“السينما السورية”.. البرعمة في “حلب” والحريق في “الشام”
الخميس 03 تشرين الأول 2013
رغم دخول السينما باكراً إلى “سورية” وبمباركة من النخبة المثقفة، حيث دخلت عروض “السينما” من بوابة “حلب” /1908/، واستغرق الأمر /4/ سنوات لتبدأ في “دمشق”، إلا أنها اصطدمت بالكثير من العوائق قبل تأميمها عام 1969.
السينما السورية عاشت سنوات متقلبة منذ بدايتها، تنافس عليها عدد من المنتجين وشركات الإنتاج الخاصة حتى انتهى بها المطاف إلى صناعة محصورة بالمؤسسة العامة للسينما عام /1969/، مدونة وطن “eSyria” عادت لتراجع تاريخ السينما السورية منذ البداية وحتى صدور مرسوم بحصرها في “المؤسسة العامة للسينما”، وكيفية تفاعل الجمهور والمستثمرين معها، يقول “رشيد جلال” في مقدمة كتابه “قصة السينما في سورية”: «دخلت السينما البلاد في البداية كاختراع جديد ضعيف الشأن، لأن الناس لم تسمع عنه قبلاً لعدم توافر المواصلات والاتصالات السريعة ووسائل النشر من صحف ومجلات أجنبية وإذاعات لاسلكية.
إن السينما كانت كارثة لمن أراد أن يجني المال بسرعة، فهي ليست كوسائل الاستثمار الأخرى بل تحتاج إلى دراسة وخبرة ودقة فائقة في العمل لذلك كان عدم توافر الخبرة لديهم سبباً في احتراق الصالات المجهزة بهذه الآلات الخطرة واحدة تلو الأخرى في “حلب” و”دمشق” والمدن السورية الأخرى وتسببت في إفلاسهم، إذ كانت غايتهم الربح العاجل من أقرب طريق فيلحق بهم الضرر
وبالأبرياء أصحاب المنازل القريبة من صالاتهم التي كانت تحترق هي أيضاً.
مع هذا لم تتوقف حركة الاستثمار إذ جاء بعدهم من تمكن من لجم الآلة السينمائية واستثمارها رغم أخطارها، وحققت ثروات طائلة وأدخلت على الآلة اختراعات وقائية مختلفة ولم نعد نسمع عن حوادث الحريق بسبب السينما إلا نادراً».
تاريخياً كان لمدينة “حلب” السبق في تقديم أول عرض لفن السينما عام /1908/ حين وفدت إلى “سورية” جماعة تركية عرضت صوراً متحركة، من خلالها تعرفت “سورية” عموماً على فن “السينما” بعد ذلك التاريخ بأربعة أعوام أي عام /1912/، يذكر الأستاذ “بشار منافيخي” في مقال له في جريدة الثورة بتاريخ 31/7/2007 كيف دخلت السينما إلى “سورية”:
«عرضت أفلام صور متحركة عام /1912/ في مقهى “زهرة دمشق” الذي كان يستثمره “حبيب الشماس” في ساحة “المرجة” في “دمشق”، وكانت آلة العرض تدار باليد والضوء فيها يتولد من مصباح يعمل على (غاز الإستيلين)، وأول دار للسينما أسست في “دمشق” كانت سينما (جناق قلعة) وذلك في أواخر العهد العثماني عام /1916/ وقد افتتحها قائد الجيش الرابع العثماني “جمال باشا السفاح”، وسميت بهذا الاسم تخليداً لانتصار الجيش العثماني على الأسطول البريطاني في مضيق “جناق قلعة”، وقد أنشئت الصالة من الداخل على طراز المسارح الأوروبية ، وكان أول عرض قدمته عبارة عن فيلم سينمائي من صنع ألماني يتضمن فيلماً إخبارياً استعراضياً للجيش الألماني في “برلين”».
يحدثنا الأديب “علي الطنطاوي” في كتابه “دمشق صور من جمالها وعبر من نضالها” بأنه كان من الحاضرين في حفل الافتتاح فيقول: «أين يسهر من يريد سهراً أو لهواً؟ وما في البلد إلا سينما أنشأها الأتراك للدعاية الحربية وكانت في موقع البرلمان، أخذونا إليها فأرونا (فيلماً) عن حرب “شنا قلعة” أثناء الحرب الأولى.
وبعد عروض استمرت شهرا ًمن افتتاح الصالة، اندلع حريق سببه حرارة القوس الكهربائي لآلة العرض فاحترق الفيلم بعد انقطاعه ولم يكن في صالة السينما أية وسيلة للإطفاء، فاندلعت النيران في كافة أرجاء السينما، وبقي بناء السينما خراباً مدة طويلة حتى أقيم مكانها مبنى “البرلمان السوري”».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن السينمائي “محمود حديد”- الذي يعد “شيخ كار” للسينما السورية- يرى أن احتراق “سينما جناق القلعة” قد يكون مفتعلاً، خاصة إذا نظرنا إلى هذا الحريق ضمن السياق التاريخي الذي وقع فيه، ويضيف “حديد” لمدونة وطن بتاريخ “15/6/2010”:
«افتتحت هذه السينما في أوضاع سياسية توصف بالصعبة للحكومة التركية الجديدة آنذاك، وكان نشاط الحركات العربية الداعي للتحرر من الحكم التركي في تصاعد، ونظر أهالي “دمشق” إلى هذه السينما التي افتتحها “جمال باشا السفاح” على أنها “دار للفسق”، ولم تكن تحظى بمباركتهم، لذا أعتقد أن حادثة الاحتراق قد تكون مدبرة، خاصة أنها لم تكن الوحيدة في “دمشق”، إنما عادت لتداهم أكثر من سينما خلال مدة قصيرة».
بعد هذه الحادثة تم تحويل أحد المسارح في “دمشق” والمقاهى الكبرى إلى دار عرض كبيرة عرفت باسم “زهرة دمشق” حيث عرضت فيها أفلام فرنسية بوليسية وأفلام فكاهية لـ”ماكس لاندر” الفرنسي الذي كان من أشهر الممثلين الهزليين في ذلك
البرلمان بني على أنقاض سينما “جناق قلعة” |
الحين، تصادف افتتاح “سينما زهرة دمشق” مع انتهاء الحرب العالمية الأولى عام /1918/.
بعد ذلك افتتح شخص أجنبي اسمه “إليكو بوليسيفتش” صالة سينما “الإصلاح خانه” في سوق “التبن” بـ”دمشق” ومسرحاً شعبياً، هو مسرح “النصر” بإدارة “محمد الأغواني” وتاجر سلاح أرمني اسمه “أرميناك”، وقد أسسا في هذا المسرح دار سينما عرفت بسينما “النصر”، لم تعمل هذه السينما سوى فترة قصيرة بسبب منافسة كل من سينما “زهرة دمشق” وسينما “الإصلاح خانه”، وتم تجديد هذه الدار فيما بعد، واستحضرت لها الآلات والمعدات من “ألمانيا”، وقام أصحابها الجدد بمساعدة ميكانيكي اسمه “بهجت المصري” بتزويد الدار بوسائل كهربائية حديثة كالمراوح السقفية والإنارة الآلية وأجهزة العرض المزدوجة.
كانت الأفلام التي تعرض في سينما “الإصلاح خانه” من النوع الأميركي تمثل بطولة رعاة البقر والعصابات المكسيكية، وفي عام /1924/ أغلقت سينما “الإصلاح خانه” وتحولت إلى مرآب للسيارات، فافتتح “توفيق شماس” وهو ابن “حبيب شماس” سينما “الكوزموغراف” التي أصبحت فيما بعد “سينما أمية” في شارع “البحصة” في “دمشق”، أما “أديب الشربجي” فقد طور عمله وأصبح من كبار مستوردي الأفلام، وافتتح عدة دور للسينما في الضواحي والمدن الأخرى من “سورية”، وأخذ ينافس “حبيب الشماس” وأولاده، أول مؤسسي دور السينما التجارية في “سورية”، الذين كانوا أسياد الموقف في حينه.
بعد هذه الفترة أنشئت مجموعة من دور العرض الحديثة في “دمشق”، وغيرها من المدن السورية، حتى وصل عددها إلى /100/ دار موزعة في مختلف مدن وبلدات القطر، أما أول من أدخل السينما الناطقة إلى دور العرض في “سورية” فكان “ملهى العباسية” عام /1934/، كان مشيداً في موقع فندق “سميراميس” الآن، وقد زُوّد بآلات فرنسية من صنع شركة “غومون”. كانت الآلات التي وضعت مؤلفة من جهازين للعرض، يعمل كل منهما على سرعتين، /16/ صورة و/24/ صورة في الثانية، السرعة الأولى للأفلام الصامتة، والثانية للأفلام الناطقة.
يوضح الكاتب “جان ألكسان” في كتابه “تاريخ السينما السورية 1928-1988” أن أول فيلم سينمائي سوري حمل اسم “المتهم البريء” تم تصويره خلال ثمانية أشهر، بذل القائمون على إنتاجه كثيراً من الجهد، كما بلغ طول شريط الفيلم /800/ متر أنتجته شركة “حرمون” فيلم للإنتاج السينمائي التي أسسها “رشيد جلال” وشركاؤه في “دمشق”. تمت إعادة تصوير الفيلم بسبب ظهور ممثلة مسلمة ما أثار غضب رجال الدين وتمت الاستعانة بفتاة ألمانية اسمها “لوفانتيا” كانت تقيم في “دمشق”، تم الانتهاء من التصوير والعمليات الفنية للفيلم /1928/ وعرض في سينما “الكوزموغراف” في ساحة “المرجة” بـ”دمشق”.
في ذلك العام /1933/ افتتح في دار مدرسة “التجهيز” في “دمشق” وفي الحدائق المحيطة بها معرض باسم “معرض دمشق وسوقها” بهذه المناسبة جاءت من “مصر” الى “دمشق” الممثلة السينمائية السيدة “آسيا داغر” صاحبة مؤسسة “لوتس فيلم” تصحبها ابنة شقيقتها الآنسة “ماري كويني” ومعهما أول فيلم من إنتاج “لوتس فيلم” اسمه “غادة الصحراء” إخراج “وداد عرفي” التركي الأصل وتمثيل “آسيا” و”ماري”، عرض الفيلم في معرض “دمشق” وفي الهواء الطلق واستمر عرضه ثلاثة أيام.
في الأربعينيات والخمسينيات تم إنتاج عدد من الأفلام الروائية، كما ظهرت شركات جديدة واهتمام
محمود حديد – شيخ كار السينما السورية |
خاص من قبل الدولة بالسينما بعد الاستقلال، من أبرز الرواد في هذه الفترة وفي تاريخ “السينما السورية” المهندس “نزيه الشهبندر” حيث أسس “استديو” للتصوير السينمائي في حي “باب توما” بـ”دمشق”، ويذكر “ألكسان” أن الشهبندر قام بصنع العديد من المعدات والآلات وجهز الاستديو بالمعدات وآلات التصوير ومعدات الصوت والإضاءة وغيرها مما يتطلبه العمل السينمائي وقام بتصوير فيلمه الأول عام /1948/ “نور وظلام”، تزامن التصوير مع بدء العمليات الإسرائيلية في “فلسطين” عام /1948/، وكانت أولى عروضه في “سورية” و”لبنان”.
كان عام /1951/ عاماً جيداً بالنسبة للسينما السورية كما يقول “ألكسان” وتشير بقية المصادر إلى أن الدولة قامت بدعم السينما كوسيلة إعلامية فعالة، حيث تم تأسيس قسم متخصص في السينما يهتم بأمورها، وجهزت معملاً سينمائياً للطبع والإظهار والعمليات الفنية وقسماً للتصوير السينمائي، كما تم إطلاق جريدة سينمائية مصورة تصدر أسبوعياً في “دمشق” تهتم بأخبار السينما والسينمائيين في “سورية” والعالم.
نهاية الخمسينيات شهدت إنشاء أقسام للسينما في عدد من الوزارات السورية وقامت عدة شركات إنتاج سينمائي في “سورية” بإنتاج عدد من الأفلام، واتضح نشاط هذه الشركات وزاد إنتاجها في المرحلة المقبلة من “تاريخ السينما السورية”.
يقول الصحفي “نضال قوشحة” في موقع “آفاق سنمائية” في مقال نشر5/7/2013: «لقد تميزت مرحلة الستينيات والسبعينيات من تاريخ السينما السورية بإنتاج أكبر عدد من الأفلام السينمائية من إنتاج المؤسسة لعدد كبير من الأفلام السورية القوية والجادة وبحضور كبير في المهرجانات الدولية وكذلك قطاع الإنتاج السينمائي وشركات الإنتاج السينمائي السورية الخاصة والمشتركة، فقد أنتجت ما يزيد على 300 فيلم بين الأفلام الروائية الطويلة والأفلام القصيرة والوثائقية منها أفلام جادة مميزة وأفلام تجارية أكثرها من إنتاج القطاع الخاص.
كما تميزت المرحلة بظهور “نجوم الشباك” وأصبحت هناك أسماء لامعة جاذبة على “أفيشات” وإعلانات الأفلام السورية مثل: أفلام الثنائي الشهير “دريد لحام” و”نهاد قلعي” وأفلام الفنانة “إغراء” وسلسلة الأفلام الكوميدية لعدد من نجوم الكوميديا في “سورية” التي أصبح لها جمهورها، وكانت الأفلام السورية لا تنقطع من العرض في دور السينما في “دمشق” و”حلب” ومختلف المدن السورية.
لعل أهم ما يميز هذه المرحلة من تاريخ السينما السورية هو إصدار مرسوم حصر الاستيراد والتصدير بالمؤسسة العامة للسينما ففي الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 1969 وتحت الرقم 2543 صدر مرسوم حصر واستيراد الأفلام السينمائية وتوزيعها داخل القطر وخارجه وأنيط استيراد الأفلام السينمائية وتوزيعها بالمؤسسة العامة للسينما التي أحدثت عام /1963/.
جاء في الأسباب الموجبة للحصر: «تعتبر الأفلام السينمائية المصورة والمعدة للعرض العام من الوسائل الإعلامية والثقافية الهامة التي لها مساس مباشر بالجماهير كما أن لها تأثيراً كبيراً على الناشئة ومستقبلها وسلوكها، وإن ما يجنح إليه مستوردو هذه الأفلام لا يتعدى المبدأ المادي وما يلحق به للحصول على أكبر قدر ممكن من الربح فقد أهمل التفكير بالمردود الخلقي والثقافي وغابت المصلحة العامة، كما انحصر مستقبل الجيل الجديد بنوعية معينة من الأفلام لا تخدم إلا جيوب المستوردين، من هذا المنطلق ارتأينا ضرورة حصر واستيراد الأفلام بالقطاع العام ليقوم بواجبه أصلاً، لتسخير هذه الوسيلة الإعلامية لتنمية الشعور وتوجيهه ورفع المستوى الفني والثقافي والاجتماعي لدى الجماهير، ووضع هذا الفن الرفيع في المستوى اللائق ليتيح للجماهير المتعة والفائدة في وقت واحد معاً».