاتيا طرابلسي أربع سنوات جالت فيها على محترفات وورشات عمل، في 12 بلداً (من بينها الهند ومصر وإيران وفيتنام وسلطنة عمان) من أجل تنفيذ مشروعها.
المثير للصدمة هو ليس الموضوع على رغم أهميته، بل الجمال الملموس الذي تمثله تلك القطع (27 قطعة أصيلة) وهي تنبري مثل أوانٍ ثمينة أو جوائز «تروفي» منصوبة على صناديق ذخائر مصنوعة من الخشب، كحقائب مموهة بالأخضر (الذي يذكر بالعتاد الحربي). كل قطعة من حضارة وكل قطعة من مادة وكل حكاية منقوشة أو مرسومة تحيل على أمة مختلفة. لا أثر لأي وجع إنساني أو مأساة من مآسي الحرب، إنها صناعة ماهرة متقنة بذوقية عالية. ننظر إلى كل قطعة كتحفة فنية تحمل على ظاهرها شيئاً من ثقافة بلد وفولكلوره وخصائصه على رغم علمنا بأننا إزاء أشكال من مواد مختلفة مقلّدة طبقاً للأصل عن قذائف قاتلة. الواقع ان فعل التمويه كان قد بدأ منذ اللحظة التي غيّرت فيها كاتيا طرابلسي هوية القذيفة من أداة للقتل الى أداة للفن أو للزينة الصالونية. هكذا أضحت عبوة من المقذوف الحربيّ مجالاً لرؤية حضارة تراث وصفحة نقية لعبور التاريخ برموزه وإشاراته وتراكماته الإنسانيّة. هذا الاستبدال كفكرة مُقنّعة أو كمفهوم جمالي، بكل ما يحمله من خلفيات بسيكولوجية عميقة يستتبع مسائل تتعلق بكيفية إثارة المتعة البصرية بدلاً من النقاش حول الأثر السلبي والكئيب لقطعة من ذاكرة الحرب، هكذا تعيش القطعة بالفن حياة اخرى. غير أن زخرفة الهويّات المتنوعة على عبوات القذائف تبدو كأنها فكرة سابقة، للإسقاطات الأدبية المتلعقة بموضوع «أثر الحرب» لأن بعض القذائف تمثل ثقافات بلدان فحسب، وهي بعيدة عن مجال الحروب الراهنة.
تنتسب الأعمال التجهيزية لكاتيا طرابلسي نظرياً الى الفن المعاصر، في انتمائها الى عالم الأشياء بحاضره الآخذ الى مزيد من الإلهامات الآتية من بلدان العالم الثالث وبؤر التوتر السياسي، إلا أن ذلك لا يمنع من اعتبارها قطعاً حضارية متحفية ايضاً، كونها شبيهة الى حد ما بمقتنيات المتاحف التي تقدم أشياء ومخلفات من حضارات الشعوب القديمة.
فثمة منحوتات خشبية نقش عليها زخارف من طواطم سحرية تمثل شعب البيرو، وأخرى غرائبية تحمل طقوساً شعبية بالخرز الملوّن تمثل ثقافة نيجيريا ومنحوتة تعيدنا الى مرحلة ما قبل القوميات في حضارة المكسيك القديم بآلهتها وأساطيرها وملوكها، انتقالاً الى البورسلين المزخرف بالأزرق المعروف في الصين واليابان، والنقش على المعدن في المغرب العربي وفن التطعيم بالخشب وعروق الفضة في تقاليد المحترف السوري، ورؤوس المعبودات السومرية التي تتوج حضارة العراق القديم، وتتمثل المملكة العربية السعودية بمنحوتة تحمل نقوشاً من الزخرفة الإسلامية والخط العربي، أما حكاية المفاتيح فهي ترمز الى نزوح الشعب الفلسطيني سنة 1948، في حين أن المنحوتة التي تمثّل ألمانيا، فهي محاطة في الوسط بطبقة من الإسمنت مغطّاة برسوم غرافيتي تعلوها أسلاك شائكة ترمز إلى سقوط جدار برلين، وليس غريباً ان نجد ملصقات من شخصيات ديزني وعالم البوب- آرت وأوراق الدولار تزين المنحوتة التي تمثل أميركا، انسجاماً مع الحلم الأميركي… إلا أن تصوير لبنان أتى مرّتين استثنائيّاً. وتتألّف أحدى المنحوتتين من خشب الأرز المنقوش، وهي تصوّر مجموعة رجال على متن قوارب، استوحتها الفنّانة من الفينيقيّين الذين جابوا البحار وأنشأوا ممالك في جبيل، وصور وصيدا قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة. أمّا المنحوتة الثانية فتغطّيها ملصقات ملوّنة مؤلّفة من شعارات الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة الثمانية عشر في أعقاب الحرب الأهليّة… الملكية الثقافية المهددة بالضياع في زمن الحروب.