“عايش طحيمر”: تعتيق اللون والقدم يلامسان بحثي الفني
الثلاثاء 12 آب 2008
“عايش طحيمر” فنان تشكيلي سوري، من مواليد “الجولان” المحتل عام 1959، يعمل صحفيّاً وناقداً فنّياً وأدبياً، تخرج في كلية الفنون الجميلة “بدمشق”، قسم التصوير الزيتي عام 1992، عضو اتحاد لفنانين التشكيليين السوريين، أمضى القسم الأكبر من حياته مغترباً في العاصمة القبرصية “نيقوسيا”، اطلع على ثقافتها وفنونها، واتخذ منها لعمله التشكيلي نهجاً تعبيرياً واقعياً،
يستند إلى تقنية النحت النافر على اللوحة “الريليف”، الذي يقوم على استعادة رؤى ومشاهدات ماضية محتجبة في خبايا الذاكرة البصرية، تعود في جزئها الأهم إلى قريته المغتصبة في “الجولان”، والسنوات التي قضاها في كنف “دمشق”.
“eSyria” التقت الفنان “عايش طحيمر” في صالة “فري هاند” للفنون الجميلة الكائنة في منطقة “الجسر الأبيض” في 29/7/2008، وكان معه هذا الحوار:
* حرصت فترة اغترابك عن “سورية” على مسألة إثبات الوجود، ومررت خلالها بمراحل كثيرة، كيف بدأت هذه المراحل؟ وما مصيرها الآن؟
** عملية إثبات الوجود في بلد أجنبي غريب بمادته ولغته وثقافته وفنّه ليست بالأمر السهل، وأن أكون ضمن هذا البلد وأسعى إلى محاولة إثبات الوجود، لا بدّ لي من قبول التحدي والمثابرة حتى أصل إلى ما أريد، من هنا وضعت أولى مراحل ثبات وجودي في غربتي التي قضيتها في مدينة “قبرص” متسلحاً بمعرفتي ومبادئي. وبعد اطلاعي وانغماسي في ثقافاتها وفنونها الجميلة، والاحتكاك مع فنانيها المحليين والوافدين، بنيت خطواتي الأولى في فن “الريليف” النحت النافر، محاولاً عبر تكنيك خاص استخدمته في العمل أن أفهم فكر المتأمل الأجنبي وتذوقه لهذا الفن، فبدأت البحث عن تقنية اللون والتكوين الذي يتناسب مع أفكاره وتطلعاته، وما زلت حتى الآن مستمراً في تقديم وإرسال أعمالي إلى “قبرص”، على أن تضم الجديد دائماً. أما الصعوبة الحقيقية فهي محافظتي على مكانتي الفنية التي حصلت عليها هناك.
اهتمام قبرص بالفنون ينبع من كثرة وفودها السائحة
* كنت مغترباً في العاصمة القبرصية “نيقوسيا” ومعروف عنها نبوغها واهتمامها بالفنون الجميلة، هلا أوضحت لنا رؤية تصف ذلك الاهتمام والنبوغ؟
** إن اهتمام “قبرص” بالفنون الجميلة، ينبع من كثرة وفودها السائحة، لكونها بلد سياحي من الطراز الأول، فسنوياً يدخل إليها 6 مليون سائح.. لذلك كثرت في أنحائها صالات عرض الفنون الجميلة، ومتاجر بيع الأعمال التشكيلية.
ونظراً لعادات “القبارصة” واهتمامهم بالفن الجميل عموماً، يَقدُمُ إلى “قبرص” خلال السنة الكثير من فناني العالم التشكيليين، حتى يعرضون أفضل ما أنجزوه من لوحات
فنّية راقية، تطغى الحداثة على بعضها.
* للمشهد التصوري في العمل التشكيلي معطيات تذوقية وجمالية يستند إليها، فما المعطيات التي استندت إليها في اختيارك للمشهد التصوري؟
** عَينًُ الفنان كاميرا تسجيلية وثائقية لكل ما تراه وتختزنه الذاكرة البصرية، وتتفاوت القيمة الفنية للرؤية المختزنة بعد تسجيلها في اللوحة، تبعاً لشكل المعطى البصري وحركته بعد التكوين، الذي يترك أثراً عميقاً في النفس.
أما المعطيات التي تخضع إليها الرؤية المختزنة في الذاكرة، فهي متعلقة ببساطة الطرح الواقعي الراصد للحدث الجاري والموقف، والدّقة في تشكيله عبر تقنية اللون والنحت النافر في اللوحة، اللذين يحتاجان أثناء تجسيدهما إلى مهارة أسلوبية عالية ومقومات فنية رفيعة منها:”التحريض العاطفي والفكري، تحليل الرؤية، ملامسة الحياة اليومية، خلق سؤال لدى المتأمل”، وأي مشهد تصويري أختاره، سأستند بالطبع إلى تلك المعطيات حتى أخلق أسساً أخرى يُعتمد عليها في بناء العمل وتشكيله وإيصاله إلى مراحله الأخيرة.
أعمالي تصل إلى صدق الواقعية في منظور الشكل وأبعاده
* اتسمت الألوان في مشروعك التشكيلي “بالتعتيق والقدم”، ما السر خلف إيحاءات اللون لديك؟
** “تعتيق اللون والقدم” يلامسان بحثي الذي عملت عليه في واقع ملموس استحضرته من البيئة “الشامية القديمة”، وهو موضوع معرضي الأخير “عائد إلى دمشق”، وكان من واجبي أن أقدم ألوان تتميز “بالقدم والتعتيق” لتلائم هذا الموضوع، وبالتالي أصل بعملي إلى صدق الواقعية في منظور الشكل وأبعاده.
كثير من الفنانين السوريين رسموا “الشام القديمة” بألوان حديثة غير واقعية عبرت عن رأيهم وقناعاتهم، بينما حرصت خلال أعمالي أن أكون أميناً في نقل المشاهدات الحياتية اليومية في “الشام القديمة” بطريقة جديدة ومبسطة، لهذا نجد المتأمل في معرضي الأخير مغرق في حالة انسجام وتفاعل مع ما قدمته من أعمال.
* أشار البعض إلى انسجام الأبعاد الثلاثة في أعمالك، لا سيما البعد الأخير “شعورية الحياة الحسّية”، ما هي قراءتك لهذا الرأي؟
** تعتمد مواضيعي الواقعية على بساطة الطرح المتسم بالحياة، وقناعتي الراسخة في أن أقدمها إلى الناس عملاً فنياً يلامس شغفهم ويشاركهم
معاناتهم وهمومهم، متبعاً في تشكيلها أسلوباً حديثاً ونادراً، يمنحني شخصية مستقلة في الفن، فحواها تخيلي وثقافتي بعيداً عن التصنع والتمثيل والإبهار..هذا ما ولد الشعور بانسجام واكتمال أبعادها الثلاثة “الزمان والمكان، تقنية اللون، العمق والحياة”.
* وصفت “دمشق” بأنها حاضرك و تاريخك، رغم اغترابك عنها فترات طويلة، كيف تنامى هذا العمق والامتداد؟
** “دمشق” عاصمة الأمم مجتمعة، وهويّة المستقبل القادم، وهي بعوالمها الأثرية تعدّ متحفاً حيّاً في كل وقت، نابضاً بالمعارف والفلسفات، إضافة إلى قداستها الدينية ومكانتها المشرقية عبر العصور.
نمت علاقتي “بدمشق” بعد نزوحي عن “الجولان”، لقد احتضنتني وضمدت جراحي وآلامي وأصبحت بحميميّتها حاضراً ثابتاً في ذاكرتي وحياتي، ورافقتني بكيانها عبر ترحالي واغترابي.
الريليف يضيف إلى مخيلتي قوة التأمل والتعبير
* تقنية “الريليف” النحت النافر، ماذا عن تاريخها وحضورها الآن؟
** تقنيّة النحت النافرة قديمة جداً وموغلة في التاريخ، وكانت ظاهرة في حضارة اليونان والرومان وقد ترافقت مع تقنية النحت الغائر، واستخدمتا كأسلوبين إبداعيين في زخرفة واجهات القصور والمعابد والقبور.
وفي الحضارة الإسلامية ظهر النحت النافر كعمل تشكيلي من خلال تقديمه عبر الخط العربي النافر والزخرفة والنقش، إضافة إلى وضع لمسات اللون عليه، لكن حضوره الآن قليل ونادر لصعوبة تنفيذه ودقّته واحتياجه إلى جهد ووقت، وهذا لا يخفي وجود محاولات فردية بسيطة، ليست بجادة تقدم هذا النوع من الفنون، وأنا بتجريبي المستمر أقدمه أسلوباً واقعيّاً بسيطاً ومقروءاً مع إدخال الألوان عليه ليصبح مندمجاً مع فن الرسم وصوفية الفكر لدي.
* الريليف”هل حقاً أوصلك إلى الرضا من حيث تقبل واهتمام الآخرين، وماذا أضافت إلى نهجك التأملي في التعبير؟
** التميز في تجربتي الجديدة، كان واضحاً من خلال اهتمام الجمهور والنقاد والصحفيين، والجميع أثنوا عليها بوصف تأملي حسن، وذلك منحني الرضا وجعلني أشعر بالمسؤولية اتجاه عملي التشكيلي في أسلوب “الريليف”، دافعاً بتفكيري نحو تطوير هذا المنحى من الفنون، وإعادة صقله وتقديمه في خلاصة فنية جديدة يتذوقها المجتمع، وهذا يضيف إلى مخيلتي قوة التأمل والتعبير
ويمهد لتحضير الشكل الواقعي غير المعتاد في مشهدي التصويري بكافة أبعاده ومعطياته، حتى يصبح حقيقة ماثلة أمام الذاكرة الباحثة.
* “الجولان”، ما مقامه في خبايا ذاكرتك البصرية؟
** بيني وبين “الجولان” علاقة حب صوفية، وفرض على هذه العلاقة شقاء البعد والهجر عنوة، وشوقي له أحمله بين ضلوعي، وذِكراه تتراءى أمامي كأنها البارحة، كل ذلك جسّدتهُ عبر محاولات تشكيلية، أوضحت تفاصيلها حياة “الجولانيين” قبل مصير النزوح.
استعادات في خبايا الذاكرة البصرية
حول أعمال الفنان “عايش طحيمر” المعاصرة، قال الدكتور “حيدر يازجي” رئيس اتحاد الفنانين التشكيلين السوريين: «استطاع “طحيمر” أن يستفيد من تقنية المجسم النافر في اللوحة من حيث إبراز الحياة في معالم موضوعه التشكيلي، محاولاً خلال العمل في تجسيده أن يمنحه أبعاداً تشكيلية مكتملة، تشعرنا بدفء المكان الذي ينقلنا إلى أجواء الحي الدمشقي القديم والطبيعة الجميلة، والموضوعات الحياتية الأخرى».
وأضاف: «اتسمت مجموعة لوحاته المعاصرة بتناغم لوني متميز، استخدم فيه الكتل البارزة مثل “أشكال الناس، جدران البيوت، الأبواب الخشبية” لتقترب أكثر من التجسيم في اللوحة، مما منحها نوعاً من الخصوصية، وجعلها تنفرد عن غيرها من الأعمال الأخرى».
وقال “يازجي” حول أبعاد اللوحة لدى الفنان “طحيمر”: «اللوحة ليست من بُعدين فحسب، المكان والزمان، التقنية واللون، وإنما استطاع أن يضيف عليها بشكل ناعم وهادئ البعد الثالث، شعورية الحياة الحسيّة، التي تضع مشاهدها في جو الحدث المرسوم وواقعيته، “الحي القديم والنافذة والطبيعة والمهن التي رسمها كالحذّاء” وغيرها، فقد لامست أبعاده المنسجمة بوضوح ذكريات قديمة، عملت على إنعاشها واستقرائها مجدداً، إلا أنها رغم استعادتها تعود لتحتجب في خبايا الذاكرة البصرية».
أما الفنان التشكيلي السوري “عبد الرحمن مهنا”، فقال: «إن أسلوب العمل لدى “طحيمر” تعبيري جديد، يمزج الواقعية والفطرية، ضمن خصوصية تعتيق اللون، والبعد الثالث». وأضاف: «يتمتع أسلوبه بلمسات فنية دقيقة، أكثر تأثيراً وجذباً لعين المتأمل، وهذا يفسر لنا اهتمام الأجانب في العاصمة القبرصيّة “نيقوسيا” بمنحى النحت النافر لديه، و”الأوربيون” في طبيعتهم يبحثون بشغف عن الجديد، خاصة إذا كان الجديد رؤى معرفية تختلف عما هو مألوف ومتعارف في بلادهم».