الفنان ابراهيم هزيمة -السيرة الذاتية
ولد الفنان إبراهيم هزيمة في مدينة عكا في العام 1933، ولجأ مع أسرته بعد نكبة فلسطين في العام 1948 إلى الجمهورية العربية السورية حيث استقر في مدينة اللاذقية. برزت موهبة هزيمة كموهبة فنية فطرية ظهرت ملامحها في سن الخامسة من العمر، وذلك عند رؤيته لرسامة أوروبيةجالسة في المقهى الذي يعمل به والده، فوقف أمامها لساعات يتأمل ما تقوم به هذه الفنانة، وعندما عاد إلى البيت بدأ يرسم خطوطاًوملونات. ثم تطورت موهبته في المرحلة الدراسية على يد الأستاذ عبد الرحمن قباني الذي شجعه وساعده في تهذيب أدواته الفنية ونضوج حسهالفني بشكل موجه ومنظم. ودأب هزيمة على تطوير نفسه بنفسه حتى بدأ بتدريس الفن في المدارس بسوريا وهو ما زال في سن التاسعةعشر رغم أنه لم يكن قد درس الفن بنفسه بعد. وقد أصبح بعدها معيداً في كلية الفنون، حيث قام في تلك السنوات بتقديم دراسة في معهدفرنسي كانت بمثابة دراسة تأسيسية للتعرف أكثر على الادوات التقنية والمصطلحات الفنية.
في العام 1960 مكنته موهبته من الحصول على بعثة دراسية لاستكمال دراسته الأكاديمية الفنية في ألمانيا بمدينة لايبزيغ، حيث درس فنونالتصوير في أكاديمية الفنون الجميلة لدى البروفيسور برنهارد هايزش ولقي تفهماً عميقاً ساعد في صقل موهبته وتطور عمله الفني أثناء فترةدراسته. تخرج بتفوق في العام 1963 وعمل كمعيد في معهده لمدة خمس سنوات، وقام بعملية هضم واستيعاب للفن الأوروبي، من خلال دراسات واسعة وعميقة محورهاالفنانين المشهورين في أوروبا، الأمر الذي ساعده في تكوين أسلوبه وخطه الفني الخاص والمتميز. وطابت له الاقامة في مدينة برلين الالمانية فاستقر فيها وما زال يسكنهناك حتى اليوم.
من أحضان التعبيرية الألمانية، راح هزيمة يبعث من خلال لوحاته تصاميم لأحياء عربية، جوامع وكنائس وقبب، نساء باللباس التقليدي يحملن خيرات البلاد، أولاد يلعبون فيالشارع، أمهات يحملن اطفالهن وغيرها من الثيمات التي أصبحت طريقته في اعلان ارتباطه بأرض فلسطين والتعريف بها. وكما يكتب غسان دهشان ومارغريت حصريفهزيمة يعيش هاجس فلسطين التي تسكن بداخله، وقد شكل التراث الفلسطيني الراسخ في ذاكرته نقطة تجاذب بين ريشته وألوانه فقام بتشكيل وبرسم الصور لتعبر عنبنيانه الوجودي كإنسان مشتاق ومتعطش لوطنه المفقود وطفولته المسلوبة وشبابه المنثور في البلاد المختلفة.
مدينة عكا في قمرها وبحرها وبيوتها العامرة وناسها الطيبين حاضرة بقوة في لوحاته التصويرية لا تغادر ذاكرته. هي ساحة فنه وميدان جامع لمخيلته وميدانه التعبيري البصريوالوجودي. وقد شكلت المدن والقرى الفلسطينية عامةً وعلى الأخص مدينة القدس وطمره وكفر ياسيف وغزه ورام الله قاعدة فنية تعبيرية زخمة تعبر عن انتماءه الوطنيلفلسطين. أما البيوت الريفية فمثلت عمقاً كبيراً في أعمال هزيمة حتى كانت بمثابة بصيص أمل لانفعالاته الحسية والعاطفية التي تصنع من الشجر والنسوة حاملات الأطباقبمثابة ولائم بصرية لمكونات الحالة والموقف التشكيلي. أما بالنسبة للمرأة فقد تجسدت بقوة في أعماله كمن ترمز للأم والعطاء والصبر والمحبة والارتباط بالجذور. الشخوصلديه محملة بالرمز ومسكونة بعالم الطفولة الفرحة والقلقة. عيون مندهشة ومنتظرة ومبصرة باتجاه الغد الآتي والمحمل بالفرج القريب وأطياف العودة لأرض الأهل والجدود.أشخاص يحملون سمات وخصائص الشعب العربي الفلسطيني من هيئات الوجوة المدورة والمتدثرة بأغطية الرؤوس التراثية والأجساد المزينة بأثواب مطرزة بملوناتوخطوط وزخارف فلسطينية.
أكثر ما تعكسه أعمال الفنان إبراهيم هزيمة هي روح المكان الممتزجة مع الإنسان، فالمدن والحارات التي رسمها تصبح كما الحلم تحت إشراقة شمس متجددة متوهجةبالأمل، ويكاد لحن حركة النساء في هذه الأمكنة التي يرسمها أن يسمع كحياة يمكن قطاف بهجتها– إبراهيم يعزف هذا اللحن كل مرة مشبعاً بالضوء وكأنه يريد القول: إنالحياة ستعود إلى هذه الأرض ولا بد أن تعود. وقد جعله ذلك الأكثر رومانسية في توصيفات فضاء الجغرافية والطبيعة الفلسطينية، ذات التوجه الرمزي المُحمل بتجليات الواقعوالتراث.
لوحاته مفتوحة على الاتجاهات الواقعية التعبيرية والتعبيرية الرمزية، وكما يقول الفنان والناقد عبد الله ابو الراشد: “الفنان هزيمة يعد حالة متفردة في الفن التشكيليالفلسطيني المعاصر وخارج عن سرب الرسم التقليدي وله طريقته الخاصة في رصف واختيار مفرداته وتوزيع عناصره التشكيلية وأساليب معالجته التقنية من خط ولون وبنيةتركيبية لمعالم نصوصه البصرية ومقاماته. تلك المأخوذة بالاتجاهات التعبيرية بالفن والمتكئة على حدائق الوطن الفلسطيني المستلب وما تبقى من مخزون التراث الشعبيالفلسطيني العالق في ذاكرة الفنان وحيز تفكيره وموهبته وخبرته. يتنسم انغامه ويعيش تفاصيله التذكارية عبر نصوص تشكيلية حافلة بذاكرة المكان الفلسطيني المتخمةبحركية اللون ورقص المعاني وتناغم المرصوف الايقاعي لجمالية الخط واللون المعبرة عن حكاية شعب وتاريخ وطن ومواطنة. تفرد اسلوبي لفنان عرف اسرار صنعتهوطرائق توصيل رسائل حبه وهيامه بمساحة الوطن.”
من جهته، يشير هزيمة: “مواضيع أعمالي الفنية تصور ترجمة لونية لمشاعري وأحاسيسي الدفينة الحية للحياة في فلسطين الحبيبة، بإيقاعات واضحة متكررة، عناصرهاالإنسان، والأرض، والبيت، والشجرة، والضوء. يحتل الإنسان الفلسطيني مكان الصدارة في عملي الفني، أحلامه، ورغباته، وتشوقه إلى الحرية والعيش بأمان وسلام في أرضهالحبيبة فلسطين. الإنسان في لوحاتي يقف بثبات كشجرة راسخة الجذر في الأرض وجذعها متعالياً بأغصان في السماء. ويمكنني القول إن من يشاهد أعمالي يطل على روحيوحبي لوطني وأهلي.”
عن أسلوب هزيمة يقول ابو الراشد: “لوحاته محكمة ببنية شكلية رتيبة، مجالها الحيوي الهندسة الفراغية التكعيبية ذات المدلول المعماري البسيط المتناسل من واحاتالمكعب والمربع والمستطيل وقطع الاشكال المتوالدة في سياق مكرر ومتناظر ومتماثل، سواء في مظهر الجدران وفتحات النوافذ والأبواب، وعناق الخلفيات الملونةالمتداعية والحاضنة للعناصر والمفردات الاساسية في كل لوحة من لوحاته والتي تبني جسراً بصرياً متوحداً في عين المتلقي كأساس معرفي وبصري دال على وحدتها العضويةكشكل ومضمون. فيها المشابهة في الشكل وأساليب المعالجة التقنية المعتمدة على امتداد المساحات اللونية من ريش الرسم والتلوين العريضة والمتوسطة والرفيعة،ترصف حدود تكويناتها في ألفة ورتابة ايقاعية مدروسة، تقوم في آليتها التقنية على توزيع متوازن للخطوط والألوان والمساحات الحاشدة بزهو الاحمر والأصفر والأزرقوتدريجاتها الاشتقاقية. تعطي فسحة لملونات قوس قزح للمرور العابر في توليفاتها البصرية كإيحاء بصري لحيز المكان والذاكرة.”
البنية الهندسية لعموم لوحاته مؤسسة على أساس تقطيع اللوحات إلى ثلاثة مستويات رؤية وبمسافات طولية وعرضية متماثلة بعض الشيء: المنطقة الخلوية العليا مخصصةللسماء وتداعيات النجوم والغيوم وسواها، والمستوى الشكلي المقابل في أسفل اللوحات فيه حسبة لونية وخطية متوازنة ومتممة ومتكاملة في ملامسها وسحنتها التقنية،بينما يعتلي وسط اللوحة جوهر الفكرة والموضوع المطروح. ولعل لوحته التي تحمل اسم “القدس بعد المطر” نموذجاً مناسباً لمجموع تجلياته الوصفية والتقنية، ومفتاحاً شكلياًلجميع تجلياته البحثية، نفذها بألوان “غواش” المائية، وسعى فيها إلى تكريس مواهبه وخبراته ودربته التقنية. وقد عبر الفنان إبراهيم هزيمة عن حسه الفني ووجوده الإنسانيفي كثير من الأعمال الأخرى أهمها: لوحة “الإنتفاضة“، ولوحة “إنتظار“، ولوحة “فلسطين بلد أحلامي“. أُستخدمت العديد من رسوماته كطوابع فلسطينية للمراسلات البريديةتصور قضايا وهموم الوطن والانتماء والهوية، وكان طابع سنة 2003 قد حصل على المركز الثالث لأجمل طوابع في العالم في المعرض الدولي الذي أقيم في فيينا. منمشاركاته المميزة نذكر مشروع الرسم على الدب– الذي يعتبر شعار برلين– الذي تدعمه منظمة اليونسكو، حيث ينظم سوق للمزايدة، يقدم بعد ذلك القسم الأكبر من ريعهلدعم أطفال العالم، ومن ثم تعرض الدببة في دول عديدة في العالم تحت شعار التسامح والحرية والأمن والسلام وحقوق الإنسان. الى ذلك فقد شارك هزيمة في إخراج ديوانالشاعر الراحل الكبير محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” بصورة مبدعة ذات حرفية فائقة ورسومات تجسد نفس المعنى.
أقام هزيمة العديد من المعارض في ألمانيا وأوروبا وتونس وسوريا ومصر والكويت وموسكو، بالإضافة لدول أخرى، وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة الشراع الذهبيفي المعرض الكويتي العاشر للفن التشكيلي العربي في العام 1987. أما في العام 1988 فقد انتخب رئيساً للجنة الوطنية التشكيلية الفلسطينية في اليونسكو.
يعتبر هزيمة اليوم من أبرز سفراء فلسطين الفنيين في العالم يحمل جمالياتها الى كل مكان تحل فيه لوحاته، وقامة فنية تشكيلية فلسطينية لها مكانتها في مساحة التشكيلالعربي والعالمي. أما على المستوى الفلسطيني فلا شك بأنه واحد من أعمدة الفن التشكيلي الفلسطيني ومن رواده المؤسسين، وجدت أساليبه ومحتوى لوحاته طريقها إلىلوحات الآخرين كمرجعية ثقافية وبصرية للعديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين.
Tags: إبراهيم هزيمة,