فن الفيديو في تجربة الفنان محمد حرب
الدكتورة حنان المعزون – تونس
اعتمد فيلم “بدون نوافذ” الذي يندرج ضمن فن الفيديو للفنان الفلسطيني محمد حرب، على أهمّ المقوّمات السينمائية كالضوء والصوت والحركة والمونتاج التي وظفها جميعا لموضوع الحرب، وبالتحديد لقضية الحصار الإسرائيلي على غزة. ندرك من خلال الفيلم والتقنيات الفنية لفنّ الفيديو وهي الضوء والصوت والمونتاج أنّ أحداث هذا العمل تتمحور حول معاناة الفلسطينيين داخل قطاع غزة من جراء الحرب والحصار، الذي مَنع محمد حرب من حضور العديد من المعارض، فحالة الحصار هذه التي يعيشها الفنان هي حال مليون ونصف فلسطيني في قطاع غزة وهو يقول في هذا الشأن :”اليوم أقدّم لكم فلما أخذ مني الكثير من الوقت والجهد وجسّدت معاناتي كفنان من أجل نفس القضية، من أجل المشاركة في فعاليات فنية في بلدان العالم، فيلمي يحمل في طياته العديد من الرسائل الإنسانية والذي جسدت من خلاله معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وخاصّة في قضية السفر والخروج إلى العالم الخارجي لنشر ثقافتنا، ومعاناتنا، ما يحدث في فلسطين من مآسي القضية في غزة، ليس مجرّد منع من السفر ولكن محاولة لكسر همم الشعب الفلسطيني لكسر إرادة الفنان وإبعاده عن قضيته الوطنية، محاولة لكلّ ما يحدث والتكتيم الإعلامي لكلّ ما يحدث” تبدو بعض المشاهد في الفيلم عند المُشاهدة الأولى وكأنها مَشاهدا وصورا مألوفة، قد يقوم بها أي شخص داخل بيته، يرسم ويتوضأ ويُصلي ويكتب على الحاسوب، لكن استطاع الفنان محمد حرب اعتمادا على تقنية المونتاج أن يجعل هذه المَشاهد تكشف عن مضامين الفيلم وموضوعه، أي عن الحرب والحصار بغزة الذي عبّر عنه الفنان في المشهد الأخير من خلال النصّ المكتوب، يقول فيه: “صارت غزة كْتير دَيـْقة” “مُشْ قادِر أعيش مش قادر أسافر”، وهو نصا صريحا ومباشرا يكشف عن الألم الكبير الذي خلّفه هذا الحصار خاصّة حين يقول “بس قادر إني أقول إني أتألّم”. وقد مهّدَت بعض المشاهد الأخرى قبل ذلك عن فكرة الحرب هذه بشكل مباشر أيضا، حين عرض الفنان مقتطفات من نشرة أخبار الجزيرة وقد اختارها دون غيرها ليـُشير بذلك إلى موضوع الحرب، وكذلك من خلال مَشاهد القصف في الخارج التي تحيل إلى الحرب، ومشاهد أخرى تعبّر عن الحصار بطريقة ضمنية كصورة الشخص الذي أدْخِل داخل كيس من البلاستيك الضّيق الذي يمنعه من التنفس والحركة. فأغلب المَشاهد لو شـُوهدت في سياقها لكانت عادية جدّا ولا تثير أيّ انتباه كمَشاهد الحياة اليومية داخل البيت، وكذلك صُور الحرب الذي تعوّد عليها المتفرّج وأصبحت مألوفة بالنسبة له، فهو يشاهدها باستمرار وبصفة يومية في الجرائد والتلفاز، لكن رغم ذلك استطاع الفنان أن يجعلها في الفيلم غريبة ومُثيرة للدهشة، فمن خلال عملية الربط والتركيب تمكّن من إثارة المتفرج وصدمِه للكشف عن معنى الفيلم بطريقة ضمنية وصادمة. فالمشهد الجسدي كالصلاة والوضوء والرسم والمشهد التلفزيوني ومشهد القصف وأقدام الكراسي، ارتبطت جميعها في مشهد واحد، وهو ما دفع بالمتفرج للتفكير وطرح الأسئلة ليكتشف تدريجيا مُحتوى الفيلم، فقد استطاع محمد حرب من خلال تقنية المونتاج الجمع بين زمن الفيلم أي زمن التصوير داخل البيت والزمن الماضي الغير بعيد، زمن الحرب على غزّة، كذلك استطاع أن يتنقل بين أماكن عديدة من داخل البيت إلى خارجها بسرعة كبيرة وفي ثواني معدودات. اعتمد الفيلم أيضا كأغلب أفلام الفيديو أرت على الصوت بالكيفية التي تخدم فكرة الحرب، فصوت القصف وصوت المذيعين وهم يقدّمون نشرة أخبار الحرب، وصوت الطائرات وهي تـُطلق القذائف، ساعدت جميعها على إيصال الفكرة وعلى التعبير عن حالة الإغلاق التي تعيشها غزة. لكن مع كلّ هذه الأصوات نسمع كذلك من خلال الفيلم أصواتا أخرى كصوت حركة الفرشاة والصوت الذي يُصدره محمد حرب أثناء الكتابة على الحاسوب، وهي أصوات قد لا تكون لها علاقة مباشرة بموضوع الحرب وفكرة الحصار، لكن الإيقاع السريع لهذه الأصوات أربك إلى حدّ كبير المتفرج وجعله يعيش في حالة من التوتر والقلق وهو يُشاهد الفيلم ويسمع هذه الأصوات بإيقاع سريع جدّا، وهي الحالة التي يعيشها الفنان محمد حرب والمواطن الفلسطيني عامة داخل غزة وداخل بيته في حالة الحصار هذه، فقد استطاع بالصوت أن يعكس حالة التوتر التي يعيشها ألغزي إلى المتفرّج من خلال سماعه لتلك الأصوات، فصوت المياه وصوت الحاسوب وصوت حركة الفرشاة قد لا تكون سببا في التوتر والقلق، لكن السرعة في الوضوء والكتابة والرسم هي التي تجعل من هذه الأصوات أصواتا مزعجة ومصدر توتـّر كبير، فقد لعبت دورا مهمّا في إضفاء مثل هذه الحالة على المتفرج لا من خلال نوعية هذه الأصوات وإنما من خلال إيقاعها السريع مثلما وظّف الفنان الصوت للتعبير عن حالة الحصار داخل غزة، وظف كذلك الضوء للغرض نفسه، فقد أعطتنا الإضاءة في الفيلم الإحساس بالزمن الذي تدور فيه الأحداث فأغلب المَشاهد صُوّرت في الليل، وهو زمن يضفي إلى حدّ ما على المتفرج مشاعر الحزن والخوف خاصّة عندما يتزامن وإطلاق القذائف والقنابل، فمصدر الإضاءة الوحيد في الفضاء الخارجي هو ضوء القصف، الذي ضاعف من هول المشهد. فقد سلّط الفنان في بعض المشاهد الضوء على وجه محمد حرب وبالتحديد على أذنه وعينه، وهما مصدرا حاسّـتيْ السمع والبصر التي أرهقت وتعبت من مشاهدة الصّور المُؤلمة وسماع الأصوات العنيفة والمرعبة، فقد عبّرت هذه الأنوار والظلال المتناقضة تماما، عن موضوع الحرب والحصار الذي يحتاج إلى مثل هذه الإضاءة، فالعتمة مقابل الضوء تـُعمّق وتكثف من درامية المشهد. كان البيت في الفيلم مُظلما، رغم ذلك وُجد في السقف منفذ صغير مستطيل الشكل يدخل منه ضوء ينير البيت، وهو بشكل من الأشكال يُحيلنا في الواقع إلى مَعْبر رَفـْح الذي أغلِقَ أمام الفنان محمد حرب ومُنع من عبوره للسفر وافتتاح معارضه، وتلك الإضاءة الموجودة في السقف كشفت عن رغبة الفنان في فتح هذا المَعبر الذي يأمل في أن ينير غزة ويفـُك عنها الحصار ويكون منفذا للخروج والتواصل. كان كذلك الحوار إلى جانب الصوت والضوء في الأفلام السابقة ركيزة هامّة من ركائز الفيلم التابعة بالأساس إلى أحد عناصر الفيديو آرت وهو الصوت، وقد كان عاملا مساعدا ومُكمّلا ومُوضّحا للقطة أو المشهد، في حين أنّ الحوار في فيلم “بدون نوافذ” يكاد يكون مفقودا وإن وُجد فبشكل مغاير عماّ رأيناه في الأفلام السابقة، فقد وجّه الفنان بنفسه خطابا للعالم كله يُعبّر فيه عن حالة الحصار، إلا أنه لم يكن خطابا مباشرا وملفوظا وإنما مكتوبا عن طريق الحاسوب والإنترنت، التي كانت أداة التواصل الوحيدة بينه وبين العالم العربي والغربي، فالخطاب كان باللغة العربية وكذلك باللغة الإنجليزية، حتى يضمن وصول صوته إلى جميع دول العالم ليُعبّر عن ألمه الشديد من الحصار. إذا من خلال ذلك الحوار الرقمي إن صحّ التعبير، يُمكن أن نكتشف نفسية الفنان المتألّمة لا من خلال الكلمات فقط، فكلمة “بتألّم” وكلمة “مش قادر أعيش” “موش قادر أسافر” ” وصلاحيتي باني أعيش بغزة انتهت” تتضمّن معاني الحصار والألم والمعاناة، يفترض أن يكون الحوار بين طرفين اثنين أو أكثر، في حين أنّ هذا الحوار الرقمي وهذا الخطاب الذي يوجّهه الفنان للعالم سيجد دون أدنى شكّ من يسمعه، لكن قد لا يجد طرفا ثانيا يردّ عليه. لقد كان للحوار دورا كبيرا في التعبير عن الحالة النفسية والعاطفية للفنان محمد حرب، والتي تفاعل معها المتفرّج، فالحوار لكونه كلاما مكتوبا وغير مسموعٍ قد لا يكشف عن تلك الحالة النفسية المتألّمة، لكن رغم ذلك وجد الفنان الأسلوب الرقمي لتبليغ ذلك الإحساس بالكتابة الرقمية التي كشف من خلالها عن الألم والآهات، وهي عبارة عن صرخة عالية، قد لا يسمعها المتفرج لكن يراها من خلال طريقة الكتابة وتكرار كلمة (مش قادر ). إنّ الحوار رغم قصره يحمل أكبر عدد ممكن من المعاني وبأقلّ الألفاظ الممكنة، فقد جاء باللهجة الفلسطينية بسيطا وسلسا ومفهوما حتى يستوعبه الجميع، اللهجة التي يتكلّم بها الفنان محمد حرب وهي برأي الأمثل للتعبير عن الإحساس والمشاعر، كما أنّ خطابه هذا كان مُوجّها للعالم في كامل أنحاء الدّنيا فقد صاحب النص العربي نصا باللغة الإنجليزية، وهي لغة عالمية اختارها الفنان حتى يفهما ويصل خطابه إلى جميع الناس. إنّ جميع معاني هذه القولة كـ”المعاناة” و” الخروج” قد تضمّنها هذا الفيديو، وقد عبّر عنها الفنان من خلال عناصر الفيلم كالكيس الشفاف، الذي يُطبق على أنفاس أحد الشخصيات والذي جسّد من خلاله محمد حرب الوضع الصّعب والمعاناة في غزّة فشفافية الكيس تجعل المُشاهد يرى معاناة من بداخله لكن لا يستطيع نزع ذلك الكيس عنه، كذلك العالم يُشاهد أحداث غزّة ولا يستطيع تقديم المساعدة بسب الحصار، فالكيس هو غزّة المُحاصرة التي تضيق على الفلسطينيين فلا يستطيع الخروج منها ولا السفر، وقد عبّر عن تلك المعاناة كذلك من خلال مقوّمات فن الفيديو كالفضاء الذي صُوّر فيه الفيلم، فالبيت ضيّق وخالي من أي فراش، وكذلك بالضوء والصوت، فالعتمة أضفت على الفيلم جوّا من الكآبة والحزن كما أنّ صوت القصف والطائرات والضوضاء المزعجة أثارت في النفس مشاعر القلق والخوف. واخيرا انطلق الفيلم لنقرأ نَصّا يكتبه محمد حرب على الحاسوب باللغة العربية وبالتحديد باللهجة الفلسطينية مُترجَما إلى الإنجليزية يقول فيه: “غزة كتير دَيْقة، يِمكن صَارَت فكرة الوجود بغزة إِلْـْهَا صلاحية وبْتـِنتِهي، ويمكن الآن بقدر أقول أنـّو صلاحيتي بأني أعيش بغزة انتهت، لكن بالنهاية مُشْ قادر أعيش، ومش قادر أسافر، بَسْ قادر إني أقول إني بتأااااااااااااااااااااااااااااالّم.” واعتمادا على نفس المقوّمات عبّر كذلك محمد حرب عن رغبته في الخروج وفكّ الحصار وذلك من خلال التلفاز والحاسوب، الذي يُمكّنه من الخروج خارج غزة وإلى أي بلد يشاء والتواصل مع الآخر بكلّ سهولة وسرعة، كذلك من خلال ذلك المنفذ في سقف البيت الذي يجسّد معبر رفح، المعبر الذي يأمل في فتحه، ومن خلال الأصوات كذلك فصوت الماء وصوت الأذان قد يبعث في نفس الفلسطيني والعربي نوعا من الرّاحة والطمأنينة والأمل في غدٍ أفضل.