الفنان تيسير بركات – السيرة الذاتية
فنان تشكيلي فلسطيني من مواليد مخيم جباليا في قطاع غزة عام 1959، ومقيم منذ سنوات في رام الله. يعتبر بركات، عضو رابطة الفنانيين الفلسطينيين منذ عام 1984، من المبدعين ذوي النَّفَس الطّويل وأحد الفنانين التشكيليين المؤسّسين لمرحلة مهمّة من الفن التشكيلي الفلسطيني، ومن الذين اجتهدوا طوال سنوات حياتهم لكي يجدوا هويتهم الإبداعية والفكرية وشخصياتهم الخاصة. كما أنه من أهم الفنانين الذين أخرجتهم غزة بمشواره الفني الذي يمتد على مدار أكثر من ثلاثين عاماً.
ويقول بركات الذي حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من الإسكندرية عام 1983، حين يعرف عن نفسه: “بدأت رحلتي بصقيع جباليا في الصباح وتحديداً ذهابي الباكر إلى مدرستي “مدرسة أبو حسين” وتلصصي في الدخول إلى غرفة الناظر. كنت اقف خلف جذع شجرة كينيا ضخمة منتظراً فتح غرفة ناظر المدرسة بشغف لا يقاوم ومنتظراً أكثر انصراف الآذن لشؤون
المدرسة الأخرى فأدخل متلصصاً أهيم عشقاً في تلك اللوحات المعلقة في الغرفة إلا أن جاء حظي السيئ فضبط متلبساً في صباح أتى فيه الناظر أبكر من المعتاد ونلت ما يحلو من عقاب على أصابع طفل متجمد من البرد.”
ويعلق على فترة اقامته في مصر بقوله: “لم يحفر عميقاً في ذاكرتي الخمس سنوات الأكاديمية التي درستها هناك ولم تجعل مني تلك السنوات فناناً ولكنها لحظات وذكريات وطقس ورائحة اختلطت بطفولة جباليا وخلفت مزيجاً أجيد التعبير عنه بالرسم أكثر بكثير من هذه الكلمات.” ويستعيد أيامه هناك ليعود الى متحف محمود سعيد: “أستذكر القصر ببهوه وأعمدته التي استطالت في لا شعوري أكثر من واقعيتها التي لا تزيد عن الثلاثة أمتار وأصبح البناء أكثر فخامة في ذاكرتي، فقد كنت أقيس الأشياء كما أعرف– مخيم جباليا والذي لا يزيد ارتفاع أعلى شباك فيه عن الأرض بالمتر ونصف، ناهيك بأني اعرف أغلبية شبابيكه التي تتساوى مع الأرض وأعرف إعدادا أكثر من الشبابيك والتي يكون منسوبها 5 أمتار تحت سطح البحر. أخذني هذا الفنان المرهف وصفعني بالوجوه النضرة وتصويره الدقيق للحفلات الأرستقراطية ولحقبة من تاريخ مصر عاصرت الفترة الباشوية واللحظات الأخيرة من زوال حقبة من الحكم التركي لمصر. كان الفنان محمود سعيد أميناً في حزنه على زوال هذه الفترة وكان تعبيره أميناً في توثيقها.”
بعد تخرجه وعودته الى البلاد انتقل بركات مباشرةً الى قرية دير غسانة (25 كم من مدينة رام الله) هناك قضى قرابة الشهر لينجز 15 لوحة وليقيم معرضه الفردي الاول في ساحة القرية. وتكتب الفنانة والباحثة سامية حلبي في هذا السياق: “هناك في دير غسانة نذر تيسير نفسه للحضارة القديمة لبلاده وبلادي، لرسوماتها ولإيحاءاتها.. الايحاء الذي حصل عليه من معايشة الحياة في القرية الفلسطينية ترك فيه انطباعاً راسخاً– انطباعاً مرتبطاً بشكل حميمي مع ترعرعه بمخيم لاجئين. في دير غسانة اكتشف تيسير مصادر قوة اللاجئ.” وتؤكد حلبي بأن “تيسير بركات ينظر الى فنه كإعادة تأكيد للفن الفلسطيني القديم. وبالفعل، اذا ما قمنا بالبحث عن الأسلاف القدامى للعالم العربي المعاصر فسنجد مصادر تعبيره البصري وفكره.. الفنون العراقية، الكنعانية، الفينيقية والمصرية القديمة حاضرة بوضوح في أعماله ان كان على المستوى البديهي او المدروس“.
ولطالما تطلع بركات الى المساهمة في بناء فن فلسطيني وعربي معاصر على أن يكون الاساس لهذا الفن هو تاريخنا نحن وليس الاعتماد على المصادر الامريكية والأوروبية. وهو يولي في هذا السياق أهمية كبيرة لكون الرموز في أعماله رموزاً اجتماعية ولكون مجتمعه قادر على فهمها بصفتها تنبعث منه وتعود اليه. وكما تشير حلبي: “على العكس من الرسامين الاوروبيين والأمريكيين المعاصرين، فتيسير ليس معنياً ب“الرمزية الفردانية” لا سيما وأنه يرى بأنها تنطوي على تناقض ضمني فالرمزية تهدف بطبيعتها الى ايصال فكرة مشتركة وعليه لا بد لها أن تكون اجتماعية لا فردانية.. تيسير يشبه بهذا المعنى الكثير من فناني عصرنا الذين يدعمون تحرر المجموعات القومية والطبقات العاملة، والذين يعتمدون التكعيبية في أعمالهم كأساس لبناء العمل الفني. أمثلة جيدة عن ذلك نجدها في الرسومات الرائعة لفناني الجداريات المكسيكيين كدييغو ريفيرا، خوسيه كليمنتي اوروزكو، دافيد الفارو سيكيروس وغيرهم.”
تمكن الفنان بركات بموهبته الفنية التي لا تشوبها شائبة من تنفيذ تراكيب مؤثرة، حيث تتشابك لوحاته بواقعه المتمثل في كونه ابن لاجئ وخاضع للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ولكن برغم هذا الواقع المتجهم، إلا أنه لا يمكن اعتبار لوحاته خالية من الأمل أو اعتبارها مليئة باليأس؛ بل إن ما يهمه هو السرد، أن يخبرنا عن قصته أو قصة شعبه من خلال فنه. وعليه، ليس من قبيل الصدفة بأنه يصف أعماله كفسيفساء من الصور تعكس تاريخ فلسطين العام ونضاله الشخصي في العيش تحت الاحتلال.
وكما يشير الكاتب منذر جوابرة: “ما يميز الفنان بركات في شخوصه، أنه يعكس علاقة متينة بين مفهومين، المكان والإنسان. ففي نظرة محلية تجد الإنسان الفلسطيني الذي ينتمي للمكان وما يعانيه من تفاصيل حياة ملآ بالتحدي، والمعاناة والانتظار. حركة أعماله مأخوذة من المكان، ولم يتجاوزها الفنان، بل بقي مخلصاً لها وعاملاً طوال الوقت على تطويرها وتقديمها بعدة وسائط مختلفة. أما في نظرة تتجاوز المكان الفلسطيني، فنلحظ الخطاب الإنساني خارج فلسطين أيضاً وسهولة فهم وانتماء العمل لحيوات أخرى انسانية. وهذه لا تأتي بسهولة، وإنما تحتاج للتجريب والصدق والتواصل مع شخص الفنان وما يحمله من أفكار ورؤى خاصة، وبين طرق المعالجة التي يحتاجها العمل دون الوقوع في التكرار والتشابه.”
ويؤكد الكاتب راضي شحادة من جهته على ذلك حين يقول: “لدى تيسير ميلٌ جارف الى ربط ما خزّنه بداخله من تقنيات وصور من الماضي والحاضر، وامتداد لأشكال من حضاراتنا القريبة منا جغرافياً والبعيدة زمنياً كالفرعونية والكنعانية والسريانية والآشورية، وصولاً الى شرق آسيا وحتى ثقافات الإنكا. يبحث بشكل دؤوب عن النفس البشرية المنتشرة على سطح الكرة الأرضية، ولكن كينونتها النائية التي تشكل نتاجه النهائي كامنة فيه هو الفرد الفنان المعبّأ بفلسفته الخاصة المنطلقة من باطن مخزونه الفردي الإبداعي الخاص الى الظاهر المرئي أمامنا على شكل لوحة تبدو في معظم ما أنتجه وكأنّها رقيم (أثريّ)، وحتى وإن احتوت على حَيَواتٍ من الحاضر الحي فهي تبدو للناظر وكأنّما هي نتاج تنقيب عن أحفوريات لمخلوقات رحلت عن عالمنا، فإما أنّها استقرت في الأرض بأشكالها المتحولة من حالتها الجسدية المكوَّنة من لحم ودم الى حالات تختلط فيها أشكال مدفونة مكشوفٍ عنها، مع أشكال لأرواح طائرة هائمة “مُتَمَرْفِزة“(متحولة)، وخيالات و“سيلويتات“(خيال الظل)، تنبئك بأنّ هذا الباطن المتخبّط المرتبك المهموم القلِق الحالِم الباحث ناتجٌ عن سرّ علقتنا منذ لحظة انطلاق هذه الكينونة البشرية بين دفّتي الولادة والموت، وكأنما يريد أن يقول لنا بأنّه ليس متأكدا بأننا سننشطر في النهاية الى حالتين إحداهما أرضية مدفونة وأخرى سمائية سابحة في الفضاء. تبدو خيالاته الرقيمية وكأنما هي انشطار كلي للروح عن الجسد. إنّها لوحات على شكل شطحاتِ ريشةِ فنّانٍ حالم، وعلى الرغم من أنّك لأول وهلة تجد فيها العفوية وبراءة الأطفال إلا أنّها نابعة من عمق الوعي والنضوج. إنّ قوة وعالمية لوحات ورسومات تيسير بركات تكمن في مقدرته على تجيير السهل الطفولي العشوائي التجريبي الى فلسفة صعوبة السهل الممتنع.”
وحول معنى الشخصيات المحلقة في أعماله بعيداً عن بقية المجموعة يقول بركات: “مجموعة الصور هذه تشكلت بتأثير الأجواء في مخيم اللاجئين وذكريات الطفولة. الشخصية الوحيدة هي فكرة كانت معي منذ الطفولة، وهي تعني الحرية والهروب من الواقع ومن ألم المخيم.” ويضيف: “جدتي حكت لي القصص الميثولوجية لفلسطين وحين كبرت صرت أحترم وأفهم أهميتها. وقد صرت آخذ المقتطفات من الأدب ومن الصور التي تظهر كيف عاش أسلافنا القدامى، كيف أحبوا، قاتلوا وعملوا على هذه الأرض“.
يرى بركات في بحثه عن المواد جزءاً هاماً من شكل وجوهر العمل على حد سواء. وهو يتقاسم في هذا السياق طموحه لاستخدام المواد التاريخية مع كلا الفنانين مصطفى الحلاج وسليمان منصور. كما يتقاسم معهما تعامله مع المادة كجزء من المضمون– أي أن البحث عن المواد الملائمة ليس بحثاً عن الشكل فقط انما عن المعنى الذي يمكن تمريره من خلال استخدامها. وقد استخدم بركات في سنواته الاولى الزيت على الخشب. ولكنه استغنى عن الزيت بعد أن شعر بأنه لا يناسب احتياجاته. وصار وما زال يستخدم الكولاج وكذلك الأحبار والصباغ على الورق كما جرب الجرافيتي والألوان المائية والوسائل الفنية المختلطة. ويوضح شحادة في هذا الخصوص: “لا يقيِّد تيسير مختبره بمادة معينة بعينها فهو يتنقل في عمله من الأكريليك الى بَرَادَة الحديد الى الخشب والخشب المحروق، الى جبلات وخلطات لمواد متلاحمة ومتناقضة ومواد لاصقة، وكل ذلك رهنٌ للاختبار والتجريب، فقد يعرض المواد للحرارة والبرودة والتذويب والتلصيق الى أن يصل الى اكتشافه. إنّه يجيّر عوامل الطبيعة في بَرْدها وحرِّها وتقلُّباتها لكي يصوغ شكل وألوان مخلوقه المنطلق الى الحياة على نار هادئة وبنَفَسٍ طويل.” وقد ابهر بركات في تحويل برادة الحديد– القوي والصلب الذي تصنع منه الطائرات وآلات الحرب– الى لوحات فنية دقيقة التفاصيل. وهو يقول بأن ما دفعه لاستخدامه هو “محاولته ايجاد حوار لمناقشة الغبار الناجم عن الدمار“. أما عن اختياره معالجة الخشب بالنار فيوضح: “لقد اخترت الخشب والنار كي أخلق حالة جديدة من هذين المتناقضين، وأبدل حالة الإفناء التي يمارسها أحدهما على الآخر، ومنهما حاولت إطلاق رسالة حول قضية شعب ومعاناة يومية نعيشها في الأراضي المحتلة. الخشب عدو للنار وعدوه اللدود وهاتين المادتين من المواد الاولية للحياة– اذا لامست النار اكثر مما يجب تحرق، لذا هذه الملامسة بين النار والخشب هي كالحب فدرجة الملامسة ونوعها هي التي تكفل عملية الاحياء والتألق واستنطاق الطاقة الكامنة من المادتين“.
يميل بركات عادةً الى ترسيخ جو أحادي اللون في أعمالة فنراه يستخدم في كثير من الأحيان الأبيض والأسود فقط. وحتى بعد ان خاض الحرق على الخشب وأضاف له الصباغ فقد بدت هذه كاستمرارية لأساليبه المبكرة من حيث ان الحروق السوداء على خلفية الخشب الطبيعي تبقى احادية اللون ودراماتيكية في تناقضها. وتنم أعماله هذه عن حساسية لعلاقة السالب\الموجب بين الشخوص والخلفيات، وهو النمط الكامن في فن الخط العربي بوضوح.
لم يغادر تيسير بركات مدرسته او مذهبه في الشكل والمضمون منذ بدايات طريقه في الرسم. بقي متشبثاً في فلسفته الخاصة باحثاً عن تقنياته من مواد وأدوات جديدة ومتجددة يستعملها لكي يحقِّق فلسفته التي تميزه بشكل واضح عن غيره. ويلخص الكاتب منذر جوابره الى القول: “لقد قدم بركات خلال مسيرته الفنية العديد من التجارب والأساليب ذات البعد التجديدي التجريبي والتي تجاوزت الأساليب المتبعة آنذاك في تجربة الفن الفلسطيني. كما قدم بعدها مجموعة أعمال أخرى تقدم رؤية فنية معاصرة مازجاً ما بين رسالة الأسرى الفلسطينيين الإنسانية، وتقديمها بصرياً في قوالب زجاج تنتمي للتجديد أيضاً في مشواره الفني بالرغم ان العمل بقي على سياق سياسي بالدرجة الأولى. الفنان تيسير بركات، اسم ينتمي لتاريخ الفن الفلسطيني الحديث في بداية الثمانينات والتسعينات، وفي أكثر الأوقات حاجة للفن، وفي زمن نسيان الفن من أجل القضية الفلسطينية، فقدم نفسه في زمن فلسطيني داخلي منشغل بكل وجدانه في مجابهة الاحتلال دون الانتباه لأهمية الفن في فعل هذا الدور، بل الفنان وحده مع مجموعة زملاء مهمين كان لهم الأثر في خلق هذا التواصل الفني بين الداخل والخارج، وبين وضع لبنات أولى لمرحلة قادمة نعيشها الآن من خلال التجديد والمعاصرة.”
يقضي بركات معظم وقته بين مرسمه وبين مقهى زرياب الذي افتتحه في رام الله منذ سنوات والذي يعرض فيه لوحاته ولوحات وأعمال فنانين فلسطينيين آخرين. من الصعب أن نحصر قائمة معارضه، ولكن نذكر من بينها معرض بينالي ساو باولو الدولي عام 1997، ومعرض النمسا عام 2006، ودمشق عام 2010، وبينالي الإسكندرية عام 1989، وروما (1989-1996)، ومتحف الفن الحديث في ستوكهولم عام 1996، ومعرض مقر الأمم المتحدة في نيويورك عام 1997، ومعهد العالم العربي في باريس عام 2000، وبينالي الشارقة عام 2003، ومتحف الفنون المعاصرة في هيوستن بولاية تكساس، ودبي وغيرها الكثير.
الفنان تيسير بركات – ارشيف الاعمال الفنية
روابط هامة
موقع مصغر لمؤسسة فرحات الثقافية للفنان تيسير بركات، هنا.
صفحة تيسير بركات على الفيسبوك، هنا.
روابط أخرى: