فلاديمير تماري
الفنان التشكيلي الفلسطيني ” فلاديمير تماري” المولود في البلدة القديمة من مدينة القدس عام 1942. ينتمي لأسرة فلسطينية مسيحية عشقت الفن والعلم وسارت في ركابهما. وتضم في طياتها إضافة إليه، مجموعة من المواهب الفنية المُجسدة في شقيقته الأولى ” فيرا تماري” في ميادين الفن التشكيلي ومسائل التراث الشعبي الفلسطيني. والثانية ” تانيا تماري ناصر” في ميادين الموسيقى والتراث والغناء. انتقلت العائلة إلى مدينة يافا ما قبل نكبة فلسطين الكبرى عام 1948. وبعدها أوصلته قوافل التشرد إلى مدينة بيروت اللبنانية، كأول محطة لجوء له خارج أسوار الوطن الفلسطيني.
شكلت مدينة بيروت اللبنانية الحاضنة الحياتية والأكاديمية، متابعاً فيها دراسته الأكاديمية للعلوم الفيزيائية في الجامعة الأمريكية ببيروت ما بين أعوام 1957 – 1963. ثم تلقى تعليمه الأكاديمي في ميادين الفنون التشكيلية في أكاديمية سانت مارتن في مدينة لندن البريطانية. وقد تسنى له في تلك الفترة دراسة الخطوط العربية الكلاسيكية التي كتبت فيها نسخ القرآن الكريم، مستنبطاً بعد تلك الدراسة اختراعاً في ذات السياق الخطي، سُجل باسمه تحت براءة اختراع لتصميمه حرف عربي طباعي اسماه “القدس” تيمناً ومحبة وانتماء لمدينته، وقد عمل في بداية حياته المهنية في سلك التعليم بمدارس الأونروا في لبنان كمدرس للتربية الفنية. ورسام للوسائل التعليمية الإيضاحية، وصمم جهاز للرسم بالأبعاد الثلاثة، إلى جانب مشاركته في إخراج عدة أفلام وكتب فنية ومنها فيلم وثائقي عن مدينة القدس عام 1967.
غادر مدينة بيروت عام 1970 متوجهاً إلى مدينة إلى طوكيو، كونها محطة إقامته الثانية خارج أسوار الوطن الفلسطيني. لتشكل مكان لإقامة مؤقتة للعيش. ومزاولة ميوله ومهاراته الأكاديمية فيها بمجالي الفنون والفيزياء، وبرع في كلتاهما آية براعة، وله فيهما مجموعة من الاختراعات، والمبتكرات الفنية التشكيلية ومشاركاته في المعارض الجماعية منذ العام 1980 في العديد من الدول العربية والأعجمية، والتي تشهد على سعة مخيلته وانتماءه لوطنه وأرضه فلسطين التي هُجر منها قسراً بفعل الغزوة الصهيونية منذ حروبها المتكررة عقب نكبة عام 1948. عمل محاضراً في أكاديميات طوكيو ومذيعاً باللغة العربية في إذاعة طوكيو ورساماً لكتب الأطفال، وساهم في إخراج كتاب صور فوتوغرافية عن مذبحة صبرا وشاتيلا. عاش غربته العلمية أيضاً داخل بلد متقدم علمياً مثل اليابان، ولم يتسنى له تسجيل براءة اختراع لنحو خمسة عشرة نموذج تقني، لأن القوانين اليابانية مقتصرة على اليابانيين وحدهم.
لوحاته مشبعة بالاتجاهات التعبيرية السريالية ذات المسحة التجريدية، التي تُعطي للفكرة الرمزية دلالة التوصيل ومساحة للتأويل البصري والبحث والمعايرة، وللخط الحركي واللون الزاهي والسابح في تدريجاته المتجانسة، والمتوالدة من رحم دائرة الألوان الرئيسية في الطبيعة، سمة وصفية متناغمة الخصائص والسمات. جميعها مكوناته الشكلية تُكرس مفاهيم دراسته العلمية برؤية بصرية شديدة الخصوصية والتفرد. موصولة بفيزيائية الحركة وتداعيات موشور الرؤى السردية المتوارية وراء النصوص، والراقصة على فسحة المعادلة الشكلية المتواترة للفكرة والخط واللون، وإيقاع الحركة المتجلية بوضوح بصري في كثير من أعماله.
شغلته الفيزياء الحركية في أبعادها الثلاثية متعددة السطوح، المسطحة المستوية ذات البعدين والأبعاد المنظورة في حجمها الثالث المرئي، وتجلت في العديد من لوحاته. وتُشعرك بأنك أمام فنان عالم ومفكر، قبل أن يكون فنان تشكيلي حساس وتقني. رموزه وعناصر مفرداته المرصوفة داخل محيط أطواله وفراغاته، محسوبة بدقة علمية ورتابة وصفية، تُعطي كل عنصر من عناصره حقه من الحركة، وتجعل من عناق الفكرة الرمزية والخط واللون والتقنية فرصة بصرية مواتية، لتأليف عائلة تشكيلية مُتجانسة من العلاقات الشكلية، وتبيح للمتلقي فسحة للاندهاش والاستغراب والتأمل.
لوحاته تعبيرية بقدر ما هي سريالية، وتجريدية مفاهيمية في نهاية المطاف. يُدير لعبتها التقنية باقتدار. وتحتضن مواضيعها المنشورة حقيقة الانتماء لجوهر الأماكن والأشياء، وتختصر معاناته الذاتية والشخصية كلاجئ فلسطيني في أزمنة غربته المتعاقبة. ويجد في مدينة القدس مسقط رأسه السلوان وفسحة بصرية متطاولة لتفريغ مسحة من انفعالاته ورغباته ومكنوناته. تُخفي في ضلوعها بعضاً من أوجاعه وذكرياته وحنينه، وتجسد رموزها وخطوطها العربية وملوناتها هذا الكم من الحب والانتماء لذاكرة وطن فلسطيني، تشغل مدينة القدس موقع القلب في معادلته التشكيلية. ويدونها في كثير من اللوحات في صور سرد متعددة النغمات الشكلية.
لوحاته قائمة على رؤية بنائية هندسية الطابع، فيزيائية الجوهر، تقص مضمرات النص في داخلها، وتُعيد رصف مكونات الذاكرة والحنين والمكونات في صور سرد بصري. جامعة ومحاكية لرموزه وشخوصه وأماكنه، في حلة شكلية متوازنة، مُحافظة على وحدة سردها العضوية. تجود بشفافية اللون وسباحته فوق سطوح الخامات، وتُمسك بتلابيب الخط العربي والخط الحركي المتحرر في حيز الكتل المرصوفة والفراغ، تجمع في طياتها المتناقضات اللونية تارة، والمتوافقات في كثير من الأحوال بتداخلات شكلية وعلاقات هندسية منسجمة ومتوازنة، وكسوة جمالية ممتلئة بروح البحث والتجريب واللعب الدائم على أوتار الاتجاهات التجريدية. تُبقيه أسيراً لمنهجه العلمي ومناطق رؤيته وتفكيره البصري في مؤتلفات النص التشكيلي.