ملحمة فـن وحكاية ثورة..نصب التحرير خلـَّد جواد سليم بعد أن أفنى حياته في عمله
بغداد/عصام القدسي
في قلب العاصمة بغداد، ووسط أشهر ميادينها (ساحة التحرير) تطل علينا مخلوقات (نصب الحرية) العمل الضخم للفنان التشكيلي العبقري جواد سليم، الذي كان يحلم به مزيناً مدينته بعدما لاحظ أنها خالية من التماثيل والمنحوتات الفخمة ليصبح هذا النصب ، العمل الأكثر أهمية في تاريخ جواد الشخصي وتاريخ النحت العراقي والعربي .
معجزة فنية خالدة حلم بها الفنان طويلاً وفكَّر بما يليق بانتقال وطنه إلى نظام جديد (قيام الجمهورية في 14 / تموز 1958 بتآزر أفراد الجيش والشعب معاً لبنائها). في نصب الحرية يستحضر جواد ماضي العراق وحضاراته.
الجدارية سـَرد لتأريخ العراق
يُخبرنا جبرا إبراهيم جبرا أن فكرة نصب الحرية كانت تراود جواد منذ منتصف الأربعينات لكنه لم يرَ الوقت آنذاك يصلح لتنفيذها وعندما جاءت ثورة 14 تموز أيقن جواد إن الوقت أصبح مناسباً لتنفيذ حلمه، الجدارية عبارة عن سجل مصوَّر صاغها الفنان جواد سليم عن طريق الرموز أراد من خلالها سرد أحداث رافقت تاريخ العراق مزج خلالها بين القديم والحداثة حيث تخللت النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة إضافة إلى رواية أحداث ثورة تموز 1958 ودورها وأثرها على الشعب العراقي وكثير من الموضوعات التي استلهمها من قلب العراق، ولعل أهم ما يجذب الشخص عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قـوة وإصرار ونقطة تحوّل تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار.
14 قطعة من البرونز
النصب يحتوي على 14 قطعة من المصبوبة البرونزية المنفصلة وعندما نطالعه تكون الرواية قد ابتدأت من اليمين إلى اليسار كما في الكتابة العربية، وبعد أن كانت الحركة مضطربة يمين النصب، فإنها ومع التحرك نحو اليسار تنتظم وتصبح نابضة بالعزيمة والإصرار بصورة إنسان يتقدم بصورة واسعة إلى الأمام وبعدها ترتفع اللافتات والرايات الجديدة في السماء، بعد ذلك يُطالعنا رمز البراءة والأمل على هيئة طفل صغير يُشير إلى بداية الطريق، تُطالعنا بعدها امرأة مشحونة بالانفعال والغضب والحزن، ومن ثم منظر مؤثر حيث تحتضن الأم ابنها الشهيد وتبكي عليه ولعل هذا الأمر كثير الورود في التاريخ العراقي سواء كان القديم أم الحديث تليها صورة الأمومة التي تغمر الحياة الجديدة بالحب والحنان فقد تكون للثورات والمآسي ضحاياها لكنها تملك في الوقت ذاته أجيالها الجديدة لعل في ذلك التفاتة جميلة من الفنان لنبـذ اليأس.
السجين السياسي
عندما نصل إلى الجزء الأوسط وهو الجزء الأهم في النصب حيث يُشير إلى نقطة التحوّل ويتألف من ثلاثة تماثيل ، على اليمين يُطالعنا تمثال السجين السياسي الذي تبدو الزنزانة فيه على وشك الانهيار تحت تأثير رجل مزَّقت ظهره السياط، ولكن القضبان لا تنفصل في النهاية إلا بإصرار وقوة وجهد الجندي الذي يظهر في الوسط وذلك اعترافاً بأهمية دور الجيش في ثورة 14 تموز، لهذا النصب أثره على المجتمع العراقي في مختلف الثورات والعصور فلم يتوحد العراقيون برمز يوماً كما توحدوا باتفاقهم بأن هذا النصب هو رمز للتخلص من العبودية والظلم، وبرغم أن النصب لا يحتوي على اتجاهات سياسية غير كونه رمزاً للتحرر إلا أنه أصبح رمزاً لثورة 14 تموز.
رشق الجدارية بالرصاص
الأمر الذي جعله رمزاً لثورة الرابع عشر من تمور دفع الحركات مثل حركة 8 شباط 1963 وحركة 17 تموز 1968 المناهضة لثورة تموز 1958 وجعلها تتخذ موقفاً عدائياً من هذا النصب، حيث تم رشقه بوابل من الرصاص في عامي 1963 و 1968 ، بعد ذلك تنقلب صفحة المعاناة والمآسي لتحل صفحة السلام والازدهار والحرية حيث تظهر لنـا امرأة تمسك مشعلاً وهو رمز الحرية الإغريقي وتندفع نحو محررها وبعد الانفعال يأتي الهدوء فيتوقف الغضب ومواجع الثورة وتحل الراحة والسكينة في القلوب وتتحول بعدها القضبان الحديدية إلى أغصان.
العرب والأكراد بأزياء سومرية وآشورية
نهرا دجله والفرات اللذان يُعـدّان العمود الفقري لحضارة وادي الرافدين لم يغيبا عن النصب حيث يُفسر البعض أن دجله الذي يعني في العربية أشجار النخيل والفرات بمعنى الخصب تمثلهما امرأتان إحداهما تحمل سعف النخيل والأخرى حبلى وثمة فلاحان يرمزان إلى العرب والأكراد ولكن أحدهما في زى سومري والثاني برداء آشوري وهما يتطلعان نحو رفيقيهما دجلة والفرات ويحملان مسحاة (مجرفة) واحدة فيما بينهما تعبيراً عن وحدة البلد الذي يعيشان في كنفه ،كذلك هنالك رمز عراقي آخر وهو الثور الذي يُعـد رمزاً سومرياً بينما يظهر الجانب الصناعي في أقصى اليسار على هيئة عامل مُفعَماً بالثقـة.
الخطوات الأولى نحو تحقيق الحلـم
في آذار 1959 يسافر جواد سليم إلى إيطاليا ليقضي أشهراً طوالاً في مصهر خاص بفلورنسا ، يصنع المصغرات بعد تخطيطها ثم يعمل مع مساعديه ( ومن أبرزهم محمد غني حكمت) على الفكرة الواضحة في ذهنه وهي تجسيد ملحمة تحكي تاريخاً وحاضراً لذا أراد لها أن تكون بهذه السعة وأراد لها أن تكون بأسلوب النحت الناتئ – وليس المجسمات- متأثراً بالفن العراقي القديم وفكر في لوح عريض هو الأرضية التي تستقر عليه وحدات النصب التي يبلغ عددها أربع عشرة وحدة تضم خمسة وعشرين وجهاً عدا الحصان والثور ، ويمتد هذا اللوح المعلق خمسين متراً وبارتفاع أكثر من ثمانية أمتار .
مفردات بيت من الشعر العربي
ووضع جواد منحوتاته على إفريز عرضي يجعلنا نتساءل: أهو متأثر بالخط العربي فوق سطر طويل أم أنه يستوحي الأفاريز والجداريات العراقية القديمة أم استوحى ذلك من شكل (اللافتة) أي القطعة البيضاء أو الملونة من القماش يرفعها المتظاهرون ويكتبون عليها الشعارات المؤيدة للجمهورية الوليدة؟
يذهب جبرا إبراهيم جبرا إلى تفسير وحدات النصب على أنها مفردات
” بيت من الشعر العربي يُقرأ من اليمين إلى اليسار فكل وحدة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يُعبـِّر عن النصب بأجمعه: توق العراق إلى الحرية منذ القدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها ، لقد اقترن اسم جواد سليم بنصب الحرية الذي اقترن بدوره بمدينة بغداد تاريخاً وفناً، وقد كان ذلك إنصافاً حقيقياً للفنان وللفن نفسه الذي أخذ مكانة حية وفاعلة في قلب الحياة والمكان.
رحيل الفنـان
لقد اكتملت موجودات النصب الذي لا يُغني وصفه عن رؤيته كأي عمل ضخم خالد، ولعلها مفارقة عجيبة أن يموت جواد سليم في عام1961م عن إحدى وأربعين سنة من العمر ؛ وهو يعمل على وضع منحوتات النصب في مكانها في فضاء ساحة التحرير عندما داهمته نوبة قلبية توفي على إثرها.
يُشكل نصب الحرية الذروة التي بلغها فن جواد سليم والمأثرة التي لم يأتِ بمثلها فنان عراقي منذ قرون ، انه عمل حاول فيه جواد أن يربط فنه بالناس الذين كانوا على الدوام مصدر إلهامه ، ففي كل رسوم جواد سليم ونحت نلمس عمق العلاقة مع الناس، انه فنان كان يُخبئ في ثنايا روحه مشاهد جميلة من بغداد التي عشقها وعشق وجوه أهلها الطيبين ، جواد سليم الفنان والإنسان نستذكر ذكرى رحيله الـ52 التي هي أيضا ذكرى مرور 52 عاما على تشييد ملحمته الخالدة (النصب).
أجزاء النصب ..ما الذي تخبرنا؟
نُصب الحرية هو اكبر نصب في الشرق الأوسط تم تنفيذه في المساحة الفاصلة بين حديقة الأمة وساحة التحرير ، أما محتوى هذا النصب العظيم فتتكون من 14 جزءاً تمثل ثورة 14 تموز التي قام بها الشعب ضد الحكم الملكي الاستبدادي (كما أعتقدَ) من أجل تحريره ، ولأن اغلب أفراد مجتمعنا لم يفهم المغزى من النصب وما ضمه من رموز عدا القليل منهم من مثقفين، فقد وُجِب شرح تفاصيله وابتداءً من جهة اليمين الى اليسار .
الحصان
الحصان الجامح على يمين الجدارية ذو الرأس المستدير على شكل دائري يمسكون به الرجال بقوة لكي يسحبوه الى اليسار، الحصان يرمز الى الأصالة والقوة ،لا يوجد فارس على الحصان لأن الشعب اسقط الفارس المتمثل بالعهد الملكي ، والمقصود به تمثال الجنرال مـود الذي كان أمام السفارة البريطانية وتمثال الملك فيصل ايضا ممتطياً جوداه قرب الإذاعة ،هكذا دمج الفنان الحصانين بواحد من دون فرسان لأنهم أُسقطوا.
رجال الثورة
إنها ثورة ضد النظام الملكي يُعبـِّر عنها الفنان بأنها ضد الظلم وهؤلاء الثوار يحملون لافتات عالية تعبـِّر عن انتفاضة العراق بتاريخه الجديد، هناك تناغم وتواتر في سيقان الأشخاص تؤكد الحركة عموما الى الأعلى تنتهي باللافتات البرونزية العالية حيث تكمل الحركة الدائرية من أجل توازن الجدارية.
الطفـل
في نهاية سير الأشخاص نجد طفلا رفع يديه المقطوعة ليبارك جهود الكبار في محاولتهم خلق المستقبل الذي يحمل الحرية والمساواة للشعب وللأطفال ومستقبلهم، هنا نجد تأثر الفنان جواد سليم بفن النهضة الايطالي حيث الطفل يمثل السيد المسيح مشيراً الى ميلاد حياة عراقية جديدة مفعمة بالأمل والحب والمستقبل المشرق الخالي من الاستغلال والعنف والاحتكار.
المرأة الباكية
انه دور المرأة في الانتفاضة التي تعبـِّر عما في داخلها بحركاتها وبعباءتها العراقية وزغاريدها بوجودها الى جانب الرجل لتجعل معنى الثورة متواصلا. الشهيد
هنا نجد أُماً ثكلى تبكي على ابنها الشهيد الذي استشهد في سبيل رفع الظلم حيث يذكرنا الفنان جواد سليم بمنحوتات مايكل أنجلو الرثائية الأخيرة التي جعل فيها خلاصة عبقريته ولعله ليس من العبث اختياره مدينة فلورنسا موطن ذلك الفنان لنحت جداريته العملاقة .
الأم والطفل
انه تعبير عن العلاقة بين الأم وطفلها تمثل الرعاية والاهتمام للأُم لرضيعها وفي هذا الشكل الدائري يوحي بإحاطتها طفلها كالسور حيث الحياة الجديدة المروية بدماء الشهداء .
السجين
سجين مقيـَّد خلف قضبان حديدية لكن الفكر والإرادة تسمو لكي تعطي الثورة للآخرين التي تنتهي بثورة على الظلم فالشعب الثائر حطم القضبان لكي يتحرر الأبطال فتكمل الحرية لاسيما إن العراق كان مليئاً بالسجون في المدن والصحارى القاحلة ينتظر نزلاؤها يوم الفـرج .
الجندي
هنا نجد ثمرة الصمود والثورة ، جندي في صولة عنيفة تفاعلت ساقاه وبدنه بحركة هجومية من اجل تحطيم قضبان السجون لكي تشرق من فوقه الثورة، والشمس هو رمز العراق الذي نشاهده في أعمال حضارات أجدادنا ومنها مسلة حمورابي وكان الفنان قصد بهذا الجندي الزعيم عبد الكريم قاسم الذي فجـَّر الثورة ولكنه لم يضع له تفاصيل الوجه لكي لا تدخل فكرة الموضوع منعطفاً آخر يُدينه التاريخ بسببه .
الحريـة
امرأة تحمل شعلة الانتصار وهي تحلـِّق فوق الأرض لم يجعل الفنان لها أقداماً لأنها لا تحتاجها وهي تسمو عالياً .
السلام
بعد أن تحققت الحرية نسج الفنان من القضبان شجراً ووجهاً فيه السلام تحيطه ضفائر والثوب الذي يحدد الجسم وكأنه مياه الأنهر والشلالات أما الحمامة فتعبـِّر عن السلام المستقر على النساء العراقيات . في هذه المنحوتة نجد الشاعرية مع القوة والجمال حيث تمثل أروع قطعة في النصب ، بل أبدع ما قدمه الفنان في حياته بتعبيره عن حبه لبغداد والحرية والمرأة.
نهرا دجلة والفرات
مثلت اهتمام الفنان بنساء العراق إحداهن فارعة الطول كالنخل انتشرت سعفه حول رأسها وهي تمثل دجلة. ودجلة كلمة عراقية قديمة تعني (النخيل ) والأخرى أقصر طولاً حبلى أي إنها خصبة كالسنابل التي تحملها على كتفها إنها تمثل نهر الفرات، أما الثالثة فهي صبية تحمل على رأسها خيرات الأرض ولعلها روافد دجلة والفرات . بعد المنحوتة السابقة تغير الأسلوب والإيقاع تغير التوتر والغضب الى سيمفونية تعبـِّر عن السلام والخير حيث النخل والسنابل والعطاء.
الزراعة
هنا نجد فلاحينِ معهما المسحاة يمثلان العرب والأكراد وأحد الرأسين جعله الفنان على هيئة الآشوري القديم إشارة الى تسلسل الحضارات على ارض العراق كما وضح في الأيدي تعاقد الشخصين للعمل معاً من اجل الحب والتآخي والرجلان يوازيان منحوتة المرأتين من حيث الشكل والإيماء .
الثـور
هو من أقدم رموز العراق يشير الى الفحولة والخصب والقوة ويرمز الى الثروة الحيوانية وهناك توافق بين الحصان في أقصى يمين الجدارية والثور في أقصى اليسار.
الصناعة
في النهاية نجد عاملا واقفاً وبشموخ متفائلا يمثل الصناعة والإنتاج وهكذا يعمل الجميع من اجل بناء العراق الجديد وهذا الجزء الأخير خاتمة ملحمة الحرية في العراق الجديد، وما نسأله: هل ما زال حلم الفنان جواد سليم في حياة ترفل بالحرية والرفاهية قائما في زمن أشباه الرجال من سياسيين ومسؤولين صادروا أحلام الشعب العراقي وسرقوه وقتلوا أبناءه وحطموا بلـده؟!!