سعد القاسم
6 -2- 2018
من المرجح، إلى حد اليقين، أن قلة قليلة من ناسنا قد استوقفها بيان المديرية العامة للآثار والمتاحف الذي يدين تدمير العدوان التركي لمعبد (عين دارا)، لسبب بسيط وهو أن أكثر الناس عندنا لا يعرفون شيئاً من الأساس عن (عين دارا)، شأنها في ذلك شأن الكثير من المواقع الأثرية و(المدن الميتة) على امتداد الأرض السورية.
ليس تل (عين دارا) موقعاً أثرياً حديث الاكتشاف، ولا هي كذلك حاضرة تاريخية قليلة الأهمية، فقد تم اكتشاف التل الذي يقع على بعد نحو سبعة كيلومترات جنوبي مدينة عفرين عام 1954 حين وجد راعٍ على سفحه الغربي تمثالاً لأسد منحوت من البازلت الأسود، وبعد ذلك بعامين بدأت أعمال التنقيب فيه بعثة من المديرية العامة للآثار (كما كانت تسمى حينذاك) نشرت تقريرين في مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية عامي 1960 و 1965 أظهرتا أهمية التل والمعبد المكتشف فيه. ومنذ عام 1976 وحتى عام 1983، قامت بعثة وطنية برئاسة عالم الآثار الدكتور علي أبو عساف بإجراء عملية تنقيب شاملة ومديدة أدت إلى الكشف عن المدينة ومعبدها. ونشرت نتائج هذه العملية على نطاق واسع.
يتألف موقع (عين دارا) من تلين متجاورين، الصغير الأعلى ويسمى المدينة الفوقانية، والكبير المنخفض ويسمى المدينة التحتانية. ويرى الدكتور علي أبو عساف أن المدينة التحتانية التي تطوق المدينة الفوقانية من الشمال والشرق، قد نشأت في العهد الآرامي، بينما تم إشغال المدينة الفوقانية عبر عصور عدة. وأسفرت الحفريات الأثرية في الموقع عن اكتشاف ستة طبقات، موجودة في المدينة الفوقانية، تعود الأولى (الأحدث) إلى بعد عام 1072م، حين دمرت المدينة في الحروب السلجوقية- البيزنطية. وتعود الثانية إلى ما بين عامي 969 – 1072 م، إبان حكم الأسرة المقدونية التي احتلت سورية الشمالية. فيما تم تأريخ الطبقة الأقدم (السادسة) مابين عامي 740 إلى 530 ق.م. ويعتبر المعبد أهم أثر في الموقع، ورغم تهدمه لا يزال يزهو بمنحوتاته، التي تدل على روعته وإتقان بنائه. وقد شُيِّد على مرتفع من الأرض، فوق الطرف الشمالي الغربي للمدينة الفوقانية عام 1200 ق.م.
ووفق بيان المديرية العامة للأثار والمتاحف الآنف الذكر فإن مدينة (عين دارا) هي أحد أهم مدن مملكة (بيت أغوشي) الآرامية، وربما كانت عاصمة لها، وأن معبدها هو أحد أهم الأبنية الأثرية التي بناها الآراميون في سورية خلال الألف الأول قبل الميلاد. ويلفت الانتباه في البيان اعتباره أن «تدمير هذا المعبد يعبّر عن مدى الحقد والكراهية والهمجية ضد الهوية السورية وضد ماضي الشعب السوري وحاضره ومستقبله». خاصة أن هذا القول قد جاء بعد أربعة أيام فقط من انعقاد مؤتمر الهوية الوطنية الذي أقامه مركز دمشق للدراسات والأبحاث (مداد)، وشهد طرح أفكارٍ هامة حول الدور الأساسي للمعرفة لا في حفظ الهوية الوطنية الجامعة للسوريين كلهم باختلاف انتماءاتهم، وإنما في توضيح هذه الهوية التي ما تزال تشكو من الالتباس، خاصة حين وضعها في تعارض مع انتماءات أخرى.
لماذا الوقوف عند هذا القول في بيان المديرية العامة للآثار والمتاحف؟
والجواب: لأنه يشير بوضوح إلى الجانب الأخطر من المسألة، بما يسمح بالربط بين التخريب (والتهريب) المنهجي الواسع للآثار الذي مارسته (داعش)، وأخواتها، في كل مكان استباحته في العراق وسورية، وبين التدمير الذي طال، وما يزال، المواقع الأثرية في عفرين وجوارها، بفعل العدوان التركي، وقبل ذلك، مع عملية السطو المرعبة على متحف بغداد إثر الاجتياح الأميركي له، وقد بان جلياً بعد ذلك الدور الإسرائيلي فيه عندما عرضت في المتاحف الإسرائيلية بعض تلك المنهوبات. ومع تعدد الجهات التي تقوم بسرقة أثارنا، أو تدميرها، فإن الهدف واحد، لأن المُشغّل واحد. والغاية الأساسية محو تاريخ هذه المنطقة، والتعتيم على دورها في بناء الحضارة البشرية، لتصبح مجرد مجموعات لا ذاكرة حضارية لها، ولا ثقافة تجمع بينها، تحركها الغرائز والعصبيات العرقية أو المذهبية، وتجد عداواتها فيما بينها وحمايتها في الاستجارة بالعدو الفعلي.
هذه الغاية التي ظهرت جلية في الكثير من نتاج فكر الاستشراق وفنونه وأدبياته، تجد حليفاً قوياً لها ليس بين من سبق ذكرهم، وإنما في جهلنا نحن بتاريخنا وتراثنا الحضاري، وآثارنا.