من النادر أن يجمع المصور الفوتوغرافي (أو الفنان بشكل عام) بين الرؤية الجمالية الذكية وبين العبقرية التجارية، غير أن فرانسيس فريث (1822- 1898) وهو مصور بريطاني، نجح في التوليف بين فهمه العميق لما يجعل من الصورة عملاً مؤثراً وبين القدرة على تسويق صوره، بل وصنع ثروة طائلة من ورائها.
ولد فرانسيس فريث في شسترفيلد، ديربشاير، عام 1822 من أبوين تقليديين من الطبقة الوسطى، ولم تعرف لهما أية ميول فنية. ولما كانا يتبعان معتقدات الكوكيرز، فقد أرسلا ابنهما فرانسيس إلى مدرسة تابعة لذات المذهب في بيرمنغهام، حيث درس لمدة أربع سنوات. وفيما بعد كتب في مذكراته أن تلك المدرسة كانت بمثابة كابوس له، بسبب طبيعتها الروتينية المملة.
ترك فرانسيس المدرسة في سن السادسة عشرة، ولم يكن ذلك علامة على كسله أو كرهه للتعلم، إذ أظهرت مسيرته اللاحقة إهتمامه بالميتافيزيقيا والشعر وحتى بالهندسة، والأهم من ذلك شغفه بالرحلات والتاريخ. وقد برهن منذ نشره لكتابه المصور الأول عن مصر وفلسطين على قابليته العالية للتأليف.
بعد تخليه عن الدراسة وضعه والداه في مصنع لصنع سكاكين وأدوات الأكل المعدنية، لكنه لم يجد نفسه في هذه المهنة، إذ أصيب بعد خمس سنوات بانهيار عصبي تطلب منه أن يصرف بضع سنوات أخرى في السفر عبر بريطانيا لغايات الاستشفاء والراحة.
وفيما بعد دخل في شراكة في مجال البقالة في ليفربول، ورغم تحقيقه نجاحاً تجارياً إلا أنه قام في عام 1850 (حين كان في الثامنة والعشرين) بحل شراكته هذه، وانتقل إلى مجال الطباعة حيث أسس شركته الخاصة به. وبعد نحو ست سنوات باع شركته لمنافسيه الرئيسيين في المدينة، وحقق من ذلك أرباحا كبيرة مكنته من التحول الحاسم نحو مجال الفوتوغراف الذي كان مهنة ناشئة حينذاك.
كيف تحول فريث نحو التصوير الفوتوغرافي؟
من غير المعروف كيف أثار التصوير الفوتوغرافي اهتمام فرانسيس فريث حتى باتت مهنته حتى نهاية عمره ومصدر ثروته المستقبلية. وهناك عدة افتراضات بهذا الخصوص، منها أن سفره في أربعينيات القرن التاسع عشر إلى إسكتلندة قد مكنه من التعرف على أعمال أحد رواد صناعة كاميرات التصوير الضوئي، وهو و.هـ. فوكس تالبوت W.H Fox Talbot، والمقصود هنا آلة التصوير المعروفة باسم كالوتايب (CALOTYPE)، وكان تالبوت قد نشر في 1845 كتاباً حمل عنوان “صور شمسية في إسكتلندة”.
ومع اكتشاف عملية معالجة الصور المعروفة باسم wet collodion on glass processعلى يد فريدريك سكوت آرتشر F.S. Archer، باتت ممارسة التصوير الفوتوغرافي عملية ميسرة ومتاحة لكل من حصل على التدريب اللازم. وفي آذار/ مارس 1853 كان فريث واحداً من ثلاثة وراء تأسيس جمعية ليفربول للتصوير الفوتوغرافي، ومن بين الأعضاء السبعة الذين شاركوا في الاجتماع الأول للجمعية المذكورة فقد تم التعريف بفرانسيس فريث كمصور محترف.
ومن ناحية أخرى فإن ممارسته لمهنة الطباعة لعدة سنوات سابقة ساعدته على احتراف التصوير الفوتوغرافي، بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين المهنتين. وكشاب ورجل أعمال “فكتوري النزعة” فإن اختراع آلة التصوير وإنتاج الصور الفوتوغرافية قد ترك تأثيرا قويا عليه ودفعه لتكريس نفسه لهذه المهنة. وإذ وضعنا جانباً الكتاب المتواضع الذي نشره فوكس تالبوت عن صوره في إسكتلندة، فان فرانسيس فريث يعد فعلياً أول ناشر إنكليزي للصور الفوتوغرافية، بل إنه كان أول منتج وموزع للصور على نطاق واسع في إنكلترا. وقد عالجت مؤسسته “ف. فريث وشركاه” وباعت ملايين الصور في مختلف الأشكال، سواء المعدّة للتأطير والتعليق على الجدار، أو على شكل بطاقات بريدية، أو للمشاهدة بواسطة آلة الستيريوسكوب، أو كصور تزيينية للكتب ولا سيما الكتب المقدسة.
رحلات فريث الثلاث
من رحلاته إلى إيطاليا اكتشف فريث إرتباط الصور الفوتوغرافية الوثيق بالسياحة، فقد امتلك معرفة جيدة بما يريده زبائنه من صور الرحلات التي يلتقطها. إذ أدرك أن هؤلاء يريدون منه مشاهد يستطيعون من خلالها الإندماج فيها بخيالهم أكثرمما يريدون صورة “جيدة”، لكن تفتقر إلى إعطاء الإحساس بالمكان. وهكذا فقد وجه فريث أنظاره نحو مصر وفلسطين لجاذبيتهما الدينية والتاريخية. وقام بثلاث رحلات عمل إلى الشرق الأوسط، إستمرت أولى هذه الرحلات نحو عام، ما بين أيلول/ سبتمبر 1856 وتموز / يونيو 1857. وقد شملت وادي النيل، وصولاً إلى معبد أبو سمبل. أما رحلته الثانية فقد بدأت بتشرين الثاني/ نوفمبر 1857 ولتنتهي في أيار/ مايو 1858. وخلال هذه الرحلة سافر فريث بحراً من مصر إلى يافا الميناء الرئيسي لفلسطين، بهدف الوصول إلى القدس، ومن ثم إلى سورية ولبنان.
لقد مهدت رحلته الأولى إلى وادي النيل عام 1856، رؤية طموحة للحصول على صور تتجاوزفي قوتها – حسب تعبير فريث نفسه – أكثر المشاهد التي صاغها الفنانون التشكيليون يوماً في لوحاتهم القماشية. وقد رافقه في الرحلة الاستكشافية الأولى إلى وادي النيل فرانسيس هـ.ونهام، الذي كان يعاونه كتقني إضاءة.
ومن اللافت للانتباه أن فرانسيس فريث لم يشر في كتابه عن مصر، ولا في أي مكان آخر إلى دور فرانسيس هـ.ونهام، الذي على ما يبدو لعب أدواراً أكبر مما كان يعتقد في إنجازات فريث التصويرية، خلال رحلته الأولى لمصر (أيلول/ سبتمبر 1856 – تموز/ يوليو 1857)، والتي حققت له تلك الشهرة الواسعة. ففي تلك الرحلة أحضر فريث معه من إنكلترا قاربا بخاريا صغيرا عالي الضغط، لاستخدامه في تنقلاته في نهر النيل. وكما يقول الناقد بيل جاي Bill Jay فإنه من غير المعروف من قبل أن فرانسيس هـ. ونهام كان مخترع ذلك القارب الذي رافق فريث في رحلته المصرية الأولى، وفوق ذلك أنه كان مصوراً فوتوغرافياً ممارساً في تلك الرحلة ذاتها. ويبدي بيل جاي استغرابه لأن فريث الذي كتب الآف الكلمات واصفاً مغامرته في الشرق الأوسط لم يذكر اسم ونهام في كتاباته أبداً، رغم لعبه دوراً رئيسياً في نجاحات فريث.
كان فريث قد تعاقد إثر رحلته الأولى إلى مصر، مع ناشرين لتوزيع صوره التي طبعت على شكل بطاقات ستيريوغراف، وأخرى على شكل نسخ أكبر حجماً. كما راقب، بعد عودته من رحلته الاستكشافية الثانية، ردود الفعل المرحبة بصدور كتابه الأول: “مصر وفلسطين” الذي نشر عن طريق جيمس س. فيرتو James S. Virtue في لندن ونيوريوك.
قام فرانسيس فريث برحلته الثالثة والأخيرة للشرق الأوسط وأفريقيا في صيف 1859 حيث استمرت لعدة أشهر من العام التالي. وقد أنجز خلالها صوره الأولى لإثيوبيا منها ميرو (Meroe) التي كانت المدينة الأهم لمملكة كوش القديمة. خلال هذه الرحلة أعاد زيارة القاهرة ووادي النيل، لكنه اندفع أكثر نحو الجنوب، ولمسافات لم يصلها مصور آخر من قبل، إلى صولبSoleb البلدة الأثرية في بلاد النوبة، وهي الآن جزء من السودان، ثم إلى وادي حلفا. وقد اختتم رحلته الثالثة هذه بعبور شبه جزيرة سيناء وشرق الأردن حيث مر بالبحر الميت شمالاً، وخلال ذلك التقط المزيد من الصور لهذه المناطق وصولاً إلى القدس.
ومع إتمامه لهذه الرحلة الاستكشافية (الثالثة) كان فريث يملك عن جدارة الثروة الأكبر من المشاهد المصورة عن الشرق الأوسط في إنكلترا. وقد استخدم صوره الفوتوغرافية الملتقطة في فلسطين ومصر لتزيين طبعتين للإنجيل صدرتا في حياته. إن سلسلة ماكينزي المؤلفة من 4 مجلدات (1862) احتوت على 148 صورة مطبوعة، مستمدة من رحلاته الثلاث إلى الشرق الأوسط. وبعد ذلك كرس فريث كامل وقته لشركة المطبوعات التابعة له، مكتفياً بالتصوير بالمناسبات في بريطانيا، ووظف في هذه الأثناء عدة أشخاص لإدامة أعمال النشر الخاصة به.
وقد استمرت مؤسسته التي تحمل اسم F. Frith & Co في مجال النشر الفوتوغرافي حتى تصفيتها نهائياً عام 1971، وهي الآن تدار كمجموعات بحث في التصوير الفوتوغرافي. هذا، وللآن ينظر إلى فرانسيس فريث باعتباره الرائد في مجال تصويرالشرق الأوسط، سواء من زاوية دوره في التصوير الاستكشافي والطوبوغرافي، والتعريف بعالم مثير للاهتمام، سواء لثروته الآثارية والسياحية او لكونه مسرحاً للتطورات السياسية والنزاعات المتسارعة.
أهمية فرانسيس فريث كناشر للصور
وعموماً اكتسب فرانسيس فريث أهميته ليس فقط من الصور الفوتوغرافية المميزة التي التقطها في بلدان الشرق الأوسط، وإنما أيضاً من خلال وضع بصمته الخاصة ومساهمته المبكرة في مسيرة نشر الكتب المصورة. لقد وصف عن حق كعبقري إنتاجٍ من الناحية التجارية، ومن حيث القدرة على توزيع وتسويق صوره.
كان أول كتبه المصورة تحت عنوان: “مصر وفلسطين” من تصوير ووصف فرانسيس فريث. وقد طبع عام 1858م ألفي نسخة. وكان هذا بداية سلسلة من المطبوعات الخاصة بصور الرحلات، التي صدرت في عدة طبعات عن دار “فريث وشركاه”. وفي عام 1860 أصدر فريث كتاباً جديداً هو “مصر، النوبة، وإثيوبيا” متضمناً 100 مشهد على شكل بطاقات مزدوجة الصور (ستيريوغراف).
قدم فريث لأول مطبوعاته للصور الفوتوغرافية التي التقطها في مصر وفلسطين بالكلمات التالية: “لقد اخترت كبداية لأعمالي بلدين إثنين ينظر إليهما باعتبارهما الأكثر إثارة للاهتمام عالمياً: مصر وفلسطين”. إن اختياره هذين البلدين للقيام بأول مغامرة فوتوغرافية يرجع جزئياً إلى شعوره الديني الحقيقي، ولرغبته القوية في خوض تجربته في هذين المكانين المميزين. ومن ناحية أخرى كانت مصر “قضية الساعة” حينذاك في أوروبا، بسبب الاتفاقية الموقعة عام 1856 ما بين مصر وفريندناند دي ليسيبس الخاصة بشق قناة السويس. ويذكر هنا أن هذا الاتفاق الخاص بقناة السويس كان وراء نقل البريطانيين والدوائر الأوروبية الأخرى اهتمامهم في الشرق الاوسط من القسطنطينية، عاصمة الدولة العثمانية، إلى القاهرة.
وهكذا، وبفضل اختراع الكاميرا فقد شهد علم الآثار (الأركيولوجي) قفزة نوعية كبرى، وخاصة بالنسبة لعمل الآثار المصري الذي بات مصدر إلهام للعالم الغربي. وعلى الصعيد الفني كانت اللوحات المرسومة وكذلك فنون الديكور المستوحاة من تراث منطقة الشرق الأوسط قد اكتسبت شعبية هائلة بين الفنانين، حدث ذلك حتى قبل غزو نابليون لمصر.
عبر القرن التاسع عشر، باتت مصر والبلاد المقدسة أكثر الوجهات إثارة للمسافرين والرحالة الغربيين في ما يسمى “الرحلة الكبرى” (Grand Tour). وقد شجع على ذلك نشر عدة كتب خلال أربعينيات القرن التاسع عشر عن بلدان المشرق، ساهمت في وضع الأرضية لتنظيم المزيد من الرحلات السياحية إليها.
هذا، ويشير بعض دارسي أعمال وحياة فرانسيس فريث إلى أن رسوم الفنان البريطاني ديفيد روبرتس الذي زار مصر وبلاد الشام في عام 1837، وعاد لينتجها في مجموعة كبيرة من اللوحات المحفورة، والتي بدورها صدرت في عدة ألبومات، قد تركت أثرها في اهتمام فريث بمصر وفلسطين والمشرق عموماً، وشكلت حافزاً له على مضاهاة هذه الرسوم من خلال الصور الفوتوغرافية.
تزوج فرانسيس من ماري آن روزلين، وأنجبا خمسة أبناء وبنات، وقد توفي في فيلا له في مدينة كان الفرنسية، على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط في 25 شباط / فبراير 1898.
لقد ترك فريث وراءه إرثاً كبيراً من الصور الفوتوغرافية، التي نشرت في مجموعة واسعة من الكتب التي يمكن الحصول عليها من منافذ البيع الإلكتروني. ورغم أن معظم هذه الكتب المصورة تضم مشاهد من الحياة البريطانية من تصوير فريث المبكر، إلا أن أشهرها وأهمها كتبه المصورة عن الشرق الأوسط وأفريقيا، مثل كتاب “مصر، النوبة وإثيوبيا” الذي يضم مئة صورة ستيريوغراف، وكتاب “مصر والأراضي المقدسة في صور تاريخية”، والذي يضم 77 صورة من تصوير فريث لمشاهد من مصر وفلسطين والأردن وسورية ولبنان.
بقي أن نقول أن فرانسيس فريث لم يكن مجرد مصور فوتوغرافي أو رجل أعمال منغمس بتجارته الرابحة. فقد أظهر بعداً هاماً في مسيرته، ألا وهو انشغاله بإيجاد حلول جمالية تتعلق بالتصوير الفوتوغرافي، إذ كانت تشغله مسألة تحديد الأبعاد الملائمة لتصوير موضوعاته، وهو ما حفزه على تقديم مقاربات عملية لتلك المسائل ذات الأبعاد الجمالية.
*رسام ومصور وباحث في الفنون