الأنثروبولوجيا الثقافية
1899-1946: العالمي مقابل الخاص
ولدى الفهم الأنثروبولوجي الحديث للثقافة جذوره في القرن التاسع عشر في ظل نظرية أدولف باستيان Adolf Bastian” الوحدة النفسية للبشرية “، والتي – تأثرت ب هردر وفون همبولت -، شككت في محاولة تحديد” الثقافة ” حسب طريقة حياة النخب الأوروبية، ومحاولة عالم الإنثروبولوجيا البريطاني إدوارد بيرنت تايلور Edward Burnett Tylor ‘قي ايجاد تعريف شامل للثقافة قدر الإمكان. وقد وصف تايلور الثقافة في عام 1874 على النحو التالي: ” تعنى الثقافة أو الحضارة، بما لذلك من حس إثنوغرافي بمفهومها الشامل حسب علم المجتمعات البدائية، بالكل المتداخل والذي يشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون، والعرف، وأية قدرات وعادات أخرى قد يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع.[91] وبرغم عدم قصد تايلور في وضع نظرية عامة للثقافة (حيث أوضح فهمه للثقافة في سياق قضية أكبرعن الطبيعة والدين)، إلا أن علماء الإنثروبولوجيا الأميركية بوجه عام قدموا تعريفات مختلفة للثقافة جاءت جميعها كتحسين لما جاء به تايلور في نظريته. وقد عرف ألفريد كروبير(1876-1970) Alfred Kroeberتلميذ فرانس بواس الثقافة من منظور “الكيمياء العضوية”، حيث تعنى ذلك المجال بما يحويه من المبادئ والقوانين التي لا يمكن تفسيرها أو اخضاعها إلى علم الأحياء.[92] ] وفي عام 1973، استعرض جيرالد وايس التعاريف المختلفة للثقافة والمناقشات من منظور التقتير والسلطة، وتوصل إلى أكثر تعريف علميا مفيدا “للثقافة” بوصفها {0 مصطلحا وراثيا يصلح لجميع الطوائف الإنسانية، أو شبيهة الإنسان وحتى الظواهر الغريبة ” {/0} ((الخط المائل في النص الأصلي)).[93]
ويعد فرانز بواس، مؤسس الأنثروبولوجيا الأمريكية الحديثة بمساعدة أول برنامج للدراسات العليا في الإنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا في عام 1896. في وقت شاع النموذج السائد للثقافة بوصفه نموذج التطور الثقافي،، الذي يفترض أن تقدم المجتمعات البشرية عبر مراحل الوحشية مرورا بالهمجية وصولا إلى الحضارة، وهكذا، على سبيل المثال المجتمعات التي تعتمد على فصيلة الإيروكوا وزراعة البساتين هي أقل تطورا عن غيرها من المجتمعات التي تعتمد على فصيلة الإسكيمو والزراعة. ولعل من أعظم انجازات بواس قدرته على أن يبرهن بشكل مقنع على أن هذا النموذج يعتريه شيء من الخلل على نحو جوهري، من الناحية التجريبية، المنهجية والنظرية على حد سواء. وعلاوة على ذلك، فإنه يرى أن معرفتنا للثقافات المختلفة غير مكتملة نوعا ما، وغالبا ما تستند إلى الأبحاث لا تتصف بالطريقة المنهجية أو الطريقة العلمية قي البحث، وأنه من المستحيل تطوير أي نموذج عام مقنن بطريقة علمية للثقافات البشرية. بدلا من ذلك، فقد أسس مبدأ النسبية الثقافية، وقام بتدريب الطلاب على المراقبة الصارمةوالبحوث الميدانية في مختلف المجتمعات. لقد أدرك بواس قدرة الثقافة على استيعاب التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي، وأدرك أيضا قدرة الثقافة لتتواكب مع السمات البيولوجية المختلفة، والمميزة لجنس هومو. ومع ذلك، ذكر بأن الثقافة لا يمكن أن تقتصر على الأحياء أو غيرها من تعبيرات التفكير الرمزي، مثل اللغة. فلقد استوعب بواس وطلابه الثقافة بطريقة شاملة واعترضوا على وضع تعريف عام للثقافة. في الواقع، لقد اعترضوا على تحديد مفهوم “الثقافة” بوصفها شيء، بدلا من استخدامها على أنها صفة وليس اسما. وذكر بواس أن “الأنواع” أو “الأشكال” الثقافية في حالة تدفق مستمر.[94][95] ] كما ذكر ألفريد كروبير بأن محاولة ” التقبل اللامحدود والهضم للثقافة” جعلت من المستحيل عمليا التفكير في الثقافات كأشياء منفصلة.[96].
هيمن طلاب بواس على الأنثروبولوجيا الثقافية خلال الحرب العالمية الثانية، وامتد ليحتل أثرا كبيرا خلال عام 1960. وانحصر اهتمامهم بشكل خاص في ظاهرتين: الأشكال المتنوعة للثقافة في جميع أنحاء العالم، [112] والطرق المتنوعة التي تشكلت بواسطة الأفراد، والتي تم ممارستها بشكل خلاق من خلال ثقافاتهم.[97][98] هذا ما دفع الطلاب إلى التركيز على تاريخ السمات الثقافية—كيف انتشرت من مجتمع إلى آخر، وكيف تغيرت معانيها مع مرور الزمن[99][100]—وتاريخ حياة الأعضاء في المجتمعات الأخرى.[101][102][103][104][105][106][107][108] ولقد أنتج آخرون، أمثال روث بنديكتRuth Benedict(1887-1948) ومارغريت ميد (1901-1978) Margaret Mead، الأبحاث أو الدراسات المقارنة بهدف تحليل أشكال الإبداع التي يمكن أن تكون موجودة لدى الأفراد داخل تكوينات ثقافية محددة.[109][110][111] ويعد من أهم ركائز هذا البحث مفهوم “مغزى الكلام” حيث: تتضمن الثقافة مغزى للكلام من شأنه توضيح سلوك الأفراد؛ فمثلا تمد كلا من الجغرافيا والتاريخ مغزى للكلام من شأنه توضيح الفروق بين الثقافات. وبالتالي، على الرغم من ميل أنصار بواس إلى الاعتقاد بالوحدة النفسية للجنس البشري، وعالمية الثقافة، فإن تركيزهم على مغزى المحلي والتنوع الثقافي قادهم بعيدا عن اقتراح مفهوم عالمى أو نظريات عالمية للثقافة.
هناك توتر على صعيد الإنثروبولوجيا الثقافية بين الإدعاء بعالمية الثقافة (الحقيقة التي تقول بأن لدى جميع المجتمعات البشرية شيء من الثقافة)، وبين القول بذاتية الثقافة في نفس الوقت (حيث تأخذ الثقافة أشكالا هائلة من التنوع حول العالم). منذ أن ظهر بواس، وسادت اثنتين من المناقشات حول الأنثروبولوجيا الثقافية. يختص الأول بطرق محاكاة ثقافات معينة. على وجه التحديد، وناقش علماء الإنثروبولوجيا مفهوم “الثقافة” باعتباره شيء متكامل ومترابط، أو باعتباره مجموعة متنوعة من الأشياء، وأرقام ومعاني التي تتسم بالتغير المستمر. ولقد توصلت روث بنديكت تلميذة بواس بأن السمات الثقافية لأى مجتمع قد توجد بدرجة أقل أو أكثر”تكاملا”، والتي على هذا الأساس، تشكل نمطا من العمل والتفكير يضفى بريقا على الهدف الذي يعيش من أجله معظم الناس، ويوفر لهم أساسا تنطلق منه سبل تقييم الأفكار والأعمال الجديدة، وعلى الرغم من اقرارها بدرجات مختلفة من التكامل، إلا أنها لاحظت فشل بعض الثقافات في تحقيق التكامل المنشود.[112] وكما ذكر بواس، ومع ذلك، بأن الاندماج الكامل أمر نادر الحدوث، وإن ظهرت ثقافة ما على أنها متكاملة في بعض النواحى فيعزى هذا بدرجة كبيرة إلى تحيز الباحث.[113] من وجهة نظر بواس، يعد ظهور أنماط من هذا القبيل—ثقافة وطنية، على سبيل المثال–، نتاجا لوجهة نظر معينة.[114]
انتشر النقاش الأول على نحو فعال في عام 1934 عندما نشرت روث بنديكت كتابها أنماط الثقافة، والذي ما زال يتم طبع نسخ عديدة منه. على الرغم من كون هذا الكتاب معروفا جيدا من أجل نشر مبدأ أنصار بواس بشأن النسبية الثقافية، إلا أنه يشكل بين علماء الأنثروبولوجيا تلخيصا مهما للاكتشافات التي توصل إليها أنصار بواس، وفاصل حاسم لتأكيد بواس على تنقل السمات الثقافية المتنوعة. “وقد تم تكريس عمل الأنثروبولوجيا على نحو واسع من أجل تحليل السمات الثقافية”، حيث كتبت تقول “بدلا من دراسة الثقافات على هيئة كليات منطوقة.”[115] وعلى الرغم من تأثرها بعالم الأنثروبولوجيا الاجتماعي البريطاني من أصل بولندى برونيسلاف مالينوفسكي Bronislaw Malinowski، فقد قالت إن “الشيء الأساسي، كما يبدو اليوم، هو دراسة الثقافة الحية، للتعرف إلى عادات التفكير ووظائف مؤسساتها” كما أضافت قائلة ” الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نعرف من خلالها أهمية التفاصيل المختارة من السلوك تعتبر ضد خلفية الدوافع والمشاعر والقيم التي هي ذات طابع مؤسسي في تلك الثقافة[116] كما أضافت قائلة ان “الكل يحدد جميع أجزائه وليس العلاقة فحسب بل وأدق تفاصيل طبيعته، ” وهي متأثرة في ذلك بكل من المؤرخ الألمانى فيلهيلم ديلتهى وأوزوالد سبينجلر، إلى جانب تأثرها بعلماء نفس مدرسة الجشطالت، [117]، وأن “الثقافات، بالمثل، تعتبر أكبر من مجموع سماتها[118] كما هو الحال مع أى لغة منطوقة حيث تعتبر مجموعة من الأصوات الانتقائية المحدودة الخارجة من فم الإنسان (خالي من العيوب)، خلصت إلى أن كل الناس في المجتمع، وبمرور الوقت، وسواء من خلال عمليات الوعي واللاوعي، تعتبرنخبة من مجموعة واسعة ولكنها محدودة من السمات الثقافية، والتي تتجمع لتشكل نمطا فريدا ومميزا.[119]
- وتحتفظ أهمية السلوك الثقافي بمكانتها عندما نعترف بكونها محلية وأنها من صنع الإنسان وأنها متغيرة بشكل كبير. حيث تميل إلى أن تكون متكاملة. وتعتبر الثقافة، مثل أي فرد، نمطا ثابتا يقل أو يزداد من الفكر والعمل. حيث يوجد داخل كل ثقافة مجموعة أغراض تشخيصية ليس بالضرورة أن تكون سمة مشتركة بين أنواع أخرى من المجتمع. وفي سبيل خدمة تلك الأغراض، يدعم كل شخص زيادة خبرتها، بما يتناسب مع الحاجة الملحة لهذه الدوافع والعناصرغير المتجانسة من السلوك يظهر المزيد والمزيد من الانسجام مع الشكل النهائى. وبتبنى تلك الثقافة المتكاملة، تصبح الأعمال الأكثر سوء سمة لأهدافها بوجه خاص، في كثير من الأحيان من قبل معظم التحولات المستبعدة.[120]
وعلى الرغم من أن بنديكت لاحظت أن جميع الثقافات يجمعهم تشابه ما من الناحية الافتراضية إلا أنها رأت أن هذه الأنماط يمكن أن يشوبها نوع ما من التغيير بمرور الزمن كنتيجة لإبداع الإنسان ومن ثم فإنه قد يكون لبعض المجتمعات قي أماكن مختلفة حول العالم شخصياتها المتميزة التي تميزها عن غيرها.حيث يقارن كتاب أنماط من الثقافة ثقافات الزوني، الدوبو والكواكياتل كوسيلة لتسليط الضوء على الطرق المختلفة للحياة الإنسانية. وهنا لاحظت بنديكت أن العديد من الغربيين يروا أن هذا الرأي اجبرهم على التخلي عن “أحلام الدوام والمثالية ومع الأفكار الذاتية فيما يخص الحكم الذاتي” كما أنه بالنسبة للكثيرين، فقد أدى ذلك بالوجود ليكون “فارغا”.[121] بيد انها قالت انه بمجرد قبول الناس لنتائج البحوث العلمية، فسوف يصلون إلى الإيمان الذي يتصف بأنه أكثر واقعية اجتماعية، آملين في وجود الأمل كبداية للتسامح والتعايش وأشكال صالحة للحياه التي لطالما خلقها الإنسان لذاتها من مواد الوجود الخام.[121]
وكانت لهذه النظرة للثقافة أثرها الهائل خارج الأنثروبولوجيا، كما هيمنت على الأنثروبولوجيا الأمريكية حتى فترة الحرب الباردة، عندما قام الأنثروبولوجيون مثل سيدني مينتز Sidney Mintz واريك وولف Eric Wolf برفض صلاحية وقيمة الاقتراب من “كل ثقافة” “كعالم في حد ذاته” و” مستقرة نسبيا “.[122] كما أنهم شعروا أن، في أغلب الأحيان، هذا النهج قد تجاهل تأثير الامبريالية، الاستعمار، والاقتصاد الرأسمالي على الشعوب. حيث درست بنديكت وأتباعها درس (وبالتالي إعادة فتح النقاش حول العلاقة بين ماهو عالمى وما هو خاص، في شكل العلاقة بين العالمي والمحلي). في غضون ذلك، تركيزها على نسخ الأشكال التي تأثرت البنيوية الفرنسية وجعل علماء الأنثروبولوجيا الأمريكية أكثر تقبلا لالوظيفية الهيكلية. البريطانية
ودار النقاش الثاني حول مدى القدرة على تقديم المطالبات العالمية حول جميع الثقافات. على الرغم من زعم بواس بأن علماء الانثروبولوجيا لم يتمكنوا بعد من جمع ما يكفي من الأدلة الثابتة من عينة متنوعة من المجتمعات لتقديم أي مطالبات صحيحة عامة أو عالمية حول الثقافة، إلا أنه قبيل عام 1940 رأى البعض استعدادهم لذلك. في حين رأى كل من كروبر وبنديكت بأن “الثقافة”—التي يمكن أن يشير إليها البعض من منظور محلى أو إقليمى كانت بطريقة أو بأخرى تاخذ شكلا أو قالبا معينا. أما الآن فقد شعر بعض علماء الأنثروبولوجيا بوجود ما يكفي من البيانات التي تم جمعها لإثبات أنها غالبا ما أخذت أشكالا تتسم بالتنظيم بدرجة عالية. أما السؤال الذي لطالما كان يطرح نفسه أمام علماء الانثروبولوجيا، هو “هل تعتبر تلك الهياكل مواد احصائية من صنع الإنسان؟، أو أين تعبيراتهم الخاصة بالنماذج العقلية؟ وبرز هذا النقاش مكتملا في عام 1949، مع نشر جورج موردوك ‘ George Murdock البناء الاجتماعي، وكلود ليفي ستروس’ Claude Lévi-Strauss ‘ Les Structures Elémentaires de la Parenté.
ومعارضة بواس وأنصاره، يأتي عالم الانثروبولوجيا جورج موردوك، الذي قام بجمع الملفات الخاصة بالعلاقات الإنسانية حيث تبين هذه الملفات المتغيرات الثقافية الموجودة في المجتمعات المختلفة، بحيث يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا استخدام الأساليب الإحصائية لدراسة العلاقات المتبادلة بين المتغيرات المختلفة.[123][124][125] والهدف النهائي من هذا المشروع هو تطوير التعميمات التي تنطبق على أعداد متزايدة من الثقافات الفردية. وفي وقت لاحق، قام كل من موردوك ودوغلاس آر وايت.بتطوير العينة الثقافية الثابتة اعتبارها وسيلة لصقل هذا الأسلوب.
قام عالم الأنثروبولوجيا اليهودى الفرنسي كلود ليفي ستروس ‘ Claude Lévi-Straussالأنثروبولوجيا البنيوية بجمع أفكار بواس (وخاصة اعتقاد بواس في التحولية من الأشكال الثقافية، واعتقاد باستيان في وحدة البشرية من الناحية النفسية) وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم’ Emile Durkheim وتركيزه على البناء الاجتماعي) علاقات مؤسسية بين الأشخاص والجماعات). وبدلا من التعميم الذي ينطبق على عدد كبير من المجتمعات، فقد سعى ليفي ستروس لاشتقاق نماذج من الطبيعة البشرية من حالات ملموسة. وتبدأ طريقته مع افتراض أن الثقافة موجودة في شكلين مختلفين: في العديد من الهياكل المتميزة التي يمكن الاستدلال عليها من مراقبة تفاعل أفراد المجتمع (ومنها أفراد المجتمع الذين هم أنفسهم على علم بذلك)، وهياكل مجردة يتم تطويرها من خلال تحليل وسائل مشتركة مثل الأساطير والطقوس حيث يمثل أفراد المجتمع حياتهم الاجتماعية (والتي لا يكون الأفراد ليسوا على علم بها فحسب، وإنما التي عادة ما تعد معارضة أو نفيا للهياكل الاجتماعية ‘ التي يدركها الناسكما أنه سعى لتطوير هيكل عقلى عالمي واحد لا يمكن الاستدلال عليه إلا من خلال المقارنة المنهجية بين هياكل اجتماعية وثقافية معينة. وقال أيضا أنه مثلما توجد قوانين يمكن من خلالها لعدد قليل من العناصر الكيميائية المحدودة نسبيا أن تتحد فيما بينها بهدف خلق تنوع لانهائي من الأشياء، فهناك أيضا عدد محدود نسبيا وعدد قليل من العناصر الثقافية التي يعمل الناس على الجمع بينها وذلك بهدف خلق مجموعة كبيرة ومتنوعة من الثقافات التي يراقبها علماء الأنثروبولوجيا. والمقارنة المنهجية بين المجتمعات من شأنها أن تمكن علماء الأنثروبولوجيا الثقافية من وضع جدول “العناصر” الثقافى، وبمجرد الانتهاء من ذلك، فإن هذا الجدول للعناصر الثقافية لطالما يمكن عالم الأنثروبولوجيا من تحليل ثقافات محددة وتحقيق رؤى خفية إلى الناس الذين أنتجوا وعايشوا هذه الثقافات[126][127] وجاءت البنيوية للهيمنة على الأنثروبولوجيا الفرنسية، في أواخر الفترة من 1960 و1970، بدا لديها نفوذ كبير على كل من الأنثروبولوجيا الأمريكية والبريطانية.
يثبت كل من موردوك Murdock في HRAF وبنيوية ليفي ستروس Lévi-Strauss طريقتين طموحتين للسعي للحصول على العالمية في وجه الخصوص، وكلا النهجين يواصلان مناشدة مختلف علماء الأنثروبولوجيا. بيد أن الخلافات بينهما تكشف عن وجود توتر ضمنا في تراث كل من تايلور وباستيان. هي يمكن العثور على الثقافة تجريبيا في السلوكيات الملاحظة والتي قد تشكل أساسا للتعميم؟ أو أنها تتألف من العمليات العقلية العالمية، والتي يجب أن يجب الاستدلال عليها واستخراجها من السلوك الملاحظ؟ هذا السؤال هو ما فتح باب المناقشات بين علماء الانثروبولوجيا البيولوجية والأثريون على حد سواء.
التحدى البنائى النفعى: المجتمع مقابل الثقافة
في أربعينيات القرن الماضي) ظهر نوذج جديد للبحث في العلوم الاجتماعية وعلوم الأنثروبولوجيا متحديا في ذلك ما دعا إليه بواس وأنصاره وسمى هذا النموذج بالهيكلية الوظيفية.. وتم تطوير هذا النموذج بصورة مستقلة ولكن متوازية في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة (وفي كلتا الحالتين يعتبر فريدا من نوعه: فليس لديه علاقة مباشرة “بالبنيوية” إلا أن كلا من البنيوية الفرنسية والنفعية البنائية الأنجلو أمريكية قد تأثرتا بدوركهايم. كما أنها مماثلة، ولكن لا علاقة لها، بغيرها من أشكال “الوظيفية”). في حين أن ينظر أنصار بواس للانثروبولوجيا على أنها ضرب من العلوم الطبيعية التي خصصت لدراسة للجنس البشري، كما يرى انصار النفعية البنائية الانثروبولوجيا باعتبارها واحدة من بين العديد من العلوم الاجتماعية، والتي تم تكريسها لدراسة جانب واحد من البشرية. الأمر الذي أدى بأنصار النفعية البنائية لإعادة تعريف والتقليل من نطاق مفهوم “الثقافة”.
في المملكة المتحدة، وكان من المتوقع إنشاء الهيكلية الوظيفية من قبل ريموند فيرث ‘Raymond Firth (1901-2002) ونحن في تيكوبيا، ، Tikopia والتي نشرت في عام 1936، والتي تمثلت في نشر الأنظمة السياسية الأفريقية، الذي حرره ماير فورتس (1906-1983) وكهر ايفانز بريتشارد (1902-1973) في عام 1940.[128][129] في هذه الأعمال قام علماء الأنثروبولوجيا بتوجيه تجميعا للأفكار لكل من، برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942)، ومنافسه، ع رادكليف براون (1881-1955). كلا من مالينوفسكي ورادكليف براون ينظر للأنثروبولوجيا—و هو ما يسمونه “الأنثروبولوجيا الاجتماعية“—على أنها فرع من فروع علم الاجتماع الذي درس ما يسمى بالمجتمعات البدائية. وفقا لنظرية مالينوفسكي فيما يتعلق بنظرية الوظيفية، لدى جميع البشر بعض الاحتياجات البيولوجية، مثل الحاجة إلى الغذاء والمأوى، والحاجة البيولوجية للإنجاب. وكل مجتمع يقوم بتطوير مؤسساته الخاصة، والتي تعمل على تلبية هذه الاحتياجات. من أجل أن تعمل هذه المؤسسات، يجب على الأفراد القيام ببعض الأدوار الاجتماعية المعينة التي تنظم كيفية التصرف والتفاعل داخل المجتمع. على الرغم من أن بعض الأعضاء في أي مجتمع قد لا يفهمون الدور المنوط بهم وببعض المؤسسات، إلا أنه يمكن للأثنوغرافي وضع نموذج لهذه الوظائف من خلال رصد دقيق للحياة الاجتماعية.[130] هذا ورفض رادكليف براون ما زعمه مالينوفسكي فيما يخص مفهوم الوظيفة، واعتقد أنه يمكن تطبيق نظرية عامة للحياة الاجتماعية البدائية من خلال مقارنة دقيقة بين مختلف المجتمعات.رادكليف براون قال بأنه يتوجب على علماء الأنثروبولوجيا رسم البنية الاجتماعية في أي مجتمع معين قبل بمقارنة هياكل المجتمعات المختلفة وهو متأثرا في ذلك بعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858-1917) الذي قال بأن المجتمعات البدائية والحديثة تنفرد بالهياكل الاجتماعية المتميزة.، [131] هذا ووجد كل من فيرث Firth،، وفورتيس Fortes، وإيفانز بريتشارد Evans-Pritchard، أنه من السهل الجمع بين مالينوفسكي في الانتباه إلى الأدوار الاجتماعية والمؤسسات وبين ما دعا إليه رادكليف براون بشأن الهياكل الاجتماعية. حيث قاموا بالتمييز بين “التنظيم الاجتماعي” (ملاحظة التفاعلات الاجتماعية)، و”البنية الاجتماعية” (القاعدة التي تحكمها أنماط التفاعل الاجتماعي)، وحولوا انتباههم من الوظائف البيولوجية للوظائف الاجتماعية (على سبيل المثال، مدى الاختلاف بين المؤسسات المتكاملة وظيفيا، ومدى، والطرق، التي يمكن من خلالها للمؤسسات أن تعمل لتعزيز الاستقرار والتضامن الاجتماعي. وباختصار القول، فبدلا من ثقافة (كما يفهمها كل البشر على أنها ظاهرة غير وراثية أو من خارج الظواهر الجسدية) دعوا إلى أن يكون “السلوك الاجتماعي” (التفاعلات والعلاقات بين الأشخاص والجماعات) هو موضوع دراستهم.(وفي الواقع، كتب رادكليف براون ذات مرة “وأود أن استشهد بأحد المحرمات في مفهوم الثقافة [132][132]
من قبيل الصدفة، وفي عام 1946 قام 1946 عالم الاجتماع تالكوت بارسونز Talcott Parsons (1902-1979) بتأسيس قسم العلاقات الاجتماعية في جامعة هارفارد. متأثرا قي ذلك بعلماء الاجتماع الأوروبي، من أمثال إميل دوركايم Emile Durkheim، وماكس فيبر Max Weber، وبارسونز Parsons فقد قام بوضع نظرية للعمل الاجتماعي الذي كان أقرب إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية من بواس في الأنثروبولوجيا الأمريكية، والذي أطلق عليها “الهيكلية الوظيفية”. حيث كان القصد من وراء ذلك ذلك وضع نظرية كاملة للعمل الاجتماعي (لماذا يتصرف الناس كما يفعلون)، وتطوير برنامج مشترك بين التخصصات التي من شأنها توجيه البحوث وفقا لهذه النظرية في جامعة هارفارد،. شرح نموذجه عمل الإنسان نتيجة لأربعة أنظمة:
- النظام “السلوكي” للاحتياجات البيولوجية
- نظام “الشخصية” للخصائص الفردية التي تؤثر على أدائها في العالم الاجتماعي
- “النظام الاجتماعي” لأنماط وحدات التفاعل الاجتماعي، وخصوصا الوضع والدور الاجتماعي
- النظام “الثقافي” من القواعد والقيم التي تنظم العمل الاجتماعي بشكل رمزى.
طبقا لهذه النظرية، فالنظام الثاني هو الهدف الصحيح من دراسة علماء النفس، والنظام الثالث لعلماء الاجتماع، والنظام الرابع للعلماء الأنثروبولوجيا الثقافية.[133][134] في حين اعتبر أنصار بواس كل هذه النظم هي محور الدراسة التي يجريها علماء الانثروبولوجيا، و”الشخصية” و”الحالة والدور” لتكون جزء لا يتجزأ من “الثقافة” باعتبارها “المعايير والقيم، ” هذا وقد رسم بارسونز تصورا لدور أضيق بكثير لعلم الأنثروبولوجيا وتعريفا أضيق بكثير للثقافة.
على الرغم من اهتمام علماء الأنثروبولوجيا الثقافية من أنصار بواس بالمعايير والقيم، بين أشياء أخرى كثيرة، إلا أنه لم تكن سوى مع علو شأن الوظيفية البنيوية أن جاء الناس لتحديد مفهوم “الثقافة” مقارنة بمفاهيم “المعايير والقيم”. ورفض العديد من علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين هذه النظرة للثقافة (والأنثروبولوجيا ضمنا). وفى عام 1980، كتب عالم الانثروبولوجيا، اريك وولف قائلا،
- وكما تحولت العلوم الاجتماعية إلى العلوم “السلوكية”، لذلك لم تعد ترجع تفسيرات السلوك للثقافة: حيث ينبغي فهم السلوك قي ضوء الظواهر النفسية، وإستراتيجيات الاختيارات الاقتصادية، والمساعي من أجل الحصول على الأموال في ألعاب القوى. والثقافة، وحيث امتدت الثقافة لتشمل جميع الأعمال والأفكار المستخدمة في الحياة الاجتماعية، وأصبحت الآن مستبعدة في الهوامش بأنها “وجهة نظرة العالم” أو “القيم”.
ومع ذلك، برز العديد من طلاب تالكوت بارسونز على الساحة بوصفهم رواد الإنثروبولوجيا الأمريكية.و في الوقت نفسه، اهتم العديد من علماء الأنثروبولوجيا الأمريكية بالأبحاث المتقدمة من قبل علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية في فترة 1940 و 1950، والعثور على الهيكلية الوظيفية لتقدم نموذجا مفيدا لإجراء البحوث في علم المجتمعات البدائية.
ولقد أدى دمج النظرية الثقافية الأمريكية في الأنثروبولوجيا مع أساليب الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية إلى بعض اللبس بين مفهومي “المجتمع” و”الثقافة”. يرى معظم علماء الانثروبولوجيا أن هذه المفاهيم مختلفة. حيث يشير المجتمع إلى مجموعة من الناس، وتشير الثقافة إلى عموم القدرات البشرية ومجمل الظواهرغير الوراثية البشرية. فالمجتمعات غالبا ما تكون مترابطة بشكل واضح؛ أما السمات الثقافية غالبا ما تكون متنقلة، والحدود الثقافية،، عادة ما تكون مليئة بالثغرات، قابلة للنفاذ، وتتصف بالجمع.[135] خلال 1950 و1960 عمل علماءالأنثروبولوجيا في الأماكن الاجتماعية والثقافية حيث تطابقت الحدود، وبالتالي تلاشت القدرة على التمييز. عندما اتضحت نقطة التلاقى بين هذه الحدود، على سبيل المثال خلال فترة إزالة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا في 1960s و1970s، أو خلال مرحلة إعادة تنظيم العولمة بعد بريتون وودز، أصبح الفارق واضحا في كثير من الأحيان بوصفه بؤرة الخلاف في المناقشات[136][137][138][139][140]
1946-1968: الرمزية مقابل التكيف
تقلد كليفورد غيرتز Clifford Geertz وديفيد م. شنايدر David M. Schneider، وروي فاغنر تلميذ شنايدر، وظائف هامة باعتبارهم من علماء الإنثربولوجيا الثقافية، كما أسسوا مدرسة داخل الإنثربولوجيا الثقافية الأمريكية أطلقوا عليها ” الإنثربولوجية الرمزية”، أى تلك التي تختص بدراسة البناء الاجتماعي والآثار الاجتماعية للرموز.[141][142][143][144] وحيث أن دراسة الإنثربولوجيا الرمزية تكمل دراسات علماء الإنثربولوجيا الاجتماعية بشأن الحياة الاجتماعية والبناء الإجتماعى على حد سواء، فقد وافق معظم أنصار المذهب النفعى من البريطانييين(ممن اعتر ضوا على آراء أنصار بواس في الإنثربولوجيا الثقافية) على التعريف البارسونى “لثقافة” و”الإنثربولوجيا الثقافية”.ويعد فيكتور تيرنر عالم الإنثربولوجيا البريطانى (الذي غادر المملكة المتحدة مؤخرا ليقوم بالتدريس في الولايات المتحدة) همزة الوصل بين الانثروبولوجيا الرمزية البريطانية والأمريكية.[145]
وقد شغل “الانتباه إلى الرموز” فكر الكثيرين من أنصار بواس وهو ما يعرف بالمعنى الذي يعتمد كليا على سياقها التاريخي والاجتماعي، وطرح ليزلي وايتبعض الأسئلة فيما يخص الامور الثقافية، فعلى سبيل المثال “اى نوع من الكائنات هم؟ وهل هم أشياء مادية؟ ام عقلية؟ أم كلاهما؟ هل هم استعارات؟ رموز؟اشياء مادية؟ ” في مجال العلوم والثقافة (1949)، أشار إلى أنهم كائنات “فريدة”، وهذا هو، من النوع نفسه. في محاولة لتعريف هذا النوع، تطرق إلى أحد مظاهر الرمزية التي لم تكن مدركة، والذي وصفه بأنه “رموز ” كائن تم إنشاؤه عن طريق التعبير بالرموز. وبالتالي فقد قام بتعريف الثقافة على أنها “رموز مفهومة في خارج السياق الجسدي.”[146]
ومع ذلك، من قبل عام 1930 بدأ وايت في الابتعاد عن نهج بواس وانصاره.[147] حيث كتب قائلا،
- من أجل أن يعيش الإنسان، مثل كل الأنواع الأخرى، فيجب أن يساير العالم الخارجي.. حيث يوظف كل ما له من حواس وأعصاب وغدد وعضلات في تكييف نفسه مع العالم الخارجي. ولكن بالإضافة إلى هذا لديه وسيلة أخرى للتكيف والسيطرة.. هذه الآلية هي الثقافة. [148]
على الرغم من أن هذا الرأي يردد ما جاء به مالينوفسكي Malinowski، فإن أهم ما ركز عليه وايت لم يكن “الوظيفة” بل كان “التكيف”. بينما كان اهتمام أنصار بواس منصب على تاريخ بعض السمات المحددة، إلا أن اهتمام وايت كان منصبا على التاريخ الثقافي للجنس البشري، والتي كان يشعر أنه ينبغي دراسته من منظور تطوري. وبالتالي، فإن مهمة الأنثروبولوجيا تكمن في دراسة “ليس فقط كيف تتطور الثقافة، ولكن لماذا أيضا.. وفي حالة الإنسان.. القدرة على الاختراع والاكتشاف، والقدرة على اختيار واستخدام أفضل اثنين من الأدوات أو الطرق لفعل شيء ما، هذه هي عوامل التطور الثقافي. على عكس العلماء المهتمين بدراسة التطور قي القرن التاسع عشر، الذين اهتموا بدراسة كيف للمجتمعات المتحضرة ان تبلغ شأنا لم تبلغه المجتمعات البدائية، عكف وايت كان على توثيق كيفية، على مر الزمن، تحقق القدرة للجنس البشري ككل من خلال الوسائل الثقافية على اكتشاف المزيد والمزيد من السبل لإيجاد وتسخير الطاقة من البيئة، في عملية تحويل الثقافة.
في الوقت نفسه الذي عكف وايت على تطوير نظريته في التطور الثقافي، فقد قام جوليان ستيوارد وهو أحد تلامذة كروبر بتطوير نظريته عن البيئة الثقافية. في عام 1938 ، نشر كتابه الفئات الاجتماعية والسياسية من السكان الأصليين والذي قال فيه أن المجتمعات المختلفة—على سبيل المثال في الشوشونالأصليين أو المزارعين البيض في السهول الكبرى – ليسوا أقل أو أكثر تطورا، بل أنها قد تتكيف بطرق مختلفة حسب اختلاف البيئات.[149] بينما كان اهتمام ليزلي وايت بالثقافة التي يمكن ان تفهم بطريقة كلية كخاصية للجنس البشري، فإننا نجد جوليان ستيوارد مهتم بالثقافة بوصفها خاصية مميزة للمجتمعات. فهو يشبه وايت قي نظرته للثقافة باعتبارها وسيلة للتكيف مع البيئة، لكنه انتقد وايت قي تبنيه فكرة نظرية التطور الثقافي المنحدرة من سلسلة واحدة (اتجاه واحد) واقترح بدلا من ذلك نموذجا للتطور متعدد السلالات ” التطور الذي (وهو في ذلك ينتهج نهج أنصار بواس) يتميز بأن لكل مجتمع تاريخه الثقافى الخاص به.
عندما غادر جوليان ستيوارد منصبه في التدريس في جامعة ميشيغان للعمل في ولاية يوتا عام 1930، أخذ ليزلي وايت مكانه؛ وفي عام 1946 عين جوليان ستيوارد رئيسا لقسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا. وفي فترة الأربعينيات والخمسينيات نجح مجموعة من طلابه في الهيمينة على مجال الأنثروبولوجيا الأمريكية وعلى رأس هؤلاء مارفن هاريس، Marvin Harris سيدني مينتز، Sidney Mintz روبرت مورفي، Robert Murphy روي رابابورت، Roy Rappaport مارشال ساهلينز، Marshall Sahlins علمان سيرفز Elman Service، أندرو بى. فايدا Andrew P. Vayda واريك وولف Eric Wolf.[150][151][152][153][154][155][156][157][158] وفى إعلاء الجانب المادي للثقافة مقارنة بالجانب الرمزي كان لكل من غيرتز وشنايدر.هاريس، رابابورت،، فايدااسهاماتهم الخاصة للمادية الثقافية والانثروبولوجيا الايكولوجية، حيث قالوا بأن “الثقافة” تتشكل من خارج الجسد (أى أنها غير بيولوجية) بحيث يمكن للإنسان أن يتكيف مع الحياة حتى في وجود الاختلاف في البيئات المادية.
وفي الفترة ما بين عام 1960 و1970 سادت المناقشة بين النهج الرمزي والمادي للثقافة بين علماء الأنثروبولوجيا الأميركية. وكانت حرب فيتنام ونشر ديل هايمزكتابه ‘إعادة اختراع الأنثروبولوجيا، ، مع ذلك، علامة واضحة على عدم الرضا المتزايد مع مداخل الثقافة التي سادت بعد ذلك. هايمز قال بأن العناصر الأساسية للمشروع البوسيانى مثل الكلانية والاهتمام بالتنوع لا تزال تستحق المتابعة: ” الاهتمام بمصلحة الشعوب الأخرى وأساليب حياتهم، والاهتمام بالتوضيح لهم ضمن إطار المرجعية الذي يتضمن أنفسنا.”[159] وعلاوة على ذلك، قال إن علماء الأنثروبولوجيا الثقافية مجهزون بشكل فردى تجهيزا جيدا لقيادة هذه الدراسة (مع انتقادات غير مباشرة لعلماء الاجتماع مثل بارسونز الذين سعوا لإدراج الانثروبولوجيا ضمن مشروعهم الخاص):
- في الواقع ان هناك مكانا التقليدية للانفتاح على الظواهر بطرق ليست محددة من الناحية النظرية أو التصميم — الانتباه للظواهر المعقدة، للظواهر الهامة، وربما الجمالية، لمصلحتهم الخاصة، للمظاهر الحسية، وكذلك الفكرية للموضوع. هذه المفاهيم المقارنة والعملية، وإن لم تكن فريدة من نوعها بالنسبة للانثروبولوجيا الرسمية، قد تكون من الضعف بمكان، إذا لم تكن دراسة الإنسان متحدة بتوجيه من الآخرين الذين يفقدون التواصل مع الخبرة في مجال المنهجية، والذين ينسون نهايات المعرفة الاجتماعية في إعداد وسائلها، أو الذين هم من دون قصد خاضعوم لثقافة محددة.
ومن خلال هذه العناصر، كما يقول هايمز، يمكن ان يتم تبرير “دراسة الإنسان بصفة عامة، ” وهذا هو، ” الأنثروبولوجيا أو ما يطلق عليه علم الإنسانيات”.[160]
خلال هذا الوقت انشق بعض علماء الأنثروبولوجيا البارزين من أمثال مينتز، مورفي، ساهلينز، وولف في نهاية المطاف، في محاولة منهم لتجريب الطرق البنيوية والمناهج الماركسية في الثقافة، واستمروا في تشجيع الأنثروبولوجيا الثقافية ضد الهيكلية الوظيفية.[161][162][163][164][165]
1940 — الوقت الحاضر: المحلي مقابل العالمي
قام كل من بواس ومالينوفسكي بإنشاء البحوث الإثنوغرافية كأسلوب محلي لدراسة الثقافة. إلا أن بواس أكد على دينامية الثقافة، منتقلا في ذلك بين مجموعة إلى أخرى، ويتعين على الأشكال الثقافية المحددة أن يتم تحليلها في سياق أوسع. وقد أدى هذا إلى قيام علماء الأنثروبولوجيا باستكشاف سبل مختلفة لفهم أبعاد عالمية للثقافة.
وفي الفترة ما بين 1940 و1950، عملت عدة دراسات رئيسية على تركيز الضوء على كيفية تأثير التجارة بين السكان الأصليين والأوروبيين الذين غزوا واستعمروا الأمريكتين على الثقافة الأصلية، إما عن طريق التغيير في تنظيم العمل، أو التغيير في مجال التكنولوجيات الحيوية. هذا وقام العالم برنار مشكن Bernard Mishkin بدراسة تأثير إدخال الخيول على تنظيم كيواالسياسي وكذا على الحروب.[166] وقام أوسكار لويس Oscar Lewis باستكشاف تأثير تجارة الفراء على ثقافة بلاكفوت الثقافة التي (تعتمد اعتمادا كبيرا على المصادر التاريخية).[167] أما جوزيف جابلوبتوثيق الكيفية شايان فقد قام بتوثيق كيفية تاثر كل من تنظيم شايان الاجتماعي وإستراتيجية الكفاف بين 1795 و1840 بموقعهما في الشبكات التجارية التي تربط بين البيض والهنود.[168] بينما قال فرانك سيكوىبأن تنظيمات السهول العظمى الهنود الاجتماعية التابعة للهنود، وادخال التكتيكات العسكرية مثل الخيول، والتي أدخلها الأسبان انتشرت في الجنوب، وكذلك انتشار الأسلحة والبنادق، على أ]دى البريطانيين والفرنسيين قد انتشر في الغرب.[169]
وفي عام 1950 قام كل من روبرت ريدفيلدوطلاب جوليان ستيوارد بإعداد “دراسات المجتمع”،، وهي دراسة لبعض الممجتمعات المتميزة (سواء التي تم تحديدها من قبل العرق، أو المستوى الاقتصادي) في الغرب أو المجتمعات “المغربة” وخاصة في المدن. ومن ثم فإنها واجهت بعض الخصومات من قبل نقاد القرن التاسع عشر ااستخدامها مصطلح “الثقافة العالية” و”الثقافة منخفضة.” هذا وقد عانى علماء الأنثروبولوجيا قي القرن العشرين لوصف الأشخاص الذين كانوا سياسيا واقتصاديا، أقل شأنا، ولكنهم ليسوا كذلك من الناحية الثقافية واقترح أوسكار لويس مفهوم “ثقافة الفقر” لوصف الآليات الثقافية التي من خلالها تكيف الناس على حياة الفقر الاقتصادي.في حين بدا غيره من علماء الانثروبولوجيا وعلماء الاجتماع باستخدام مصطلح “الثقافة الفرعية” لوصف المجتمعات المميزة ثقافيا والتي كانت جزء من مجتمعات أكبر.
وهناك نوع واحد مهم من الثقافة الفرعية هي تلك التي شكلتها الجاليات المهاجرة. وهناك أساليب مختلفة في التعامل مع جماعات من المهاجرين وثقافاتهم،:في التعامل مع جماعات من المهاجرين وثقافاتهم، وهناك أساليب مختلفة:
- ليتكالتير(جوهر الثقافة): نموذج النمو في ألمانيا من قبل بسام طيبي. والفكرة هي أن الأقليات يمكن أن يكون لها هوية خاصة بها، ولكن ينبغي على الأقل دعم المفاهيم الأساسية للثقافة التي هي أساس المجتمع.
- بوتقة الانصهار: في الولايات المتحدة، •، وجهة النظر التقليدية بحيث هناك بوتقة تنصهر فيها جميع الثقافات المهاجرة فتختلط وندمج دون تدخل الدولة.
- الثقافة الأحادية: في بعض الدول الأوروبية،، ترتبط الثقافة ارتباطا وثيقا بالقومية،: وبالتالي فإن سياسة الحكومة هي استيعاب المهاجرين، وعلى الرغم من أن الزيادات الأخيرة في مجال الهجرة إلى العديد من الدول الأوروبية قد أدت إلى تجربة أشكال التعددية الثقافية في تلك البلدان.
- التعددية الثقافية:: سياسة تنتهج بحيث يحافظ كل من المهاجرين وغيرهم على ثقافاتهم مع مختلف الثقافات ويتعايش كل هؤلاء في سلام داخل دولة واحدة.
ونادرا ما تتآلف ثقافات المهاجرين بطريقة دقيقة مع الثقافات الأخرى تطبيقا لأحد الأساليب المذكورة أعلاه. فهناك العديد من المعايير التي لابد وان توضع بعين الاعتبار مثل درجة الاختلاف مع ثقافة البلد المضيف (على سبيل المثال، “الغرابة”)، وعدد المهاجرين، ومواقف السكان المقيمين، ونوع السياسات الحكومية التي يتم سنها، ومدى فعالية هذه السياسات، كل هذا يجعل من الصعب التعميم بخصوص النتائج. وبالمثل مع الثقافات الفرعية الأخرى داخل المجتمع، فإن المواقف من السواد الأعظم من السكان، والاتصالات بين الجماعات الثقافية المختلفة تلعب دورا رئيسيا في تحديد تلك النتائج. وتعتبر دراسة الثقافات داخل المجتمع أمرا بالغ التعقيد كما أن البحث يجب أن يأخذ في الاعتبار عددا لا يحصى من المتغيرات.