ضيفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن يوم الابعاء 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2017 الفنان والمصور الفوتوغرافي حسين السكافي في أمسية ثقافية تحدث فيها عن الصورة الفوتوغرافية ومسيرتها وكيف حققت حضورا لا يمكن اغفاله منذ مراحلها ( التسجيلية ) الاولى حتى وصولها الى عالم ( الفن ) والابداع. وكيفية توظيف الامكانيات التقنية لألة التصوير باتجاه تثبيت اسس ابداعية وثقافة فنية .
الاستاذ حسين السكافي مصور فوتوغرافي محترف عمل في العديد من الشركات العالمية وهو حائز على بكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وشهادة تخصص في التصوير الفوتوغرافي من جامعة ويستمنستر. أقام عدداً من المعارض الشخصية والمشتركة، مهتم بالثقافة البصرية و الشفهية.
المقدمة
الصورة فن تثبيت اللحظة والاحتفاظ بها كما هي لنعيد قراءتها في أوقات اخرى بتأمل….وجهة نظر قد بنيت عليها فلسفة الصورة .فالصور أصبحت اليوم في كل مجال في حياتنا, إبتداء من العملة الورقية والفضية إلى طوابع البريد الى بطاقات تحقيق الشخصية وكل المعاملات الإجتماعية…, وأصبحت مفردات الإنسان المعاصر الفكرية عبارة عن صور, فقد دخلت الصور إلى حياتنا منذ حوالي مائة وخمسون عاما وأصبحت أكثر دقة وتميز في حفظ تراث الشعوب بعد أن كانت الكلمات وحدها هي المصدر الوحيد لحفظ هذا التراث وكتابة التاريخ. فالصورة هي جوهر الفنون البصرية تنقل لنا الواقع بلغة فائقة الروعة والتعبير، فهي تقدم لنا رؤية مختارة للواقع أو الموضوع وليس نسخة مطابقة أو بتعبير أكثر دقة تقدم رؤية ذات تشكيل جمالي يجسد بصماته الفنية. ورغم حاجة بعض الفنون إلى الكلمة والصوت للتعبير عن الأشياء، إلا أن الصورة خلقت لغة جديدة غير لفظية غيرت حياة العالم فأزالت القيود واخترقت الحدود وكشفت الحقائق, فالصورة خير من ألف كلمة.
الصورة في الأدب.. في العلم.. في الصحافة.. وما في ذلك من تفريعات كثيرة إلا أن ما يهمنا في هذا المقام من كل تلك المجالات الآنفة الذكر هو التصوير الفني.. ذلك أن عددا كبيرا من المجالات السابقة يمكن أن يندرج تحت مسمى “صورة فنية” ، لقد حقق التصوير أول ما ظهر الحلم الذي طالما راود الإنسان بالقبض على الزمن.. الا أن التطور السريع الذي عايشته البشرية حدا بالتصوير الى تجاوز المستوى الأول من الواقع نحو آفاق جديدة في التشكيل فإذا كانت كلمة (فوتوغراف (Photograph تعني في اللغة اللاتينية الكتابة بالضوء، فإن التصوير الفوتوغرافي لم يقتصر على تقليد خطوط هذه الكتابة بل أعاد صياغة أبجديتها ونظم هذه الحروف الضوئية نظما شعريا يخاطب وجدان المتلقي أكثر مما يخاطب عيونه، لتوازي في جوهرها سائر المجالات الإبداعية الأخرى كالشعر والرواية والرسم والمسرح”.
ومع بداية هذا القرن قال وليم مور “ان عمل الفن هو صنع التأثير (Effect) وليس تسجيل الحقائق الوقائع (facts) ، كانت الصورة فيما مضى مجرد أداة لنقل الواقع وتسجيله كما هو.. ولكن عندما تم التعامل مع الصورة كفن تغيرت هذه النظرة.. فلم يعد التصوير مجرد لوحة صامتة لمنظر طبيعي أو غيره، وإنما أصبحت الصورة معاناة إنسانية، فكرة تحمل مضمونا إنسانيا وجدانيا فكريا أيا كان ا لمهم أنها لم تعد صورة جميلة فحسب.. وانما هي لوحة فكرية وجدانية تخاطبك لتتأملها وتغوص في أعماقها فتخرج مدهوشا بقدرة الفنان على الابتكار والابداع والخروج عن المألوف بأسس علمية مدروسة.. ورؤية فنية راقية. ولكن متى كانت البداية ؟ وكيف تحول التصوير الفوتوغرافي من التسجيلية الى الفن؟
تطور فن التصوير
تطور فن التصويرعبر التاريخ ومراحله المختلفة حيث يرجع بدايته إلى قرون بعيدة, ويقال أن أول من تحدث عن تكوين الصورة كانوا قدماء المصريين، ثم جاء بعد ذلك أرسطو الذي تكلم عن الصورة المظلمة و ذكر بعض المعلومات عن مرور الضوء من خلال الفجوات الصغيرة بين أوراق الشجر, ثم بطليموس مرورا بالحسن بن الهيثم الذي أسس علم البصريات, ومن بحوثه العديدة في كتاب (المناظر) وموضوعات إنكسار الضوء وتشريح العين وكيفية تكوين الصور على شبكة العين ووضع لأقسامها أسماء خاصة وجعل البصريات علما مستقلا له قوانينه الخاصة، واهتم بالآلات البصرية وقام بحساب درجة الإنعكاس في المرايا المستديرة والمرايا المحرفة . ثم دافنشي الذي تنسب له أول غرفة مظلمة والتي تعود لسنة 1519 ونيوتن وغيرهم الكثيرمن العلماء والفنانين والكيمائين والفيزيائين, والذي كان لهم دور جميعا في ظهور التصوير الضوئي.
تاريخ التصوير
يعد التصوير منذ الأزل شهادة عصرية ودليل وجود.. من هنا حاول الإنسان البدائي تسجيل آثاره وأعماله ومعاركه على جدران الكهوف.. وتعود بداية التصوير عند ملاحظة القدماء ظاهرة ظلال الأشياء عند انعكاس الضوء عليها.. ومع تكرار الملاحظة تم اكتشاف الغرفة المظلمة (Dark room) التي ما زال الجدل قائما حول من اكتشفها فمنهم من قال إنه أرسطو ومنهم من قال قبله، كما أن البعض يشير الى العالم العربى عالم الفلك الحسن بن الهيثم. و “لا يوجد شخص واحد يمكن ان ينسب اليه اختراع الغرفة المظلمة”. ولا نريد هنا أن نخوض في إشكالية أن التصوير الفوتوغرافي فن حديث من ابتكار الأوروبيين أو هو فن قديم عرفه العرب من قبل أو ربما قبل ذلك لأنها قضية لا تسمن ولا تغني من جوع وانما لابد أن ندرك أن المعرفة البشرية هي معرفة تدرجية تراكمية ساهمت الشعوب الأولى والحضارات لبدائية في خلقها وهنا نحن نكمل المسيرة.. كما علينا أن نذكر للتاريخ فقط وحسب ما جاء في مقدمة كتاب د. عبدالفتاح رياض (آلة التصوير) (1993) ص 12، ان مخطوطات الحسن بن الهيثم لم تعرف ما فيها إلا في عام 1910 في مكتبة (The Indian office library, London ).
وقد ظهرت اول صورة عام 1826 على يد الفرنسي “جوزيف نيسابور نييبس” وكانت صورة لمنظر طبيعي تطل عليه أحد نوافذ منزله بجنوب فرنسا واستغرق معه التقاط الصورة من ثمانية إالى إثنتي عشر ساعة من التعريض والتي كانت تسمى طريقة الهيليوجراف ((Heliography وكانت تتم عن طريق تعريض ألواح من النحاس أو القصدير تكون مغطاة بطبقة رقيقة من القار bitum الذي يتصلّب ويغدو لونه أبيض عند تعريضه لضوء الشمس, ثم القيام بإظهارها عن طريق الغمر في سائل الإظهار والذي يتركب من زيت اللافندر والبنزين, وذلك لإذابة المناطق التي لم تتأثر بالضوء.
ولكن بقي عليه أن يعمل على تثبيت الصورة. وتوالت الجهود بعدها لتثبيتها لمدة طويلة أُستعمل خلالها بياض البيض وأملاح كلوريد الفضة والجيلاتين وبودرة البطاطس, ثم واصل العلماء جهودهم وظهرت طريقة الداجيروتيب (Daguerreotype) والتي ابتكرها لويس داجير L.Daguerre وقد لقب بسببه هذه الطريقة بأبو التصوير الضوئي والتي أدت إلى إنتشار التصوير الضوئي, فقد تميزت بدقة التفاصيل واختصار زمن التعريض من ساعات إلى بضعة دقائق, وقد كان للصدفة دور كبير في مراحل تطور التصوير الضوئي بصفة عامة , ومنها طريقة لويس داجير حيث كان يجري أحد التجارب والتي كانت تقوم على إستخدام ألواح مصنوعة من الفضة وتعريضها لأبخرة اليود لتكتسب الحساسية الضوئية- تلبدت السماء بالغيوم فأنهى التجربة دون أن يستكمل عملية التعريض الضوئي, وإكتشف في اليوم التالي أن اللوح الذي لم يستكمل تعريضه قد تكونت على سطحه صورة واضحة للمنظر الذي كان يسجله!! غير أن الصورة الناتجة لم تكن قابلة للتكرار أو النسخ.
وفي الحقبة نفسها توصل مخترع إنجليزي يدعى وليم فوكس تالبوت ( 1800-1877) W.F.Talbot إلى صنع صورة سالبة ورقية، وطبع صورة موجبة نقية عنها، واستخدام أملاح ثيوكبريتات الصوديوم (الهيبوسولفيت) لتثبيت الصورة. وأقام بعد ذلك معملاً لنسخ الصور، ونشر كتابا يبين فيه طريقته في التصوير. وتعد هذه الخطوة انطلاقة فن التصوير الضوئي وانتشاره في العالم.
وفي عام 1888م أصدر ( جورج ايستمان) آلة الكوداك الشهيرة وهي أول كاميرا صندوق مزودة بفيلم ملفوف. وفي العام 1896م نزلت إلى الأسواق الأمريكية أول كاميرتيين صغيرتين للجيب، وظهرت أول كاميرا ذات منظار في عام 1916م. وفي أوائل الأربعينات ظهرت الكاميرات العاكسة وحيدة العدسة وهي المفضلة لدى معضم المصورين المحترفين، أما الكاميرات ذات الفيلم 110 فلم تظهر الإ في عام 1971م ، وظهرت أول كاميرا للتصوير الفوري اسود وأبيض من شركة ( بولا رويد) في عام 1947م ، وأول كاميرا فورية بأوراق ملونه عام 1963م .
ويقال ان الفنانة الالمانية ألسا بينج (1899-1998) عندما ذهبت الى نيويورك في عام 1936, كانت تأخذ معها آلة تصوير وقد قامت بإلتقاط صورة لحصان في السيرك حيث يظهر الحصان في الصورة داكن اللون وتحيط به الظلال مثل الدخان وتخترقه لمسات من الضوء. هذه الصورة تعرض إلى الآن في “الناشيونال جاليري” بواشنطن ومعها مجموعة صور نادرة اخرى وذلك في معرض بعنوان “اكتشافات فوتغرافية” والذي يؤرخ لبدايات التصوير الفوتوغرافي. واستمر الباحثون والمختبرات على مدى القرن والنصف الماضيين في العمل على إدخال تحسينات كبيرة على فن التصوير الضوئي وأجهزته والمواد والأفلام المستخدمة حتى بلغ مبلغه اليوم.
وجدير بالذكر أن مصطلح فوتوغرافيا استعمل لأول مرة سنة 1839 وهو مصطلح مأخوذ من اللغة اللاتينية مكون من شقين ” graphy” وتعني الرسم و “photo” تعني الضوء أي أن فوتوغرافيا تعني الرسم بالضوء … وكان السيد ( جون هيرشل ) أول من استخدم هذا المصطلح.
قيمة التصوير كفن
وتعتبر قيمة التصويرالفوتوغرافي كفن مستمدة من حقيقته، وقد اختلفت الآراء حول هل فن التصوير علم أم فن؟؟ وماهي مكانته من الفنون المختلفة؟؟ والمتأمل لفن التصويريجد أنه الفن الذي يجمع بين التكوين الجمالي والتكوين التقني ولذلك يمكن القول بأنه علم وفن, فهو كعلم يتطلب من المصور معرفة بأسس وقواعد التصوير وكيفية التعامل مع مصادر الضوء الطبيعية والصناعية ومعرفة بأنواع العدسات والمرشحات وطريقة استخدامها مع الإهتمام بعناصر التكوين والإضاءة والنسب وغيرها.
وقد كانت الصورة دائما ومازالت ناقلا للأحداث والمكتشفات العلمية. فقد عبرت الصورة الفوتوغرافية منذ القدم, وخاصة بعد الإكتشافات العلمية، عن النتاجات البشرية بشكل كبير.. وقدمت للإنسانية خدمات جليلة.. بل أصبح التصوير الفوتوغرافي علما دقيقا يدرس في الجامعات والمعاهد العليا على اختلافه وأنواعه بالطبع.. فهناك التصوير الصحفي والتصوير الطبي والتصوير الفضائي والفلكي والتصوير الجنائي والتصوير بالأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء.. الخ.
ويعتبر التصوير فن لأنه يعتمد على الشكل والتكوين الفني، والتكوين هو تآلف كل الخصائص الضرورية كالمساحة واللون والضوء في إحداث تلخيص كلي تكون كل العناصر التكوينية فيه متفاعلة في نمط واحد منسق ذلك لأن غرض التكوين هو الوصول الي النمط المتناسق والمتماسك، لذا فإن التكوين الجيد يجب أن لا يشتت العين من خلال عدم الإستقرار لبعض مكوناته أومن خلال نقص التوازن فيه، وبذلك فإن التكوين يدل علي شيء ظاهر فهو فكر وعاطفة وجمال يرقى بالمتلقي من خلال علاقات بين الأشكال والعناصر وصياغتها وفق سياقات جديدة متناسبة مع الحاجة الإنسانية لفن جديد وصيغ جديدة للتعبير.
وبإعتباره فن قائما علي تنظيم علاقة بصرية فإن هدف المصور هو تحويل عناصر التكوين الشكلي من أماكن وإضاءة وظلال ولون وحركة وانفعالات وغيرها من مكونات متفرقة إلي تعبير متماسك ومتناسق يضمن المصور الفنان من خلاله توصيل مضمون مادته إلي المتلقي وقد يرمز إلي شيء أو يوحي بشيء آخر له دلالاته المعنوية والتأثيرية.
فالعمل الفني الناجح يتوقف على مقدار إحكام وحداته بدقة بحيث إذا ما أسقطنا أي وحدة من وحداته يسقط تكامل البناء فيه. وبالرغم من أهمية التدريب والخبرات التي يجب ان يتحلى بها المصورفإن فن التصوير يحتاج إلي قدر كبيرمن المرونة والخيال والتأمل والقدرة العقلية والبدنية وإلي التفكيرالترجيحي والتحليل والتركيب البصري وقبل كل ذلك مقدرة متنوعة في الإحساس بمؤثرات الواقع ومكوناته حيث أنها حالة عميقة وخصبة تتطلب من المصور أن يرسم بالكاميرا بعقله لا بيديه.
لابد أن يقف وراء الكاميرا إنسان صاحب فلسفة خاصة ورؤية ذاتية للواقع وقدرات مميزة فنيا، يحركها ويوجهها بهدف توصيل المضمون الذي يريده في شكل محدد، ونجاح هذا الإنسان أو فشله يتوقف علي مدي امتلاكه للحس الفني الذي يختلف من مصور إلي آخر. فالمصور الفوتوغرافي ليس مجرد صاحب حرفة ولكنه في حقيقة الأمر فنان ينفعل بالأحداث ويتأثر بحسه المرهف، ويدرك المواقف ويقدرها تقديرا اجتماعيا بحسه الصادق، لهذا فالصور الفوتوغرافية ليست مجرد صور لموضوعات أو أعمال أو أشخاص، بل هي تكشف عن القيم الجمالية للشخص الذي انتجها.
لذلك فمن الضروري أن يتمتع المصور بحس فوتوغرافي حيث عليه أن يعرف ويميز غريزيا المشاهد التي تؤثر وتقدم صورا جيدة ناجحة فالحياة بالنسبة للمصور هي سلسلة من الاحتمالات التي يمكن أن تلتقط بالعدسة وهكذا يمكن أن يقدمها، وفي كل مناسبة يجب أن يفكر في أفضل طريقة يلتقط بها المشهد. كما ينبغي أن يكون المصور فنانا يمتاز بقوة الخيال والحساسية والقدرة علي إدراك مزايا الصورة الجذابة، ذلك أن الصفة الأساسية فيه ليست هي المشاهدة بل الخيال، فالخيال “سيد الملكات” فهو الذي يحلل العناصر التي تقدم للحواس، والفعل يعيد تشكيلها كما تتراءي له، إذ أن العالم المرئي ما هو إلا مخزون صور ورموز يعطيها الخيال مكانة وقيمة نسبية.
كما لابد أن ينأي المصور الفنان عن عمليات التقليد ونقل الواقع والإبتكار والتفرد، فلقد كان الفنان الكبير جورج ميلييه مؤسس ومكتشف الفن السابع لا يصور الأشياء كما هي ولا يقتفي أثرها بطريقة تحليلية، ولكنه كان يصورها كما يشعر بها. وبذلك يمكن القول بأن الفنان المصور لا ينطلق من الفراغ، فهو نتاج من التراث الإنساني واسع وخصب، فهو غالبا ما يكون محصلة طبيعية للتفاعل بين الأبعاد الشخصية “الفردية” والإجتماعية المعاصرة والتاريخية التراكمية.
ومن الضروري أن يكون العمل الفني مسبوقا بالفكر والإرادة .لذلك تكمن صلة العمل الفني بالمعرفة في كونه ناقلا للمعرفة ومولدا لها. وتمثل الثقافة جزءا لا يتجزأ من عملية الإبداع الفني، إذ لا يمكن تصور وجود هذا الإبداع بمعزل عن الثقافة، ذلك أن الإنسان غير المثقف لا يمكن له أن يبدع لا في مجال الفن ولا في غيره من مجالات الحياة الأخري. حيث أن الفن هو وليد الثقافة، والثقافة هي الدعامة الثانية للفن، فالفنان بالصفة فقط لا يكون اكثر من صاحب حرفة وليس فنانا فوتوغرافيا، وبالثقافة وحدها يكون كثير الكلام فقط دون أي مهارة، ولكن اجتماع الأثنين هو الذي يولد الفن.
وبذلك فإن الإبتكارات والتجربة الخاصة لا تنفصل عن الثقافة, والمعرفة العامة ضرورية كضرورة المهارة الفنية فهما في وحدة متماسكة، لهذا فإن الفنان الفوتوغرافي لا يستطيع مواجهة لوحته الفوتوغرافية ما لم يكن يوليها من تكوينه الثقافي والنفسي، فكل عناصر ومكونات الصورة لا بد أن تكون متضمنة جزءا من معرفته وخلفيته الثقافية فهي تتعاون جميعا علي خلق ذلك المحسوس الجمالي وتعين علي تكوين الموضوع.
فالثقافة العامة يمتلكها كل إنسان في المجتمع ولكن المصور يحتاج الى الثقافة العامة التي يحتاجها الجميع اضافة إالى ثقافة التخصص, نقصد هنا بثقافة التخصص هي المعلومات العلمية الخاصة بعلم وفن التصوير وليس فقط آلية أو برمجه استعمال الكاميرا. الجميع يعتبرون مصورين بشكل عام بدون تخصص إلا إذا كان هنالك تخصص محدد له قد تعمق فيه ووصل لدرجة الإحتراف , كل واحد منا يمكنه تصوير كل شي في وقت واحد أي أننا نمارس كل أقسام التصوير مرة واحدة بشكل عام ولكن لو تمعنا جيدا في تخصص كل قسم لوجدنا أنفسنا في حيرة من أمرنا على الكم الهائل من المعلومات التي يتوجب علينا معرفتها لنكون بمستوى المصور العالمي المحترف والمتخصص….
مصورون بارعون من انحاء العالم
ترى هل اختلفت وظيفة التصوير الفوتوغرافي الآن ؟! أعتقد ذلك.. لم تعد وظيفته مجرد نقل الواقع وانما تفتش عما يختبيء وراء الواقع بكشف أغرار الحلم.. وعيون المستقبل.. فأصبحت وظيفة الفن اجمالا الآن أشمل من الماضي .. يقول صاحب (السيدة / الكمان ) الفنان (مان ري) “ان وظيفة الفن هي دفع المشاهد الى التأمل وليس فقط إثارة الإعجاب بالبراعة التقنيه التي يتمتع بها الفنان”.
لو تأملنا أعمال انسل آدمز (Ansel Adams) (1982 -1902) وإدوراد ويستون (Edward Weston) (1883- 1976) وأموجن كننج هام (Imogen Cunningham) (- 1883 1976) وغيرهم من المصورين من الذين كانوا علامات مميزة في سماء التصوير الفوتوغرافي نجد أن الفضل يرجع لهم في تحويل التصوير من مجرد واقع تسجيلي الى فن بكل ما تحمله كلمة “فن” من معان.. حيث معهم بدأ التصوير الفوتوغرافي يتخطى حواجز الواقعية التسجيلية ليكون لغة الصورة الرومانسية الحالمة عندما تم التعامل معه على شكل فن جميل.وعندما نقرأ كتاب (الفن والحياة (Art & Life ندرك تماما ذلك التحول بعد أن نظر المصور الى الصورة على أساس الفن.. “يسير كل من ويسترن وانسل آدمز بقوة نحو العمق ليمسك اللقطة الفنية من أجل مهمة الفن”.
إذن مخاطبة اللوحة.. الوقوف أمامها.. محاولة مخاطبة ما وراء الصورة ومتابعة مساراتها الدقيقة.. تبني ما تبقى من جمال روحي في عقلك بعد أن طفت مشاغل الحياة المادية على الجزء الأكبر منه فتأتي الصورة لتوقض جانبا آخر مهما منه.ولا شك نحن لانختلف على أن الناس مختلفون في رؤيتهم للأشياء حيث “لا يستطيع شخصان أن يكونا نفس الفكرة تماما عن شيء واحد” ، وهنا مكمن جمال الصورة وما تحمله من مضامين تعبر عن هواجس مختلفة وهموم شتى.. تداعب أحلاما قديمة عند هذا وتراود طموحات مستقبلية عند ذاك.. ترسم صورة بائسة قاتمة.. وتلامس أفكارا حالمة.. لماذا كل هذا؟ لأن التصوير فن وليس نقلا.. وهناك من المصورين من هم مثقفون حتى أطراف، أصابعهم.. يهمهم التعبير عن الأعماق وكوامن الأمور.. يسيرون في أعماقهم الى ملامسة العقل اللاواعي والغوص عميقا في تخوم الحلم والمناطق المظلمة.
فالمصور يبقى في النهاية انسانا.. يهمه التعبير كذلك عن الواقع.. ولكن برؤية فنية.. حتى لو أخذنا في ذلك أقرب مجالات التصوير للواقعية وهو التصوير الوثائقي لابد من الغوص في الأعماق لابراز حادث معين أو التوثيق لمرحلة معينة لتعميق الأثر ولتبقى ذكرى لا تنسى. فمثلا عندما تتأمل صورة اعدام الجندي الفيتنامي الشهيرة والتي التقطها ايدي آدمس (Eddi Adms) عام 1968 وحصل على جائزة بوليتزر ترى هذه الصورة وأنت متأهب لسماع الطلقة النارية من مسدس الضابط الفيتنامي. الأمر نفسه في تصوير (البورتريه) حيث لابد من الغوص في المناطق المظلمة في الشخصية التي تود تصويرها.. تعبر بصدق عن نفسية هذه الشخصية بملامحها الدقيقة وما تصاحب الصورة من إضافات.. مثلا صورة (تشرشل) والتي جاءت بعنوان (What, no cigar) التي التقطها مصور البورتريه الشهير “يوسف كارش Karsh عام 1941، تأمل جيدا هذه الصورة تجد أنها تعبر عن ملامح تلك المرحلة في ظل الحرب والعنف والدمار. رغم ان المصور التقط له صورة أخرى (بسيجاره هذه المرة ) كما أراد ولكن لم يكتب لها البقاء وظلت هذه الصورة (بدون سيجار) هي الأقوى والأكثر عمقا.
هكذا أصبح التصوير الفوتوغرافي عندما تم التعامل معه على أساس الفن وما أجمل ما يقوله ماكلين (Mccullin) المصور يجب أن يكون إنسانا متواضعا صابرا مستعدا للمزيد من المتابعة.. اذا كنت وحيدا انتظر السعادة أو الخجل أو حتى الموت وليس أحد بجانبي يمكن أن يكون عندي عدة اختيارات وأحدها أن أكون مصورا للآخرين ولكن ما أحاول أن أصل اليه هو أن أكون إنسانا.
رأينا أن التطور في الوظيفة نابع من التطورات البشرية العامة والاهتمامات الإنسانية الشاملة.. الاهتمام بالمعاني وليس مجرد السطحيات الجمالية فقط.. فتصوير لقطة واحدة ذات معنى أفضل من مئات الصور بلا معنى.. فالصورة لم تعد مجرد نقل للواقع وانما هي البحث عما يختبيء.. وراءه… وما هذا التطور إلا نتاج للتطورات في الفنون الأخرى كالأدب شعرا أو نثرا والرسم والمسرح وغيرهما.. وكم من المصورين هم شعراء أو مسرحيون أو كتاب قصة وسينمائيون.. بل كم من لوحة تم التعبير عنها بلغة الشعر والعكس صحيح.. فالحس الفني والروح الشاعرة رابط أساسي يجمع الفنان بالأديب فيصبحان في معقل واحد.
نحن إذا في عصر الصورة الضوئية بامتياز، وما زالت ثورة التصوير قائمة للآن تستمد قواعدها من التطور التكنولوجي القائم في العالم أجمع، وقد تعدى التصوير مفهومه التقليدي المنحصر في التحميض والطباعة إلى التصوير الرقمي أو التجريدي الذي سطع نجمه وتألق مع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.
علاقة التصوير الفوتوغرافي بالفن التشكيلي
هناك علاقة وثيقة بين التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي حيث يمكن القول أن التصوير الفوتوغرافي خرج من رحم الفن التشكيلي.. بل إننا يمكن أن نطلق على التصوير الفوتوغرافي (بالابن العاق) ذلك أننا وحسب ما تطرقنا اليه في التطور التاريخي لآلة التصوير وجدنا أن من ساهم في اختراع وتطور الغرفة المظلمة (Dark Room) هم الرسامون وقد كانوا يستخدمونها لتسهل لهم عملية الرسم.. فالتشكيل اذن هو سبب ظهور الكاميرا!!
وبعد فترات من الزمن متلاحقة أصبح فن التصوير الفوتوغرافي منافسا حقيقيا للرسم.. “ففي العالم الحديث حل التصوير الفوتوغرافي محل التصوير الزيتي والرسم كوسيلة أساسية لالتقاط الصور، التقاط صور دونوا حاجة الى مهارة الرسم”. فأصبح بالإمكان تصوير المشاهد وخاصة المناظر الطبيعية (Landscape) بسهولة كبيرة وفي وقت يسير والأكثر من ذلك أن آلة التصوير ترسم معالم الأشياء بحذافيرها.. وبالتالي أصبحت آلات المصورين منافسا قويا لأدوات الرسامين وخاصة من أصحاب المدرسة الانطباعية والواقعية .بعد ذلك ظهرت مدارس أخرى في الفن التشكيلي ويرى البعض أن التصوير الفوتوغرافي سبب رئيسي في ظهور بعض المدارس الفنية كالتجريدية والسريالية، وذلك هروبا من منافسة المصورين فآلة التصوير كانت لا تستطيع أن تلتقط الا ما ترده أمامها.
ولكن مع ذلك.. وبعد التطورات الرهيبة التي حدثت في مجال التصوير الفوتوغرافي سواء في أجهزة الآلة أو الأفلام دخل المصور (الفنان) منافسا قويا من جديد حتى مع أصحاب المدارس الحديثة في الفن.. فمن خلال آلة التصوير وجهاز الحاسب الآلي (Computer) وبمهارة الإنسان الفنان يمكنك أن تلتقط صورة تجريدية أو سريالية بل إن البعض لا يمكن أن يفرق فيما يرده ما إذا كانت لوحة مرسومة أو صورة فوتوغرافية.. فالمعايير تداخلت الى حد كبير كما هو الحال بين الأجناس الأدبية.. والتطور المتلاحق ما زال مستمرا في عالم التصوير الفوتوغرافي.. فبعد اكتشاف التصوير الرقمي عبر الحاسب الآلي أصبح بالإمكان التلاعب بالصورة وكأنها رسمة فتغير فيها ما تشاء.
ولكن يبقى سؤال ملح وهو.. هل يمكن القول إننا في القرن القادم يمكن أن نستغني عن الرسم بالفرشاة والألوان ما دمنا وجدنا البديل في التصوير الفوتوغرافي ، خاصة إذا كان يحقق لنا نفس الاغراض ؟ سؤال قد يكون سابقا لأوانه ولكن بالتأكيد يحتاج الى وقفة ومناقشة. فهناك من يرى في أدواته البسيطة كالفرشاة والألوان قمة الإبداع وحتى في الوقت الذي يستغرقه لصنع اللوحة من رحم الألم والمعاناة.. ولا يستطيع أي جهاز مهما كان أن يتحداه ليقول؛”ها أنا أتحدى الكمبيوتر” اتحداه بما تملكه أدواتي البدائية البسيطة من قدرة على الحركة وتفجر الحياة”. إلا أن البعض الآخر يجد في آلة التصوير وفي جهاز الكمبيوتر ما هو أفضل من الفرشاة والألوان ويمكن أن يحصل عل نتائج أفضل وفي وقت أيسر وابداع أكبر. ولكن البعض يرى أن كلا من الرسم والتصوير الفوتوغرافي جزئين مكملين لبعضهما.. فبعد أن كان أحدهما ابنا للآخر أصبحا توأما يدخلان تحت جناح الأب الأكبر (الفن ).. فليعبر كل بطريقه لكن المهم أن يكون المولود فنا.