الوسط – جعفر الجمري
19 أغسطس 2014م
حسين المحروس يلتقط «سيرة» مؤرخ الصورة
«عبدالله الخان… معجم العين»
يستند القاص والروائي والمصور الفوتوغرافي حسين المحروس إلى تجربة في تناول السيرة وكتابتها بالشكل والأسلوب المغايرين، فيما أنجز من أعمال، جعلته في مقدّمة الماهرين والبارعين في هذا المضمار. كان لاستفادته من الأشكال الإبداعية التي خاضها، وأنجز من خلالها عدداً من الإصدارات، الدور في اشتغاله على السيرة خصوصاً؛ الأمر الذي لم ينفِ أن إنجازاته في مجال القصة القصيرة والرواية، علاوة على تميّزه الأول الذي عرف به (اقتناص الصورة)، كان لها الدور الكبير أيضاً في مثل ذلك التداخل والاستفادة من كل منها في اشتغالاته المتنوعة.
يأتي «عبدالله الخان … معجم العين» الصادر في العام 2013، للقاص والروائي والفوتوغرافي حسين المحروس، هذه المرة متتبّعاً السيرة مُرتكزاً على الحضور الرئيس والمركّز للصورة، باعتبار صاحبها (عبدالله الخان)، واحداً من الروَّاد الذين أوجدوا لهذا الفن قيمته والمنهجية؛ علاوة على التأريخ الذي لعبه الرجل من خلال الصورة، سواء للمكان هنا أو خارجه، والإنسان وهو على تماس مع بيئته.
التأريخ من خلال الصورة الذي عُرف به وبرع فيه الخان، يكمله المحروس بقراءة «السيرة والصورة»، قد تكون القراءة للصورة يسيرة وغير مباشرة، لكن السيرة تضيء ما يُظن أنه ناقص.
بين «السيرة والصورة» علاقة يكاد بعضنا لا يميّز بينهما. ثمة فارق لكنه يتلاشى، ربما تبعاً للأداة التي ترسم الأولى (السيرة)، أو تلك التي تلتقطها (الصورة)، وفي الاثنين: التقاط. يلتقط المحروس هذا المرة سيرة مؤرّخ الصورة المصور الفوتوغرافي الرائد، عبدالله الخان. لم تذهب الكتابة في مباشرتها. تعرف ذلك من اشتغالات المحروس السابقة. تلك لا يمكن أن تتأتى لأيّ كان، اللغة التي يلتقط من خلالها السيرة. سيرة البشر، الوجوه، المكان، مكتنزة بشعريتها وحساسيتها. ذلك ما يضفي على السيرة وهجاً لن يخفى على ذي حس. شعرية وحساسية هي على ارتباط وثيق مع البسيط والفطري في الوقت نفسه. وهنا يكمن كل ذلك.
وأقدر من يبرع في كتابة سيرة فوتوغرافي كعبدالله الخان بكل تاريخه وإنجازه العريق والذي لانزال نشهد بعض حيويته إلى اليوم؛ فوتوغرافي يتكئ على لغة كالتي توافرت للمحروس في اقتناصه الجميل للصورة على مستوى اللغة والعدسة.
«لا يُحدّث الناس إلا صُوراً»
يستهل المحروس «معجم العين» بـ «في عينيه يُدّخر الكلام… تأجّل الكلام في عيني عبدالله الخان سبعين سنة لا يُحدّث الناس فيها إلا صوراً. أما الكلام الذي هو الكلام فأوانه حين تستريح العينان. أدرك الخان جيداً أن الصورة ذخيرة الكلام، فترك التفاصيل فيها، وفي سيرته كلها للناس. ربما كان هذا ما أرجأ الكلام عن نفسه. يُسوّي صور الناس، وجوههم، أماكنهم، حياتهم، وأفراحهم، يومياتهم، آمالهم ومآلهم، يخلد ما مرّ بينهم وفات، ويُسكن نياتهم في صورهم».
كأنه بذلك الفعل في ما يكتب المحروس؛ يؤجِّل صورته «ليوم غير معلوم» لو علم بيوم صورته لبهتتْ صورة الناس، ولم تأتِ وهي تكتنز وتضج بالحياة والأمل واليأس في الوقت نفسه.
و «المصور لا يلتفت لصورته»، انشغالاً بترتيب صور البشر من حوله والتفاصيل التي تسكن أو تحاصر أولئك البشر.
وفي التقاط مدهش يقدّم المحروس بمِقراب لغة تقتنص الشاهد المُهمَل والمركون هناك في عنائه وتعبه والتصاقه بالأرض: الفلاح، ذلك الذي يجلد الجدب والمحْلَ كلما انهمر ماء عنائه «بستان بحريني يفاجئك كل خطوة بمشهد جديد. لا ترتيب، ولا هندسة غير هندسة فلاح ينتظر اللون الأخضر في كل أرض. ليس في البستان جهة تشبه جهة. البساتين لا تتشابه».
«شهوة التوثيق»
أستعير العنوان من نص المحروس كسابقه؛ لأنه يختصر ذهاب الخان إلى الصورة. انشغاله بها. ليست الصورة جزءاً من اللحظة/ الثانية. هي اختزال لحياة ستمتد ولن تنجو من السهو والنسيان. «رأيته يحمل كاميرته – حسدت نفسي – يتجوّل بها في الأحياء يُشبع شهوة التوثيق فيه. هو مصور (فن التوثيق) في المنطقة كلها، تأخذه كل حركة تغيّر في البلاد والعباد فلا يهدأ حتى يؤرشف هذه الحركة ويوثقها».
ومن سيرة الأب بدء السيرة. ذلك المفتون بالكاميرا. المفتون بالكيمياء التي تصنعها. كيمياء لمن يلتقطها على تماس مع الأولى. من الهند حيث الأب محمد الخان، مخالطاً الهنود «في شبه جزيرتهم» «عاد أبي من الهند بفتنة الكيمياء، وبفضة المرايا، وبالتصوير الفوتوغرافي وببهجة حلوى الأطفال الأبيض اللذيذ (شَعْر البنات). فُتن أهله بكيمياء الصورة، أدخلهم فتنة الصورة واحداً واحداً حتى أمي وخالي (محمد شفيع). فعل كل ذلك في بيتنا بحيّ (البنعلي) بمدينة المحرق».
المكان بعودة الأب هو الآخر سيشتعل بكيمياء الصورة؛ بحسب نص المحروس في السيرة. لا يهم مردود الأفلام التي يحمّضها ويطبعها على قلّتها. وكان لوجود الجنود البريطانيين في شمال المحرق بعد أن علموا بعمل محمد الخان على الصورة «تحسّن مدخول الأسرة».
الوشاية ملح الجهل أحياناً
في ذلك الزمن، على بساطته، كل جديد فيه شيء من روح الشيطان ومسّه. الوشاية بأكثر من مدخل وموهبة للإيقاع بالذين يتجرؤون على الإتيان بالجديد. بالتعاطي مع غير المألوف (الكامير)، وما يتبعها من لوازم وأدوات. استعان الأب بالتنّاك ليصنع له جهاز تقطير. «تردّد أبي على التنّاك حتى آخر لحظة، لكنه لم يكن يعرف أن الشرطة كانت تلاحظ هذا الطلب الغريب. «… في عصر أحد الأيام جاءت الشرطة إلى البيت، يتقدّمهم السير بلجريف، وضابط بحريني، فاجأ أبي بقوله: (في المسجد أنت في الصفوف الأولى من صلاة الجماعة، والآن تفعل هكذا؟). لم يعرف أبي قصده، تقدّم بلجريف من الجهاز، بينما كان الضابط يهزّ رأسه في انتشاء ويبتسم؛ لرؤية الجهاز. سأل بلجريف أبي: ماذا تفعل بهذا الجهاز؟ فشرح له أبي مشكلة التحميض كلها، وشيئاً من سيرته، فتفاجأ بلجريف، وتابع شرح أبي حتى نهايته، ثم التفت للضابط وقال له: (أنت أحرجتني. في المرة القادمة تأكد من أخبارك. هذا الرجل ذكي، وفاضل، وأنت تقول لي، إنه يصنع الخمر في بيته؟)». كأن الوشاية تنبئنا أحياناً بأنها ملح الجهل!
من الطب إلى التصوير
في موضوع الهيئة التنفيذية العليا، التي تشكَّلت، وقيام هيئة الاتحاد الوطني فيما بعد، بعد منتصف خمسينيات القرن الماضي، تكفّلت الهيئة، ضمن جهودها الخاصة بابتعاث عدد من الطلبة للدراسة في الخارج. فكانت مصر خياراً. بعد تخرج عبدالله الخان في الثانوية العامة في العام 1957 «اتجهت نحو دراسة الطب»، كان نجل أحد قياديي الهيئة، عبدالرحمن الباكر، عبدالله، الذي أصبح طبيباً، قد راسل الخان يدعوه لدراسة الطب، وكان اسمه مُدرجاً ضمن الدفعة الثالثة. كانت الهيئة قد أرسلت بعثتين. بحل الهيئة عجزت عن الوفاء بإرسال الطلاب. لم تحل تلك الظروف دون سفر الخان إلى مصر «واقتُرح عليّ مقابلة أنور السادات، الذي كان يشغل منصب رئاسة المؤتمر الإسلامي، ففعلت، قال لي: ليس لدينا منح لدراسة الطب، ولا بعثات، ولكن هناك فرصة واحدة لك، هي أن تدرس في الأزهر، إن شئت. شعرت بضيق ودخلني شيء من الإحباط. زرت الأزهر مع صديقي الباكر، سجّلت فيه، وانتظمت في الدراسة. مر أسبوعان في ثقل سنتين. لم أستطع الاستمرار فانسحبت…».
كان الطب هو الخيار الذي قرّ. يتابع المحروس التقاط السيرة «كتبت إلى ملك العراق (فيصل) عن رغبتي في دراسة الطب في العراق، فجاءني خطاب الرد من وزير التربية – أذكر أن لقبه الدوري – بأن جلالة الملك يرحّب بك طالب طب، لكننا نريدك أن تحضر خطاب عدم ممانعة من حكومة بلادك». لم تتحقق الرغبة.
من «بابكو» إلى كلية «إيلنج» البريطانية
لن يكون طبيباً. دخوله إلى الأزهر أشعره بالضيق والإحباط. كانت «بابكو» وقتها ممسكة بعصب الاقتصاد. التقاط البحرينيين من المدارس دأبت عليه في ذلك الوقت بحثاً عن طلبة يسهمون في بحرنة بعض قطاعات الشركة. الزيارة إلى المدارس كانت ضمن برامجها الثابتة. كانت قدرته على التصوير دافعه الأول للالتحاق بها. قسم العلاقات العامة كان في طور التأسيس. «كان تصويري بدائياً لم يكن متقناً بما فيه الكفاية».
يورد المحروس «بعد مرور تسعة شهور، أدخلتني الشركة – ضمن مجموعة من موظفيها تختارهم كل فترة – في مدرستها الخاصة، لكي أأهل لدخول الجامعات الأوروبية. كان عدد طلاب المدرسة خمسة وأربعين طالباً، نال خمسة عشر منهم بعثات للخارج، أنا منهم (…) حصلت على بعثة لدراسة التصوير لمدة ستة أشهر (…) كنت أريد دراسة أكاديمية متخصصة (…) فأرسلتني إلى كلية إيلنج تكنيكل كولج، وهي كلية متخصصة في التصوير في لندن بالمملكة المتحدة…». خصصت الكلية له متابعة مشروع بناء عمارة ضخمة جداً «كان هذا البناء هو فندق هيلتون في لندن، الذي يعدّ أكبر فندق آنذاك في أوروبا. مررت جواره العام 2010، أنا والصديق حسين المحروس، ومازال بناؤه كما كان».
يمر اقتناص الصورة بمراحل احتلت فيها فترة ارتباط الخان بشركة «بابكو» مساحة لا بأس بها من الإصدار، وما تلا ذلك في العام 1969، من سعي الشركة إلى ترشيد الإنفاق مع اقتراب استقلال البحرين، وصولاً إلى تأسيس «مركز مؤسسة الصقر للتصوير. مليئة بالتفاصيل، يترك المحروس للخان مساحته في السرد. يمرّر ذلك السرد على «فلاتره» الخاصة. يعطي الصورة حقها في المؤثرات. اللغة تقوم بذلك. موهبة القاص، الروائي، والمصور أساساً تمنحه تلك القدرة المدهشة.
التصوير أخو التعب… طين الموت
كأنه تخفيف عمّا يمكن أن يسبّبه شغف أو شهوة التصوير/ الأرشفة. ليته التعب. قد يُودي بحياة لم يشغلها كثيراً مثل ذلك المحك أو الشراك المنصوبة لها.
من أقسى ما انتظر الخان وهو منشغل بالصورة، في التقاط المحروس للسيرة، ما يرويه عن عبدالله: «ربما أقساها ما حدث لي في الثالثة والنصف من عصر يوم السبت 17 ديسمبر/ كانون الأول 2001. كعادتي كنت أخرج للتصوير يوم السبت. كان مشهد انعكاس كوخ خشبي في نهاية رصيف للصيادين على ماء ساحل قرية الدير بالمحرق لافتاً جداً ويستحق التصوير. تصوير المشهد يستدعي دخول البحر. مشيت على أرض ليِّنة يغطيها ما بقي من ماء البحر. فجأة وجدت رجلي تغوصان في الطين. حاولت إخراجهما فدخلتا في الطين أكثر. وخلال دقيقة واحدة كان الطين يغطي أعلى صدري. كيف يتحرك أكثر من غاص أكثره في الطين؟ مرت خمس عشرة دقيقة حاولت فيها الخروج لكني لم أنجح. تلفت فلم أجد أحداً فشعرت أنها نهايتي فتشهدت بالشهادتين (…) بعد لحظات سمعت أصوات صبية تقترب مني فصرخت (النجدة… ساعدوني). صبية ثلاثة صغار يصعب عليهم إخراجي. رمى لي أولهم أنبوب ماء (هوز) فتمسكت به، بينما ذهب الثاني للشارع لإحضار النجدة، أما الثالث فقد راح يتصل بأبيه ليساعدني».
تم إنقاذ الخان من «طين الموت» بحسب تعبير المحروس، وما لم ينسه من تلك الحادثة بحسب الخان «حاولت التواصل مع الصبية والرجلين بزيارة المكان فلربما أجد أحدهم يمشي هناك. أتمنى لو أزورهم يوماً ما وأشكرهم مرة أخرى لأنهم أنقذوا حياتي».
لم يقتصر اقتناص كاميرا عبدالله الخان، على بلده البحرين. أرْشف أينما حط في بلاد الله وجوهاً وأمكنة وأزمنة، شهدت تغيرات وتحولات كبيرة فيما بعد. كان لدول الخليج العربية نصيبها من ذلك الأرشيف، من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي وثق فيها حدث إعلان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكماً على إمارة أبوظبي في العام 1966، وليس انتهاء بدولة الكويت، تلك التي دخلها بعد التحرير، مُسجّلاً حجم الدمار والكوارث والمآسي التي حلّت بها بعد دخول قوات التحالف الدولي إليها وتحريرها في العام 1991، من الآليات المعطوبة ومخلفات الجيش، مروراً بمقرّ وبيت الحكم «قصر بيان»، وليس انتهاء بأكبر كارثة بيئية عرفها العالم، بعد أن عمد النظام العراقي وقتها إلى إحراق عشرات من آبار النفط، التي حولّت نهار الكويت إلى ليل. ظل مسكوناً – ولايزال – بالقبض على الراهن قبل أن يصبح تاريخاً. يرجع إليه بعد أن استنزفت منه المعايشة والحضور في قلبها الكثير؛ لكنه يظل ممتناً لـ «اللحظة» تلك التي تلتقط ما سيصبح تاريخاً، كان جزءاً منه، وشهد تحولاته والتغيّرات.
حوى الإصدار عناوين ملفتة كل منها يناسب عنوان إصدار خاص، وأخرى مباشرة: معجم العين، والذي حمل عنوان الإصدار، فضّة المرايا، أول الضوء، أفكّر في التصوير، ظلّ محسوم، الزواج، أرشيف «بابكو»، يقظة الصقر، الصقر يطير وحده، حقّ الصورة، المحرق في تقرير، جنّيات البحر، بيت البحرين للتصوير، المصوّر المؤرّخ، فوتوكينا، ما لم أصوّره وندمت عليه، التصوير أخو التعب، تأتي الصورة أو لا تأتي، الصور قصص، لحظة الحياة، البحرين بعدسة والدي، ساحة مدرسة المنامة الثانوية، كلية إيلينج للتكنولوجيا ومدرسة الفن 1960-1963، ثلاثة يسافرون بالسيارة إلى البحرين، الأراضي المقدّسة: القدس، مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، العائلة الكبرى، شخصيات في حياتي، الأصدقاء… السفر، الكويت: التحرير والبناء، تدشين الكتب، ومنازل الكتاب.
قام بترجمة «معجم العين» إلى الإنجليزية، فاطمة الحلواجي، وشارك فيها، محمد الخزاعي وفيشواز رويت، صمّم ونفّذ الإصدار، حسين المحروس، وقام بالمراجعة العربية، حسن كمال وفضيلة الموسوي، فيما راجع الإنجليزية، فيتشواز رويت، وتولّت المراجعة العامة آمال الخيّر، وللفنان التشكيلي والخطاط عباس يوسف، بصمته على الإصدار بخط العنوان العربي.