فريد أبو وردة.. المربي والأديب والشاعر
بقلم: نعمـان فيصـل
الرواد في حياتنا سيرة متكاملة من النجاح والخلق، والأستاذ فريد أبو وردة، في طليعة هؤلاء، الذين تتمثل فيهم صفات المروءة بأكمل معانيها.
وأستاذنا من هذه النخبة لا يبتغي الخير لمصلحة ذاتية، ولا يتوخاها لاجتذاب المديح أو الشكر؛ فإذا أُمتدح أو شُكر أحرج وارتبك وضاق ذرعاً حتى لتخاله منزعجاً من كل ذلك.. لمست فيه اهتماماً كبيراً بوطنه السليب يفوق التصور ويجل عن الوصف، فهو أهل لإنجازاته وإسهاماته الفعالة في شتى الميادين.
ولد الأستاذ الكبير فريد أحمد أبو وردة في قرية النزلة (شمال غزة) عام 1921 (ينتمي إلى عائلة كبيرة من عائلات قرية النزلة؛ والده الشيخ أحمد محمد أبو وردة خريج الأزهر بمصر، وكان مختار القرية)، تعلم الأستاذ فريد في مدرسة القرية حتى الصف الثالث الابتدائي، وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية بالمدرسة الرشدية في مدينة غزة، وقد أنهى فيها الصف الثاني الثانوي عام 1939 ونظراً لظروف الحرب العالمية الثانية فقد اضطر لإكمال دراسته في مصر. تقدم في مصر لامتحان معادلة التوجيهية فنجح، وقد مكنه هذا النجاح من الالتحاق بكلية الآداب- قسم اللغة العربية (جامعة فؤاد الأول- القاهرة حالياً) عام 1941، وتخرج فيها عام 1945. وقد حصل فيها على درجة الليسانس الممتازة في الآداب بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وبذلك منح جائزة الدكتور طه حسين، وهي الجائزة المخصصة في مصر للطالب الأول المتفوق في كلية الآداب- قسم اللغة العربية كل عام.
عين عام 1945 مدرساً في كلية الثقافة بيافا، ثم في المدرسة العامرية الثانوية في يافا خلال الأعوام (1946–1948)، حيث علّم تلاميذ المرحلة الثانوية المتقدمين لامتحان (المترك) الفلسطيني، وكان من تلاميذه: (فاروق القدومي، وشفيق الحوت، وإبراهيم أبو لغد،…)، وعندما وقعت نكبة عام 1948 عاد إلى قطاع غزة، وساهم عام 1949 في تأسيس مدارس اللاجئين ومنها مدرسة جباليا الإعدادية (برعاية منظمة quakers الأمريكية) والحكومة المصرية.
في مطلع عام 1950 سافر إلى العراق، وعُيّن في مدينة الكوت مدرساً للغة العربية في مدرستها الثانوية للبنين، ثم في مدرستها الثانوية للبنات. وفي عام 1953 زار الملك فيصل الثاني مدينة الكوت، ومدرستها الثانوية للبنات، وكان معه الوصي على العرش عبد الإله، ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وذلك تمهيداً لاعتلائه العرش، وقد زار الملك فيصل الثاني الأستاذ فريد وهو يدرس النحو لطالبات السنة الخامسة الثانوية في المدرسة، ودام مكثه وهو يستمع في الصف ويرى نشاط الطالبات وتفاعلهن وجودة القيادة وتنظيم عملية التعلم مدة خمسين دقيقة… فأعجب إعجاباً شديداً، وشكر للأستاذ فريد قدرته الفائقة وتمنى للطالبات التفوق…
عاد إلى غزة في عام 1954، وعين ناظراً في مدرسة الشجاعية الإعدادية للاجئين، ثم ترقى إلى مراقب في إدارة التعليم في وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين عام 1955 وفي عام 1956 إلى كبير المراقبين، ثم نائباً للمشرف على مدارس اللاجئين (مدير التعليم) عام 1958.
كان للأستاذ فريد أبو وردة ميول سياسية، وأعمال وطنية، واستعداد للبذل والتضحية وقدرة على الصبر والاحتمال والمثابرة، وكان رائداً في هذا الدور في واجهة العمل الفلسطيني ضد مشروع توطين اللاجئين في سيناء المصرية في مارس 1955 وشارك في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي عام 1956 فكان في قيادة جبهة المقاومة الشعبية، وبعد الجلاء عام 1957 ظل يناضل ضد تدويل القطاع، ومن أجل عودة الإدارة المصرية، والحفاظ على عروبة القطاع.
في عام 1959 اعتقلته الإدارة المصرية الحاكمة لقطاع غزة، وسجن في الواحات الخارجة بمصر، وأمضى فيها سنتين وشهراً، وعاش تجربة مريرة، وعانى ما عاناه رفاقه (معين بسيسو، خليل عويضة، سمير البرقوني، عبد الرحمن عوض الله…) في المعتقلات المصرية. وبعد خروجه من المعتفل عام 1961 أعاده الحاكم العام المصري الفريق أول (يوسف العجرودي) إلى عمله في وكالة الغوث عام 1962. وفي آخر عام 1969 نفته قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى سيناء المصرية مدة ستة أشهر.
شارك الأستاذ فريد مشاركة رائدة وإبداعية في تدريب المعلمين والنظار، في عام 1949 شارك في أول دورة لتدريب المعلمين والمعلمات (في مدارس الحكومة، ومدارس اللاجئين) ومنذ عام 1954 كان فعالاً في كل الدورات التربوية للمعلمين والنظار.
وقد كان مشرفاً ومسئولاً عن أول دورة تربوية للنظار (نظمها معهد التربية) وكان يشارك في زيارات المعلمين التوجيهية في أثناء التحاقهم بدورات تربوية، كما يشارك في زياراتهم العملية التقويمية النهائية.
وقد حرص على المشاركة الحقيقية في متابعة جميع النظار في زياراتهم الميدانية التقويمية النهائية، ولقد كان في كل ذلك حافزاً وموجهاً ومقوّماً، ومعيناً وقدوة للمراقبين والموجهين. وفي مطلع السبعينيات من القرن العشرين اختير عضواً في مجلس التعليم العالي الفلسطيني، وعضواً في الملتقى الفكري العربي في القدس.
أُحيل إلى التقاعد في عام 1983 بعد أن جُدد له مدة سنتين تقديراً لنشاطه وخبرته، وغني عن البيان أن ما حظي به من قدرات ومزايا ودينامية، لم يكن ناتجاً عن صدفة ما أو ثمرة حظ أصابه، وإنما هو ناتج عن ثمرة فهم سليم لموجبات وشروط وعوامل النجاح، وحسن تصميم للأداء وتنظيم إدارة، إلى جانب امتلاكه قدرة ريادية مستنيرة، فالنجاح إذن كان نتيجة جهد متواصل وعمل دؤوب دون خلود إلى راحة وسكون، فكرّس جل وقته للكتابة ومن ضمنها كتابة الشعر بأنواعه، وكتب مئات القصائد، والقصص القصيرة وكلها (مخطوطة)، ومن بديع شعره قصيدة (أحبك غزة)، التي أهداها إلى صديقه الأستاذ خميس أبو شعبان ومنها قوله:
أُحبكِ – غزةُ- حُبَّ الفقيرِ
الشِّباكَ، تُلْقَى جِزافاً، خِفافاً،
تَعُودُ مِلاءً، ثِقالا،
بِها ما يُقيلُ عِثارَ اليتامى،
وَيُحيي رَجاءَ الأَيامَى،
وَيَنْزِلُ ظِلاً على الصّائمينَ،
وظلاً على الجائعينَ
وما كانَ يأمُلُ، خاتَمُ لَبَّيْكَ
يَحْلُمُ فِيهِ مِرارا..!
إلى أن قال:
أُحِبُّكِ حُبَّ خَميسٍ لِرؤْيَةِ جَمْعِ الرِّفاقِ بِجَنَّةِ غَزَّةَ يَوْمَ الخميسِ
ويَوْمَ الثَّلاثا…
يُديرونَ فيها حَديثاً نَدِيّاً غَنيّاً شَهِيّاً
يُطيلونَ ثَمَّةَ فيها اللَّباثا…
ويَمْضُونَ حَفْراً ونبشاً، ومَنْحاً وخَمْشاً..
وجَذْباً، ونبذاً، وقَطْباً وعَبْساً،
وَهَشّاً، وبَشّا …
ويَفْلُونَ ثَمَّةَ كلَّ الحَنايا، وكلَّ الخَبايا
وَيُلْقُونَ لِلْمُعْتَفِينَ شَراباً طَهُوراً،
وَقَوْلاً وَقُوراً، وَوَرْداً شَذِيّاً،
وَفَيْضاً عَلِيّا…
تميز أستاذنا في كتابة الحكم والأمثال المنتزعة من الواقع، وأعد مجموعة كبيرة وأطلق عليها اسم “شظايا البلور للوصول إلى النور” (مخطوطة) تشتمل على حكم من واقع حياة الناس، مثل:
ليلَى ترافقني لَيْلِي، وتنسَلُّ إمّا أقبلَ النُّورُ.
والماءُ في لِينِهِ قَدّ يَحْطِمُ الجَبَلَ.
الغابُ يَحتَضِنُ الشَّحْرورَ، والأَسَدَ.
الوَرْدُ يكرِمُ مَنْ يَرْعَى العَساليجَ
الحُبُّ يُبْدِعُهُ الحديثُ، وقَدْ يَغُولُهْ.
وتَنْثُرُ بينَ أَيْدِينا سِهاماً تُجَرِّحُنا، ونُسْرِعُ طالِبينا
تُبَشِّرُنا بالشَّهْدِ والصّابُ في اليَدِ
أَصغِ لِلْبَحْرِ فقدْ تَنْجُو، وَيَنجُو مَنْ مَعَكْ
يَغْلِبُ الحقُّ، وما لِلْحَقِ أَنيابُ…
عن يَميني وشمالي مَهْزَلَةْ.. تركُوا الذئبَ، ولامُوا الحَمَلَةْ!!
لا تُشِرْ إلا بِخُبْرِ
البُرُّ يُحْرَقُ، والأَطْفالُ تُحْتَضَرُ
لا تَبِعْ نِحْيَكَ نِحْيِي مُنْهَكُ
الغُصْنُ في صُعُدٍ، والجَذْرُ نَزّالُ
وبرع في شعر الأحاجي، وعمل على تطويره، تطويراً يخدم تنمية التفكير والتذوق الفني والإحساس الجمالي.. ومن ذلك قوله في (الشمعة):
أَنا المَيْمونَةُ، الغَلابَةُ، المَمْشُوقَةُ القَدِّ… أنا البيضاءُ والحمراءُ، والخضراءُ…، والأَلوانُ تَختصِمُ، وقد تَزْدادُ في عَدٍ وَتَنْتَظِمُ..!
وعاصَرْتُ الأُلى غَنَّوا، ومَنْ فَرُّوا، ومَنْ في القَفْرِ، والغِيرانِ قدْ قَرُّوا… وَقَدْ عاشُوا، وما ظَلَمُوا… وقالوا: في فمي نارٌ، وأحلامٌ، وأُفْنِي الخَصْمَ…، أُخْفِيهِ، ولا نابٌ، ولا ظُفْرٌ… ولا سَهْمٌ، ولا سَيْفٌ… وأَنتصِرُ، وقد ظَنُّوا بأَني كِدْتُ اضْطَرِمُ…!
وكمْ فَرَّجْتُ مِنْ كُرَبٍ، وكم أَبْعَدْتُ مِنْ خَوْفٍ ومِن وَصَبٍ… وكم قَرَّبْتُ…، ذا يَسْعَى، وذا يَخْشَى، وليسَ يَرَى… فَكُنْتُ لهمْ شِفاءً أمَّ يَبْتَسِمُ…!
أنا كالفَجرِ، لا عَجْزٌ، ولا خالُ… ولا بَغْضٌ ولا مالُ… وحَوْلي الناسُ يَبْتَهِجُونَ… ذا يَلْهو… وذِي تَطْهُو… وأفكارٌ، وأحلامٌ… ترانيمُ… تعاليمُ… وقد يَنْقَضُّ من شَذَّ، وَيَصْرُخُ: لا تُزِغْ مَنْ ليسَ يَنّبَهِمُ…!
عَدُوّي الظُّلْمَةُ الحمقاءُ، والرُّعْبُ… وما يَعْمَى بِهِ القَلّبُ، وما تَشْقَى بِهِ العَيْنانِ، والقَدَمانِ؛ ما يَرْضَى بِهِ مَنْ جاء يَسْتَلِبُ ويَنْتَقِمُ..!!
وكذلك قوله في السيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها وأرضاها):
رأَيتُ الصِّدْقَ والعِفَّةَ، طُهرَ النَّفْسِ والأَسْرارَ، والمعنَى الذي يُغْرِي، وقد يُغْنِي… يُجاذِبُني… يُغالِبُني، وقد يُعيِي…!
هفا القَلبُ… شَدا الحُبُّ… تَماسكتُ فما اسْطَعْتُ…!
تَتَبَّعْتُ… فُؤادِي لا يُضَلِّلُنِي… أُراقِبُ: ذا يَشُقُّ الحُجْبَ يَبْهَرُني، وَيَسْأَلُني… حِوارٌ قَد يَهُزُّ الرُّوحَ والبَدَنَ يُسَهِّدُني، يُهَدْهِدُني! أَمُدُّ إليهِ أَشْواقي، بِعُنفِ الضّمَّةِ، الوَلْهَى يُتَيِّمُنِي، يُلاطِفُني… ويَرْفَعُنِي، ويُنْزِلُني، فَيُسْكِنُنِي قرارَ الرُّوحِ في أَمْنٍ… وفي مِقَةٍ؛ وَأَغْمَضتُ… يُقيمُ، يلَذُّ في ثقةٍ، فَما أحلَى وما أَبْهَى! وأَهتَزُّ، وأنْعَمُ؛ ما تَوَهَّمْتُ، وما ارْتَعْتُ…!
أُرافِقُهُ بِعَيْنِ الرُّوحِ لِلشّامِ، أُظَلَّلُهُ… أُسانِدُهُ أَصُبُّ التَّوْقَ، والرَّحْمَةَ، والإيناسَ والتصْدِيقَ، والإيمانَ والحُسْنَى، وأَعْمُرُهُ ويَغْمُرُني، وَيَعْمُرُني بما ينفِي الكَرَى، والخَوْفَ، والرِّيبَةَ، والغُمَّةَ، والشِّقْوَةَ، والعُسْرَى… وكُنْتُ الظِّلَّ والبَلْسَمَ والقُوَّةَ، ما خاتَلْتُ، ما وَلَّيْتُ… ما رُجِّفْتُ، ما مِلْتُ، وما شَكّكْتُ، ما غِبْتُ…!
وما كُنْتُ… وقدْ كانَ… لهُ في الغارِ آياتٌ… وَحينَ دَعا… تَسْارَعْتُ، ودَثَّرْتُ وَصَدَّقْتُ، وآمَنْتُ… وَأَحْسَنْتُ بِفَيْضِ الأُفُقِ الأَعْلَى، تَثَبَّتُّ… وعَزَّزْتُ… وَسانَدْتُ! وقُلْتُ: النِّعْمَةُ العُظْمَى… أَراد البارِئ الوَهّابُ نَلْتَفُّ… وَتْلبَسُني، وتُؤْنِسُني… وتَرْقَى بي، تُخَلِّدُني…
وَنَمْتَزِجُ… نَشِفُّ… نَشعُّ… يُضيء كَوْكَبُنا وَيَدْرُجُ فيهِ مِنْ أَرواحِنا شُهُبُ… وَيَعْمُرُ فيهِ مِنْ أَجْسامِنا نُخَبُ… وَصَلَّيْتُ حَمِدْتُ اللهَ واهِبَنا… أَطَعْتُ الصاحِبَ المَحْبُوبَ، والرَّحمنَ لبَّيْتُ، وَأَكْبَرْتُ..!!
وكانَ المالُ ذا شَطَطٍ، رَدَعْناهُ، وعُلِّمْنا لَجَمْناهُ…. وفي الدُّنيا جمالٌ مالهُ حَدٌ… تَأَمَّلْ في السَّماواتِ، وفي هذِي النَّباتاتِ… وَفي الإِنْسانِ، والحُبِّ… وفي اللُّبِّ، وفي القَلْبِ…
تَأَمَّلْتُ، وَدَقَّقْتُ؛ فَآمَنْتُ….! تَفكَّرْتُ الذي قد أَبْدَعَ الأَكْوانَ..؟ سَبَّحْتُ، وَكَبَّرْتُ… وَعَظَّمْتُ…!!!
توفي -رحمه الله وطيب ثراه- بمدينة غزة في 15 تموز/ يوليو 2012، بعد حياة حافلة بالعطاء والنضال، وله من الأبناء أربعة هم: (إياد: دكتوراه في جراحة طب الأطفال في روسيا البيضاء، عماد: مهندس بترول في أستراليا، سلام: عالم في الكيمياء والفيزياء في ألمانيا ويحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء وحصل عليها في رقم قياسي سنة وستة أشهر، ولديه مجموعة من الأبحاث المهمة، إياس: حصل على المرتبة الأولى في امتحان الثانوية العامة في قطاع غزة عام 1981، وقد درس الهندسة. وله من البنات اثنتان جهاد: دكتورة في الطب من جامعة طنطا والأولى على دفعتها، جمان: ليسانس لغة عربية).
هذا هو المربي فريد أبو وردة المربي، المعلم والمسؤول صاحب فلسفة واضحة في التربية ومقوماتها هدفاً ومنهجاً، وصاحب رؤية جليلة في دور المدرسة والمعلم لتحقيق أسمى الأهداف في نفس الطالب.