كأنّ المؤلف قد قرر التجوال في مناطق بغداد الشهيرة مستعيراً كاميرتين سينمائيتين، ليعرض لنا فيلماً وثائقياً عن بغداد الممزقة بفعل الاحتلال والإرهاب وصراع المصالح. انطباع يتلمسه القارئ في رواية «عصافير المومس العرجاء» (دار لحظة للنشر) للعراقي سعد هادي. قصص ومشاهد عديدة نقرأها، بل نشاهدها أحياناً، نتلمسها ونعيش داخل وجعها وسخريتها. الرواية زاخرة بقصص ومشاهد الشارع العراقي زمن الاحتلال. ما من شخصية تظهر إلا تركت أثرها من طريق سرد قصة أو حكاية أو حادثة لا تخلو من الغرابة، بالإضافة إلى قصص كثيرة ترويها لنا بطلة الرواية «أميرة» أو المومس العرجاء. يستعير سعد هادي عيون وذاكرة أبطال وشخوص روايته عوضاً عن الكاميرات ليضع أمام القارئ مسلسلاً لحياة العراقيين في العاصمة بصورتها التي صارت عليها بفعل الاحتلال وظهور سلطة العصابات بدلاً من السلطة المركزية. شخصيتان رئيسيتان تقومان بالمهمة التسجيلية لأحداث الرواية، موظف هارب من زوجة لم نتعرَّف إليها، ومومس عرجاء هاربة من حاضرها.
تظهر بغداد كأنها مدينة أشباح، عصابات مسلحة، أصوات انفجارات. بيوت دعارة وصرخات آدمية مستغيثة وأخرى تئنّ وجعاً داخلياً. اغتيالات وتزوير ودجل وسلطة طاغية لمعممين كانوا بالأمس من رجالات النظام السابق، «عمامة سبع لفات وأربع محابس… قبل السقوط بيوم، زيتوني لابس» كما يقول الدارمي العراقي الشهير الذي أصرَّ المؤلف على تدوينه في روايته التي يهيمن على أجوائها الخوف والمحاولات المستميتة للهروب من مرارة وضبابية الحاضر الذي نجده وقد تجسد كآصرة ارتبط بها أغلب شخوص الرواية. الخوف من كل شيء. الخوف بات سيد الفضاء العراقي العابق برائحة البارود. «لم أشعر بهذا الخوف حتى عندما كنت جندياً في المواضع المتقدمة خلال الحرب مع إيران، كان الخوف يأتي من جهة واحدة. والآن لا تدري من أين يأتي. خوف خاص بكل شارع، وبكل منطقة يختلف عن سواه. في هذا الشارع ينبغي أن تخاف من ذوي الملابس السوداء. أما في هذا الشارع، فقد يخرج لك ملتحون بدشاديش قصيرة بيضاء، ولا تدري من يكمن لك في الشارع التالي».
يتجول سعد هادي مع مومس روايته وبطل الرواية ــ الرجل الهامشي الذي لم نعرف له اسماً ــ في العديد من أحياء العاصمة وأزقتها وشوارعها. يدخل البارات والمطاعم والفنادق ماراً بأزقة مغلقة تحرسها الميليشيات، وأخرى مفتوحة على مصراعيها للقتل أو الدعارة، ومنازل وأرصفة مهجورة يسكنها الخوف وهواجس بقايا أشكال آدمية أكلها الجوع والمرض، وصولاً إلى مبنى وزارة الدفاع الذي بات أطلالاً بفعل صواريخ القوات الأميركية ومسكناً وملاذاً لمئات المعدمين من العراقيين. رحلة روائية لا ينقصها التذكير بحجم المأساة والفجيعة، رغم حضور واضح لفكاهة عراقية خالصة بامتياز أو لنقل كوميديا سوداء تنبثق هازئة في أتعس الظروف وأكثرها مأسوية، في محاولة لتسليط الضوء على المزاج العراقي المتقلب بين الجد والهزل. وهذا ما يشير إلى أن بغداد هي البطل الحقيقي للرواية. الواضح أن سعد هادي أراد توثيق الحياة اليومية البغدادية في أصعب مراحلها، وما إصراره على استخدام اللهجة العراقية إلا توكيد لأهمية فكرة التوثيق.
الرواية التي حاولت تسليط الضوء على عمليات اغتيال ضباط سابقين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية، تحاول أيضاً العودة بالذاكرة إلى عالم صدام حسين وزبانيته كمرحلة اشتغلت فيها السلطة على إذلال الإنسان العراقي وسلب كرامته. يرصد المؤلف حالة تكاد تكون غريبة لولا تجذر الخوف داخل الروح العراقية منذ زمن الديكتاتور. حالة يعتقد من يعانيها أنّ صدام حسين لا بد من أن يعود يوماً ليحاسب كل شخص وقف مع التغيير، وهنا نقرأ خوف سلمان الحلاق الذي ظل مؤمناً بعودة سيده القائد: «نهض سلمان من كرسيه وذهب باتجاه الحائط وقلب صورة مؤطرة لتظهر صورة مجعدة لصدام حسين ملصقة على ظهرها». وكأن المؤلف أراد الإشارة إلى أن الوضع العراقي لم يختلف كثيراً، كأنه وجهان لعملة واحدة.
صور متعددة ومتلاحقة نشاهدها في رواية سعد هادي وهي تعرض أمامنا وجع الروح العراقية من طبيعة حياتها اليومية ومرارة «البقاء على قيد العراق». صور صاغها المؤلف بحرفية عالية ودراية متقنة تكللت بعبارة عراقية بامتياز يتداولها العراقيون منذ الثمانينيات: «يعني هم معقولة ربي يحاسبني يوم القيامة عاللي سويته بحياتي، من عابت هذي الحياة الجايفة».