يعتبر الفنان سليمان منصور من أهم الرسامين الفلسطينين، ان لم يكن أهمهم اليوم، ومن أبرز الفنانين العرب الذين ما زالوا على قيد الحياة حيث تزين لوحاته منازل ومكاتب هواة جمع التحف الفنية الشغوفين في كافة أنحاء العالم بينما أضحت بعض أعماله بمثابة جزء لا يتجزأ من الذاكرة الفلسطينية الجمعية.
ولد سليمان منصور عام 1947 في بيرزيت وقضى طفولته في الريف الفلسطيني بين بيرزيت وبيت جالا. فقد والده وهو ما زال صغيراً وانتقل للدراسة في المدرسة الانجليكية اللوثرية في بيت لحم ليلحق فيما بعد بوالدته التي كانت قد استقرت في ضواحي القدس .
وقد أبدى منصور اهتماماً بالفن منذ أن كان فتياً وحصل على تشجيع من احد مدرسيه الاوائل، فليكس ثيز، الذي أطلعه على “الرينسانس” والفن الاوروبي عامةً وقام بتوجيهه على المستوى التقني. وقد بدأ منصور برسم البورتريهات نقلاً عن الصور وهو ما زال بسن المراهقة، الأسلوب الذي سيعود لممارسته في مرحلة لاحقة من مسيرته الفنية.
وقد كانت لهذه البدايات والتدريبات المبكرة الفضل في اثراء مجموعة البورتريهات التي رسمها منصور والتي تعتبر من الاوسع اطلاقاً على المستوى الفلسطيني (احدى هذه البورتريهات كان لجده بولص خوري من عام 1965).
في عام 1967 كان من المفترض بأن يباشر منصور تعليمه الأكاديمي في “مؤسسة شيكاغو الفنية” ولكن الأحداث التي اندلعت في نفس العام اضطرته الى تغيير خطته والبقاء في القدس خوفاً من ألا يستطيع العودة اليها. هكذا بدأ الدراسة في اكاديمية الفنون “بتسلئيل” حيث وسع معرفته بنظريات الفن الاوروبي وانكشف على أعمال الفنانين الاسرائيليين الاوائل وكذلك أعمال مدربيه في التعليم. خلال هذه الفترة كان عليه ان ينتقل بين شرقي القدس حيث تسكن عائلته وغربها حيث تواجدت الاكاديمية، مراراً وتكراراً، وقد ترك هذا الفصل والتقسيم الذي عايشه آنذاك أثراً ملحوظاً على أعماله الأولى واختياره للمواضيع التي تعاطى معها كما نلاحظ في لوحته من عام 1973 “جمل المحامل“. وقد بدأت هذه المواضيع في حينه تظهر في أعمال جيل من الفنانين الفلسطينيين بالخارج لا سيما اسماعيل شموط، وقد سنحت الفرصة لسليمان منصور الاطلاع على اعماله التي عبرت عن تجربة الفقدان والتغريب خلال زيارة الى دمشق عام 1966.
كانت “جمل المحامل” بداية شهرة منصور لا سيما وأنها تحولت لايقونة ورمز للقضية الفلسطينية محلياً وعالمياً. في تعليقه على اللوحة يقول: “عندما رسمت اللوحة، لم أتوقع أن تصبح رمزاً للنضال الفلسطيني، ولكنني سررت بهذا الإنجاز، وفي نفس الوقت أرهبني نوعاً ما، لأنه حمّلني عبئاً ثقيلاً“.1 ويوضح منصور بأنه لا يعتبر “جمل المحامل” أفضل أعماله من الناحية الفنية، ومع هذا فهو لا يقلل من شأنها– مثله بذلك مثل محمود درويش وقصائده التي أخذت بعداً جماهيرياً– فهي تمثل مرحلة في مسيرته الفنية.
وكما كان لاسماعيل شموط الأثر الكبير على تصوير التجربة الفلسطينية، ساهم منصور منذ السبعينيات في إنشاء رموز تصويرية للنضال الفلسطيني، وساعده وجوده في البلاد على توثيق المراحل والتحولات التي واكبها على مر السنين. بعض القواسم المشتركة في مجموعة أعمال منصور هي شجرة البرتقال (التي تعتبر رمزاً لنكبة 1948)، وشجرة الزيتون، ونقوش التطريز الفلسطيني التقليدي، الحياة اليومية في القرى، وشخصية المرأة الفلسطينية التي تظهر في كثير من الأعمال. ويرى منصور بأن المرأة ترمز في أعماله وأعمال العديد من الفنانين الفلسطينيين –خاصة في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي– إلى الثورة والوطن والأم. وتظهر هذه في بعض الأحيان وكأن قوافل من الناس يخرجون من رحمها وفي أحيان أخرى كشريكة في النضال او في فلاحة الارض. “بالإضافة إلى النواحي الجمالية والتعبيرية التي تحملها المرأة في الفن، فهذا المفهوم للمرأة موجود في الفن العالمي منذ الفترة الرومانسية على الأقل. إنني ولغاية اليوم أرسم المرأة لأنني لا زلت أبحث عن الثورة والوطن المحرر.”
في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته كان الفن الفلسطيني في الأرض المحتلة يبحث عن وسائل للتعبير عن الهوية الوطنية، وفي مسعاه هذا نهل من أربعة مصادر أساسية وهي التراث والفن الإسلامي والفن الكنعاني والفن العالمي الذي يعالج قضايا الاضطهاد والتحرر. يقول منصور: “كل فنان تقريباً مر على هذه المصادر وانتقى منها ما يلائمه بمن فيهم أنا، ولكن تركيزي كان على التراث وخاصة الأزياء الشعبية والتطريز الفلسطيني الذي يعتبر من أغنى الحرف الفنية في مجاله على مستوى العالم، من حيث قدمه وتنوعه وانتشاره الواسع، خاصة في النصف الجنوبي من فلسطين. وشمل بحثي هذا جانباً نظرياً وآخر عملي حيث ركزت على استعمال الأزياء الشعبية والتطريز بكثرة في أعمالي الفنية للتعبير عن موضوع الهوية.”2
شكل عام 1972 بداية مرحلة جديدة في مسيرة الفن الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد كان البداية الفعلية للفن التشكيلي الفلسطيني الحديث والتي انطلقت مع معرض الفنان الراحل عصام بدر الشخصي الأول في القدس .يتذكر سليمان منصور تلك الفترة، ويقول: “التقينا في هذا المعرض، واكشفنا أن قرابة العشرين فنانًا تشكيليًا يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة)، ومن هنا انطلقت فكرة تأسيس اتحاد أو رابطة للفنانين التشكيليين، رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منحها ترخيصاً“، لكن منصور وبدر وغيرهما أصروا على تأسيس الرابطة التي نظمت أول معرض مشترك للتشكيليين في القدس عام 1975، والذي انتقل من بعدها إلى رام الله، ونابلس، والناصرة، وغزة، وكان بمثابة أول اتصال ما بين الفنان والجمهور: “في نابلس أقيم المعرض في مبنى البلدية، ولكثافة الجمهور اضطرت البلدية للاستعانة بعناصر من الشرطة لتنظيم دخول الوافدين إليه. فقد عبّرت اللوحات المعروضة عن هموم الشعب الفلسطيني وطموحاته باللون والخط، خاصة في حضور الفنانين أنفسهم، الذين خاضوا نقاشات معمقة مع الجمهور، تركت أثرها عليهم، وهم من آمنوا بأنهم رأس الحربة في مقارعة الاحتلال، وأنهم لا بد أن يصلوا بلوحاتهم إلى كل منزل أو غالبية المنازل الفلسطينية.”
في مرحلة لاحقة، بدأت قوات الاحتلال باقتحام المعارض ومصادرة ما فيها، وخلال فترة قصيرة باتت هذه المعارض هدفًاً للاحتلال الذي راح يصادر ما لا يروق له من أعمال فنية. هكذا كان في مطلع الثمانينات عندما أقام منصور معرضًا شخصياً له في “غاليري 79″ في رام الله التحتى، فاقتحمت قوات الاحتلال المعرض، وصادرت لوحاته وأغلقته. ويروي منصور حكاية مثيرة للدهشة في تلك الفترة، فيقول: “تم استدعاؤنا من قبل سلطات الاحتلال، أنا، ونبيل عناني، وعصام بدر، وقرؤوا علينا أوامر تتعلق بالممنوعات الإسرائيلية فيما يخص الأعمال الفنية الفلسطينية، ومن بينها حظر رسم ألوان العلم الفلسطيني، حتى أنهم أكدوا لعصام بدر، الذي عقب على قراراتهم، أن أي لوحة تتضمن هذه الألوان حتى لو كانت تعرض بطيخاً، سوف تجري مصادرتها لتضمنها ألواناً ممنوعة. ولقد منعنا كذلك من إقامة أي معارض دون تصريح من رقابة الاحتلال، التي تذرّعت بقانون يعود لحقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، مما عقد عملنا كفنانين، لكننا تحايلنا على الأمر من خلال العرض في البلديات، التي كانت ذراعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية في معظمها“. ويضيف منصور: “ساهمت هذه القرارات التعسفية في استقطاب الكثير من الفنانين العالميين الذين عبروا عن تضامنهم معنا، وأقمنا معارض مشتركة تحت عنوان “فليسقط الاحتلال“، وقد استمرت هذه الحال حتى الانتفاضة الأولى عام 1987″.
في 1987، أسس منصور مع زملائه الفنانين فيرا تماري وتيسير بركات ونبيل عناني مجموعة “نحو التجريب والابداع“، المبادرة التي أطلقت رداً على أحداث الانتفاضة الأولى. بينما كان هؤلاء الفنانون يدعمون النهج الثوري في جماليات الفن الفلسطيني، فقد ساهموا كذلك في الانتفاضة بمقاطعتهم الأدوات والمواد الفنية المستوردة من إسرائيل: كان ذلك باختيارهم العمل باستخدام مواد طبيعية، مثل القهوة والحناء والطين، وقربط سيرورة صناعة الفن بالأرض والنضال معاً. وقد وثّقت مجموعة أعمالهم مرحلة هامة من تاريخ الفن الفلسطيني، ومع أنهم كانوا يتبنون أهدافاً قومية مشابهة لغيرهم من فناني الأسلوب الواقعي الاجتماعي، فقد كمن تميّزهم في التركيبات الفنية التجريدية. لم يعد الفن مجرد تعبير عن السياسة بل أصبح الإنتاج الفني بحد ذاته فعلاً سياسياً.
قام منصور، من ضمن ذلك، برسم أعمال الكاريكاتير التي نشرت من 1981 وحتى 1993 في الفجر الأسبوعية، وهي جريدة أسبوعية باللغة الإنكليزية كانت تصدر في القدس سابقاً. كما صمم الملصقات السياسية التي بدأ هو وغيره من الفنانين الفلسطينيين بطباعتها لكي يتمكنوا من ايصالها للجمهور وإيصال الرسائل السياسية التي حملتها. ويروي منصور تفاصيل تلك المسيرة فيقول: “قررنا طباعة أعمالنا في ملصقات (بوسترات) واتضح لنا بأنها كانت خطوة ناجحة حيث وصلت أعمالنا إلى كل بيت تقريبًا، بل وجرى وضع إطارات لها وعرضت في أماكن بارزة في المنازل والمحال التجارية“. وبعد أن تنبهت سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتأثير تلك الملصقات الفنية، نظمت حملات عدة لمصادرتها بل وفرضت غرامات على من يقوم ببيعها أو توزيعها. ويرى منصور أن الفن التشكيلي الفلسطيني في تلك الفترة، كان الأكثر تعبيرًا عن الانتفاضة، مع عدم التقليل من أهمية صنوف الفنون والآداب الأخرى، من شعر ورواية ومسرح، وغيرها، على الرغم من الحضور المهم للأغنية أيضًا.
ويؤكد منصور في حديثه حول أوضاع الفنانين التشكيليين في فلسطين أن “وجود الاحتلال ترك أثره في الفن التشكيلي الفلسطيني، فهو بشكل أو بآخر يدور في فلك هذه القضية، حتى أن وجود الاحتلال أثّر في حجم اللوحة الفلسطينية، فنحن ننجز لوحات صغيرة الحجم نوعاً ما حرصاً على نقلها بسياراتنا الخاصة إذا ما تعذر نقلها بوسائط نقل أخرى، كما أننا حرمنا بكثير من الأحيان من التواصل مع الفنانين الفلسطينيين داخل أو خارج البلاد أو من نقل أعمالنا لإقامة المعارض في أماكن أخرى“.
كان منصور من الفنانين الفلسطينيين الأوائل ممن تحولوا عن الرسم واستخدموا الطرق غير التقليدية في فنهم. فقد أنتج المجمسات الناتئة بالجبس وقام بالدق على النحاس وتطعيمه وصب المينا عليه وبحرق الخشب وبصياغة الخزف وتبصوير الجداريات الفسيفسائية ذات الموضوع الكنسي. كجزء من ارهاصات الإنتفاضة الأولى والمحاولات لإبتكار السبل التي تعزز الإكتفاء الذاتي، قام منصور باستخدام خامات من البيئة الفلسطينية ومنها الطين على الخشب، الفخّار الأثري، الحِنّاء، الشيد على الخشب، الألوان المائية والخيش. بيد أن تركيزه الأساسي إنصب على الأعمال الزيتية والطينية، حيث بدأ بإنتاج أعمال طينية في عام 1989 كونه اكتسب من جدته سلمى في طفولته حرفة بناء بيوت النحل بواسطة خليط من طين الحور والتبن. وقد صاغ منصور هذه الأساليب كلغة بصرية فنية خاصة به، واشتهر منذ تلك الفترة من خلال مجموعة فريدة من الأعمال استخدم فيها الطين كمادة فنية. عبر صب طبقات من الطين وتشكيل تركيبات تصويرية داخل إطار خشبي، بسط منصور مادة الأرض الفعلية لرسم فلسطين وتاريخها وشعبها. ومع إنجازه لتلك الأعمال بأحجام متنوعة، بعضها بالحجم الطبيعي، خلق الفنان ما وصفه بعض النقاد بـ“رموز الاضمحلال“، حيث أن الشقوق والتشوهات التي تظهر في سيرورة التجفيف توحي بمرور الوقت وزوال ما هو مادي.
وقد فرض الواقع الفلسطيني ألوانه على أعمال منصور فكما يقول بنفسه أن “الموضوع الكئيب الذي يحاكي مأساة هذا الشعب والتي لا توازيها أية مأساة في العالم يفرض عليّ اختيار هذه الرماديات والألوان المطفأة بشكل عام، كما أني عندما أعالج موضوعاً يتعلق بأرضٍ مسلوبة من أهلها أجد نفسي لا شعورياً ألجأ لهذا اللون البني في أعمالي“.
قام منصور بالعقدين الاخيرين بتصوير قضية الحواجز العسكرية الإسرائيلية ونقاط التفتيش إضافةً إلى جدار الفصل العنصري الذي اقامته إسرائيل. في حديثه عن موضوعات أعماله يبين: “بالتأكيد لكل مرحلة من مراحل هذا الصراع همومها الكبرى، وربما غدت قضية الحواجز العسكرية تشكل ألماً يومياً لكل مواطن فلسطيني داخل الأرض المحتلة. أنا شخصياً أضطر لاجتياز الحاجز بشكل يومي كي أذهب من منزلي إلى مرسمي وهذا بحد ذاته كفيل ليدفعني إلى إنجاز أعمال تحاكي هذه المعاناة الإنسانية واليومية.” ويضيف: “في بعض الأعمال هناك توظيفات مقصودة متداخلة مع الرمزية الأساسية لشكل القطع الإسمنتية التي يبنى منها جدار الفصل العنصري والتي غدت معروفة للجميع، فحاولتُ على هذه القطع أن أنقل تفاصيل أخرى، لذا أدخلتُ في إحدى اللوحات الخطَّ العربي مع الأيقونة المعروفة في تاريخ كنائس مدينة القدس، كما عملتُ على تصوير اليوميات التي تتشابه بين الفلسطينيين على الحواجز، فوجدتُ نفسي أرسم أطفالي أو أمي المسنّة أو حتى أرسم أشخاصاً يشبهونني في ملامحهم لأنقل هذا الواقع بحساسية أكثر إنسانية.”
ويقول الناقد نصر جوابره في مراجه لمنجزات منصور عبر أربع وخمسين عامًا:
كان الخيار لتلك المدرسة الثورية التي رافقت جلّ حركات وتجارب التحرر منذ نهايات القرن التاسع عشر وازدهرت وتنامت مع تصاعد النهج الاستعماري ونزعات الهيمنة والظلم الاجتماعي في أدب ومسرح وفنون القرن العشرين، ليقدم على تلك الأسئلة باكورة أعماله التي هيمن عليها الجسد البشري ضمن صياغات ومعالجات اقتربت من النزعة الواقعية في الرسم، لكن ليس بالمعنى التسجيلي\الفاكتوغرافي للمشاهد بل من روح المدرسة الواقعية بكل ما تتسم به من خيارات وحلول تمنحها للفنان بوصفها من أشد الاتجاهات الفنية غموضًا واشكالية واختلافًا وتباينًا وتعددية في التعبير. فجاء فهم منصور لتلك المدرسة في سياق ارتباطها والتزامها بالواقع لا في سياق تسجيلها الحرفي الساذج لذلك الواقع، الأمر الذي مكّن الفنان من تقديم واقعية خاصة به منحته هامشًا فكريًا ورؤيويًا لذاته المبدعة، فخرجت بناه وأشكاله الواقعية ممزوجة بالرمزية أحياناً وبالتعبيرية أحياناً أخرى، بل وبالروح السيريالية– لابالمعنى المدرسي والحرفي للمفهوم– المتمثلة بتوليفات بصرية وجمالية غلب عليها المنحى التحليلي والتركيبي للمشاهد والمرجعيات المأخودة من الواقع وإعادة صياغتها بما بتناسب ومضامين أعماله الفكرية.”
ويضيف جوابرة: “كامتداد للبحث والقلق المتواصل الذي رافق التراكم الواعي للفنان في سياق رحلته في البحث عن فردوسه المفقود، استمر الطين بكونه محور تجربة وبحث منصور في العقد الأخير من القرن العشرين، وبدأت تلك الخامة بليونتها ومطاوعتها وانصياعها لإرادة الفنان تتخد شكلًا وخطابًا آخر للتعبير (كالأعمال التركيبية في معرض “انا اسماعيل“ التي استخدم فيها الطين على الخشب3). فباتت أجساد منصور البشرية تتخلق وتعود ثانية في سطوح وبنى أعماله الطينية في تلك المرحلة ولكن بسكونية عالية تفصح عن مشهدية خلق طقوسية ولمسة قدسية تشي بانبعاث متجدد لصاحب الأرض حيث الإنسان – الوطن في علاقة انصهار وتوالد تستحضر في ذهن المتلقي حميمية العلاقة وجذورها مابين الذات والرحم الأولى– الأرض.”
عاد منصور في السنوات الأخيرة إلى خامة الزيت على الكانفاس ليرسم الإنسان والوطن من جديد لكن بواقعية متجددة تقترب من الرسم المفهومي، حيث الأجساد التائهة والملتصقة بالجدران الكونكريتية والمحتجزة بين أسوار العزل والفصل العنصري، شجرة الزيتون والسلالم الفارغة. كما قدم أعمال رقمية عالجها بالاستناد على مفردات من لوحات عالمية كلوحة “خلق آدم” للفنان الإيطالي مايكل أنجلو من عصر النهضة، حيث وظف منصور الأيادي الممدودة لبث الروح على مقطع من جدار الفصل العنصري مركبة رقميَّا، فكانت تجاربه الأخيرة مليئة بالاستعارات الذكية والمعالجات الواعية التي عكست مرونة وطلاقة الفنان واستجابته لما يحدث للفنون البصرية من تطور وتحول وقدرته في الاستفادة مما يستحدث من أدوات وطرق تعبير معاصرة، وكما يلخص جوابره: “لم يكتف منصور بالدور الريادي الذي لعبه بجدارة في خارطة الفن التشكيلي داخل وطنه، بل جسد بحضوره الدائم ومواكبته ومحاولة التجديد الدائم لأدواته مثال الفنان الباحث المسكون بهم الإبداع بقدر ما يسكنه وطنه النازف، حتى شكل بأعماله ذاكرة وطنية وبصرية وثقافية تؤرشف لأهم محاور الصراع السياسي والتطور الفكري والثقافي داخل فلسطين، حتى باتت أعماله وما مرت به تجربته من تطور وتحول تشكّل مشهدًا يعكس خارطة التطور العام للفن التشكيلي داخل الأرض المحتلة، الأمر الذي يجعل من تجربته مرتكزًا هامًا من مرتكزات الفن التشكيلي المعاصر داخل فلسطين.”
1 عملياً كانت هناك ثلاث نسخ للوحة “جبل المحامل“. الاصلية التي فقدت في مكتب بشارع صلاح الدين، والنسخة الثانية من عام 1975 التي بيعت لصالح معمر القذافي (حاول الفنان خالد حوراني من خلال فيلم وثائقي معرفة ماذا حل بهذه بعد الأحداث التي عصفت بليبيا) والنسخة الأخيرة من عام 2005 والتي بيعت ب– 257 ألف دولار!
2 شارك في تأليف كتاب “الملابس الشعبية الفلسطينية” وكتاب “دليل التطريز الفلسطيني” التي أصدرتها جمعية إنعاش الأسرة في البيرة التي كان عضواً في مجلس إدارتها.
3 سلسة من أهم أعماله التي بدأها في 1996 بعنوان “أنا إسماعيل” حيث شكل بالطين حفراً بارزاً لشخصية اسماعيل التواراتية داخل ما يشابه شاهد الضريح: بإحيائه ذكرى هجرة إسماعيل وعلاقته بالأرض، يشير منصور من خلال العنوان إلى ارتباط سيرته الذاتية بقصة إسماعيل.
Tags: سليمان منصور,