معلّمة الإمزاد الطوارقية ألامين خولن (تصوير: فاروق بطّيش)
الإمزاد والتيندي.. موسيقى الصحراء الجزائرية
نصر الدين حديد
3 فبراير 2018
الإمزاد والتيندي، آلتان موسيقيتان محرّمتان على الرجال في الجزائر، صنعتهما المرأة الطوارقية من أواني البيت في الصحراء. وأصبحت تقدِّم فيهما وجبات من الموسيقى الدسمة حزنًا وفرحًا.
آلتا الإمزاد والتيندي تختصّ بهما مجتمعات الطوارق في الصحراء الجزائرية وشمال مالي والنيجر، كلتاهما مصنوعتان من أواني منزلية؛ الأوّلى من قدح لشرب الماء، والثانية من وعاءٍ خشبي مخصّص لطحن الحبوب، ولكل منهما حكاية.
الإمزاد الأخير
تقول الأسطورة إن أيّ رجل يعزف الإمزاد ستحلّ عليه اللعنة؛ فهذه الآلة الموسيقية تشبه الربابة كثيرًا؛ لها وتر واحد مصنوع من ذيل الخيل، بطنها يشبه قدحًا من القرع المجفّف، يغطّى بجلد ماعز أو غزال، ويشدّ بخيوط إلى ظهر الآلة، ويشّد وترها إلى عود يثبّت على طرفها، ويعزف عليها بقوس خشبي له وتر من شعر الخيل أيضًا، وتصدر موسيقى حزينة ورقيقة وهادئة هدوء طبائع أهل الصحراء.
هنا، يؤكّد الصدّيق ختالي، أحد أعضاء جمعية “أنقذوا الإمزاد” التي تأسّست في 2003، أن الفضل يعود لهذه الجمعية ولمؤسَّستها فريدة سلال، والتي كانت في آخر زيارة لها لزعيم قبائل الطوارق “المنوكال”، وعرضت عليه مساعدتها؛ فأجابها بأنه لا يريد شيئًا سوى إنقاذ الإمزاد الذي شارف على الزوال. يوضح المتحدّث أن هذه الموسيقى اختفت بالفعل، ولم يبق سوى عازفة طاعنة في السن اسمها ألامين خولن؛ فقاموا بالاتصال بها والتنسيق معها بعد تأسيس الجمعية، وذلك من أجل تدريب فتيات المنطقة على عزف الإمزاد.
يعتقد ختالي أن “هذه الآلة مرتبطة في تاريخ الطوارق، ارتبطت بظهورهم وثقافاتهم، هي آلة محرّمة على الرجال، وكلّ من يحاول عزفها، يقاطع من القبيلة، لأنهم يعتقدون أنّ ذلك ينتقصّ من رجولة عازفها. تعزف آلة الإمزاد في الحب والحزن والفرح، فتسمّى موسيقى الفرح “إيسوهاغ نيمزاد وينترا”، ويُطلق على موسيقى الحزن “إيسيوهاغ نيمزاد وينتكا”.
تينهينان العازفة
لا يوجد تاريخ دقيق عن جذور آلة الإمزاد. بعض الروايات تقول إن ملكة الطوارق، تينهينان، التي استقرّت في منطقة الأهقار بتمنغست، هي أوّل من اخترع هذه الآلة، وقد حكمت تينهينان في القرن الخامس للميلاد. لكنّهم لم يعثروا إلى جانب الملكة التي دُفنت في ضريح ضخم يشبه هرمًا دائريًا على آلة الإمزاد؛ فقد عُثر على رفاة تينهينان في منطقة أبالسة بكامل حليّها وألبستها الجلدية التي كانت تستعملها، ونقلت رفاتها إلى متحف الباردو في العاصمة الجزائرية. وممّا يعرف عنها أنّها عاشت فارسة ومهندسّة حربية عُرفت بالحكمة والدهاء ووحّدت القبائل، ويُستبعد أنّها اخترعت هذه الآلة.
موسيقا السلام
في رواية أخرى، يقال إن امرأة من نساء الطوارق سئمت من نحيب النساء على قتلاها، في زمن شهدت فيه المنطقة حروبًا طاحنة بين القبائل، فخرجت هائمة وجمعت عيدانًا وبعض شعر الخيل وعادت لتصنع آلتها ممّا وجدته حولها، وجلست تعزف أولى موسيقاها، سمعها كل من كان بقربها فتحلّقوا حولها، وسمع بها المحاربون من القبائل الأخرى المعادية لقبيلتها؛ فقدموا وقد أغمدوا سيوفهم ليستمعوا إليها، فحلّ السلام بين قبائل الطوارق.
في مطلع الألفية الثالثة، أقيم “بيت الإمزاد” الذي ساهم بشكل كبير في تدريب عشرات الفتيات العازفات من المنطقة، ويضم “البيت” مسرحًا للعروض وصالةً للرقص واستوديو للتسجيل وورشة لصناعة هذه الآلة الموسيقية. هكذا، نفخت هذه الجمعية الروح في هذه الآلة الطربية، فسجّلت موسيقى الإمزاد حضورًا متميّزًا في التظاهرات الثقافية والمهرجانات الدولية، ولا سيما المهرجان الدولي لموسيقى الأهقار بتمنغست.
أمّا حكاية آلة التيندي فهي لا تختلف كثيرًا عن حكاية الإمزاد؛ فهي تختصّ بها نساء الطوارق أيضًا دون الرجال، تُصنع من إناء خشبي لطحن الحبوب، ويغطّى بجلد حيوان يُثّبت بجموعة من الخيوط، ويثبّت على جانبي الإناء عودان خشبيان غليظان بطريقة متوازية، لتبدو في نهاية الأمر مثل الأرجوحة، تجلس فتاتان على طرفيها لتثبيتها، بينما تقرع فتاة أخرى عليها، ويتحلّق حولها النسوة للمشاركة في أوركسترا العازفين بإطلاق تصفيقات محسوبة زمنيًا مع إيقاع التيندي. ما يميّز التيندي عن الآلات الإيقاعية الأخرى، أنّها تغُطّى بقطعة قماش ثم ترشّ بقليل من الماء لزيادة الإيقاع، وتكون عملية رش الماء بين الفينة والأخرى حسب الحاجة. وهذا ما يعطيه فلسلفة روحية لها علاقة بالمطر والخصب والتفاؤل.
التيندي لعلاج المرضى
التيندي آلة موسيقية شعبية متداولة في منطقة تمنغست، ويعزف في الأفراح والأعياد الدينية مثل المولد النبوي، تُستعمل أيضًا في بعض الطقوس الروحانية وطرد الجن وشفاء المرضى من المسّ. هنا، يقول مولود فرتوني، المستشار الثقافي بمديرية الثقافة في ولاية تمنغست، أن التيندي لها عدّة استعمالات بحسب الثقافة الشعبية لمنطقة الأهقار، فهي تُستخدم لشفاء المرضى المصابين بالمسّ حسب الاعتقادات السائدة، ويقرع التيندي أيضًا للمصابين بلدغات العقارب والأفاعي، وللشباب حين يصلون سنّ البلوغ، وللعائد من السفر، وللمرأة التي انقضت عدّتها وتسمّى “تونغالت”، أو ما يشبه احتفالية التفرّغ والاستعداد للزواج. والمعروف أن المرأة المطلّقة في هذه المنطقة أكثر طلبًا من الفتاة البكر.
ومن المناسبات التي يُقرع فيها التيندي أيضًا، بحسب فرتوني، هي رقصة الجِمال؛ إذ يعزف التيندي للجمال في المواسم الفرجوية، فتطرب له الجِمال وتحوم حوله، وتسمّى هذه الرقصة باللغة الطارقية “إيلوغان”، كما تُقرع طبول التيندي في مناسبات أشبه باختيار ملكة جمال الحيّ أو القبيلة في السابق، أو ما يسمى باختيار رأس النعامة؛ إذ تختلف تسميات هذه الطقوس من منطقة إلى أخرى.
تعود جذور موسيقى التيندي، حسب الباحث بادي بيدا، وهو شقيق مغنّية التيندي المعروفة في المنطقة لالة بادي، إلى سنة 1935، حيث انتقل التيندي من منطقة الطاسيلي في الصحراء الجزائرية إلى منطقة الأهقار، بعدها رحل التيندي إلى مالي والمناطق المجاورة لها، وعاد بشكل أكثر جودة في نهاية السبعينات، ومنذ ذلك الحين تعدّت استخداماته الاحتفالية والطقوس المرتبطة به في مجتمعات الطوارق.