اعداد /عصمت شاهين دوسكي
لم يكن يوما عاديا في أربيل رغم إني زرتها سابقا عدة مرات وكتب عنها قصائد فكر وحب وإحساس ، مثل قصيدة الثلج والنار وقصيد أربيل وقرأت فيها في حفل تكريمي للسلام العالمي قصيدة سيدة السلام وغيرها ، حيث الشمس مشرقة والدفء الروحي والنفسي والإحساس الجميل بالمناظر الشمالية الرائعة رغم وجود الأزمات الاقتصادية والثقافية والسياحية والاجتماعية التي أبطالها أزمات سياسية تركت آثارها على كل المجالات الحياتية الأخرى ، التقيت بصديقي ” رمزي رستم ” بعد طول غياب تعانقنا عناق الفرسان من زمن قديم ، بعد الأحاديث الشيقة من ذلك الزمن البعيد ، زرنا معا الفنان التشكيلي المبدع يونس جوجان وتناولنا أحاديث عن هموم الفن والشعر والحياة والواقع والأزمات والتناقضات العصرية التي يواجهها الفنان والأديب بصورة خاصة والإنسان عامة ثم استأذنا في الخروج وشكرنا له حسن الضيافة والاستقبال ، وبين الشوارع الأربيلية المميزة حيث المهن المختلفة النجارين والصباغين ومحلات العدد اليدوية والمنزلية وغيرها لا تختلف عن شكل مدينة الموصل بكثير ، الأصدقاء والناس يسلمون علينا بصدر رحب بابتسامة ظاهرة على ملامحهم المتواضعة ، أخذتنا خطواتنا إلى قلعة أربيل ، من بعيد تجدها مدينة مستقلة ذو كبرياء وتحدي كبير وتشعر بالقوة والعمق التاريخي الذي يعد المكان الأثري للقلعة قديما نتيجة التراكمات الطبيعية لبقايا الحضارات المتعاقبة على مر التاريخ ، كانت هذه التلة المرتفعة معلما بارزا على الطريق الملكي القديم وطريق المسافرين والعابرين لسلسة جبال زاكروس من جهة الشرق وكانت أربيل إحدى المدن الرئيسية في الإمبراطورية الآشورية ، واشتهرت القلعة بوجود معبد عشتار فيها وضم المعبد مدرسة دينية ومرصدا فلكيا ، كما آوى الكاهنات اللاتي يتنبأن بالمستقبل .
في عام 331 قبل الميلاد اختار داريوس الثالث أربيل قاعدة له قبل هزيمته أمام الكسندر الأكبر في معركة كوكميلا ( أربيل ) وبعد المعركة وجد الكسندر كنز داريوس وملابسه الملكية المهجورة متروكة في القلعة ، فقدت أربيل وقلعتها أهميتها بشكل مؤقت في العهد الأموي حيث طور الأمويين مدينة الموصل واتخذوها عاصمة الإقليم لكنها سرعان ما استعادت أهميتها بعد أن تمكن زين الدين زنكي في السيطرة على القلعة عام 1126 م .
وفي عام 1190 م وبعدها أصبح السلطان مظفر الدين كوكيري حاكما وأصبحت أربيل مركزا ثقافيا وتعليميا مزدهرا في المنطقة وبعد وقت قصير من وفاة كوكيري هاجم المغول في عام 1232 م المدينة المحيطة بقلعة أربيل ودمروها بشكل كبير ورغم فشلهم في الاستيلاء على القلعة فإنهم تمكنوا من ذلك بعد المفوضات التي أعقبت حصار القلعة عام 1258 – 1259 م .
اقتربنا من القلعة وسمح لنا الحارس في البوابة السفلى للصعود للقلعة في طريق مرتفع نجد المدينة ومعالمها الحديثة البعيدة والقريبة إلى أن وصلنا إلى البوابة الكبيرة في شكل قوس عالي وعلى أطرافها أشكال هندسية مستطيلة ومربعة ودائرية من الطابوق عبرنا البوابة ودخلنا كأننا في عالم آخر كلما تعمقنا في عمق مدينة تاريخية شاهدة على التاريخ نستذكر أحوال الناس الذين كانوا هنا ذات يوم طبيعتهم أحوالهم ونتخيل معيشتهم البسيطة ونقاء روحهم وطيبة قلوبهم وتآلفهم وأواصرهم الاجتماعية الواحدة ونحن نسير في شارع القلعة ( جاده ى قه لات ) Citadel St. رأينا بعض الترميمات اكتملت لبعض البيوت والشواهد التاريخية صالات ومحلات قديمة كالدار التراثية وقاعة النسيج الكوردي وجاري البناء والترميم لمدرجات مسرح وإعادة بناء البوابة الكبرى لقلعة اربيل وجامعها وحمامها وغيرها من المعالم الأثرية .
يمتد تاريخ قلعة أربيل لأكثر من ستة آلاف سنة وهي واحدة من المواقع الأثرية التي درجت ضمن قائمة التراث العالمي من قبل منظمة اليونيسكو وما زال العمل جاريا في إعادة أحياء قلعة أربيل الأثرية ، كل معلم منها يحمل سمات عصر من العصور التاريخية والتي تعد من أقدم المستوطنات البشرية على سطح الأرض .
حافظت على وجودها رغم وجودها يعود إلى أكثر من ستة آلاف سنة بما كانت عليه من سكان على مرور التاريخ بدليل الطبقات المتعاقبة للحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والإغريقية والفارسية والإسلامية والعثمانية ، وهي على شكل بيضوي يبلغ ارتفاعها ما بين 28 – 32 متر ويبلغ قطرها الكبير 430 متر ومساحتها تبلغ إحدى عشر هكتارا ومعظم البناء هو من الطابوق اليدوي الذي يعتبر المادة الأساسية للبناء وتضم شبكة من الأزقة الضيقة المتعرجة والدور التقليدية المتراصة ذات الفناء الوسطي .
وهي كما رأيناها تشهد مشروع واسع لإعادة تأهيلها وترميمها تحت مشروع ” إحياء القلعة ” تقدم منظمة اليونيسكو المساعدات الفنية والمشورة في العمل حيث تم ترميم وتطوير عدد كبير من الدور التي تطل على الواجهة الخارجية للقلعة وقسم آخر بين الأزقة الداخلية مع الانتهاء من متحف النسيج الكوردي ومعرض التراث الكوردي التابع لوزارة الثقافة الذي يقع على الشارع الرئيسي داخل القلعة ودار الأزياء الكوردية الذي يدار من قبل اتحاد نساء كوردستان ومحلات لم يكتمل بناءها أو ترميمها .
توزعت الأحياء السكنية في القلعة إلى ثلاث أحياء رئيسية وهي ” السراي ” في الجزء الشرقي وسبب تسميتها لأنها تظم المباني الإدارية للحكومة والكثير من دور المسؤولين والأغنياء والوجهاء أما الحي الثاني ” التكية ” لأنه يضم الكثير من المباني الخاصة بأداء الطقوس الدينية ويقع في الجزء الوسطي والشمالي من القلعة أما الحي الثالث ” الطوبخانة ” يسكنه الكثير من الحرفيين ويقع في الجزء الغربي ويشير الطوبخانة إلى وجود المدفع الذي كان يستخدم في الدفاع عن القلعة ضد الهجمات ، وصنع هذا المدفع من قبل الأسطى رجب راوندوزي عام 1820 م .
إنه عالم غريب ساحر وجميل تشعر وجودك تاريخيا فخرجنا من بوابة كبيرة تطل على الساحة المقابلة للقلعة منظر النافورات العالية والأشجار والمحلات والأسواق المكتظة بالناس ، ونحن ننزل تاركين القلعة خلفنا كأننا خرجنا من عالم ألف ليلة وليلة إلى عالم عصري سيكون ذات يوم تاريخا وفي الساحة الجميلة وجدنا الطيور المختلفة المؤلفة وكان هناك موعد معها فتآلفت معنا بسهولة ويسر وعلى جانبي الساحة الحديقة محلات كثيرة تصميمها تاريخي يمتد إلى تصميم قلعة أربيل بأقواسها وأشكالها .
وفي السوق اقتربنا من رجل كبير في السن ولكنه يحمل ذروة الحياة يعزف على الناي بنغمات وألحان كوردية وكأنه هو الآخر آت من عمق تاريخ قلعة أربيل ودخلنا مطعم متواضع شعبي قريب من القلعة وأسكنا جوعنا التاريخي وشكرنا صاحب المطعم الذي أبى أن يأخذ الثمن وقال أنتم ضيوفي عندما علم إني ضيف عند صديقي رمزي رستم وعلم وجهتنا التاريخية في قلعة أربيل وهذا ليس غريب على أهل أربيل الطيبين الكرماء ، ثم شكرت صديقي رمزي رستم لمدى صبره وتحمله وعدت إلى دهوك وطول الطريق أتخيل العالم المثالي لقلعة أربيل التاريخية الأثرية العالمية .
*********************
المصدر : مقال للأستاذ دلشاد عبد الله