(بالصور) متحف “جميل ملاعب” في بيصور لم يعد حلم ليلة صيف
يُفتتح مساء التاسع والعشرين من هذا الشهر متحف الفنان جميل ملاعب في مسقطه بيصور (عاليه)، وهو تمكن من إنجازه بعد خمس سنوات على بدء العمل فيه، مستكملاً تجهيزه بكل المستلزمات التي تتطلبها طبيعة المكان ووظيفته. غني عن القول إن مشروعاً من هذا النوع تطلّب جهوداً جبارة من أجل تحويل الحلم، الذي طالما راود الفنان، حقيقةً واقعة في بلد وفي ظرف صارت فيهما متاحف الفن التشكيلي، التي طال الحديث عنها، أضغاث أحلام.
بنى الفنان ثلاث طبقات كي تؤلف المتحف، لكنها عجزت عن استيعاب الكثير من أعماله التي توزعت على فترة زمنية امتدت لعقود عدة يقارب عددها الخمسة، إذ نشاهد في المتحف أعمالاً تعود إلى خمسين سنة ماضية، وأخرى لم تمض أشهر على تاريخ صناعتها. على هذا الأساس، تغطي موجودات المتحف مراحل عديدة من مسيرة الفنان التشكيلية، وتتراوح المعروضات بين محفورات خشبية وتماثيل حجرية ولوحات من الموزاييك، إضافة إلى أعمال نُفّذت بتقنيات الغواش والأكريليك والألوان الزيتية. أما موضوعات الأعمال فهي، بدورها، عديدة ومتنوعة: من موضوع البحر، مروراً بلوحات الكتابة الهيروغليفية والمسمارية، ولوحات ذات طابع تراثي مشرقي، وصولاً إلى الأعمال التي طغى عليها الطابع الهندسي. ويعتبر جميل ملاعب أن موجودات المتحف تغطي أربع مراحل، إذا ما قُسمت هذه المراحل بحسب الخطوط العريضة المميزة لكل منها.
الإنطباعات الأولى
قلنا إن موجودات المتحف هي نتيجة مسيرة تشكيلية حافلة بدأت منذ نهاية ستينات القرن المنصرم، حين انتسب جميل ملاعب إلى معهد الفنون الجميلة كي يتابع دراسة فن التصوير. لكن التحصيل الأكاديمي كانت سبقته أنواع من الإنطباعات ستترك تأثيرها حكماً في ما سيأتي من سنوات وعقود، وتمحورت هذه الإنطباعات حول البيئة التي نشأ ضمنها الفنان، من مقومات طبيعية قد تكون بسيطة في ظاهرها وبديهية بالنسبة إلى البعض، لكنها قد تكون، أيضاً، ذات معنى بالنسبة إلى من يدرك بواطنها الخفية وحركتها المستترة. هكذا كانت علاقة الفنان بالأرض والتراب والماء والشجر، وهذا ما دفعه، في صغره، إلى معالجة بستان أحاط بالمنزل، يراقب نمو نباتاته، ويعتبر أن شيئاً ما كان يجمع بينه وبين الشتول. ولم تقتصر مهمته على الإهتمام بما تُنبته الأرض، بل انسحبت على “ضيوف الحديقة” وروّادها من دواجن وخراف ودجاج.
في هذه البيئة الجبلية قضى جميل ملاعب سنوات طفولته، وهي، على جمالها كبيئة طبيعية يسكنها التناغم، لم تخل من بعض الحزن العائلي، كالوفاة المبكرة لجده، ما جعل والدته تتزوج في عمر صغير نسبياً، وتحمل في نفسها آثار الفقدان بصمت حيناً، وبصوت عال أحياناً أخرى. ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية، التي دخلت بيوتاً كثيرة وعبثت بأبنائها، فكانت حصة عائلة الفنان ثقيلة في وقعها، إذ اختطفت تلك الحرب شقيقه وهو في مقتبل العمر، فراكمت الواقعة حزناً فوق حزن لدى الوالدة التي كان قدرها أن تتعامل مع الغم طوال أيامها الباقية، وصارت “الأيام متشابهة منذ طفولتها حتى السطر الأخير من حياتها”، على ما يقول جميل ملاعب .
اكتشاف البحر
لم يكتشف أحدٌ منا البحر إلاّ في المعنى المجازي للكلمة. فالبحر موجود كحقيقة موضوعية مذ صارت المياه جزءاً من مكوّنات الحياة، ولكن لكل منا علاقة بصرية مختلفة بهذا الكم من المياه الذي يبدو كأنه بلا نهاية. زار الفنان البحر ورآه للمرة الأولى حين كان طفلاً، وكجميع الأطفال اُخذ بحجم الأزرق الكبير، وبامتداده إلى الأفق البعيد. على أن نظرة جميل ملاعب إلى البحر لا بد أنها ترافقت مع البذور الأولى لموهبة الرسم التي كانت لا تزال خفية، وتنتظر اللحظة المناسبة للظهور في شكلها العملي. ما من شك في أن الدراسة في معهد الفنون، في مكان غير بعيد عن البحر، ساهمت في تعميق ارتباطه بالأزرق، وفي بداية ارتسام الصور في الذاكرة. تكرّس هذا الإنطباع بعد زيارة لمنطقة الزيتونة، برفقة الفنان الراحل شفيق عبود، الذي تتلمذ جميل ملاعب على يديه في ذلك الحين، فيتذكر الطالب انتشاره، مع زملائه، على حائط مرتفع ملاصق للموج في يوم بارد من شهر كانون، وهم يراقبون ارتفاع الموج وهبوطه بحسب حركة لا تتكرر، فيتصور جميل ملاعب، حينها، ريشة في يده يلاحق بها غبار الماء.
هكذا رسم الفنان البحر، الذي نراه عبر لوحات عديدة يضمّها المتحف، وتتوزع هذه الأعمال على فترات مختلفة، منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي حتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي. تنوعت هذه الأعمال بين اعتبار البحر موضوعاً مستقلاً بذاته، أو عبر إضافة العنصر البشري إلى القماشة، كي يصبح التأليف مركّباً، وقائماً على إيجاد صيغة العلاقة ما بين العناصر العديدة التي تؤلّف اللوحة. صور البحر هذه كانت كثًرت في ذهن الفنان على إثر زياراته لبلدان أخرى، كرحلته إلى الجزائر، التي لحظ خلالها تبدل حالات البحر وألوانه، ومن ثم خلال وجوده في نيويورك، أواسط القرن المنصرم، حيث صار للماء والبحر وجوه أخرى وصور أخرى. فإلى جانب الماء تنتصب مدينة أميركية حديثة تختلف كل الإختلاف، في مكوّناتها وأجوائها، عن البيئة الأصلية. رأى جميل ملاعب هناك غابة من الحديد والإسمنت والزجاج “تبعث روح نمرود الذي أراد أن يطال السماء برمحه”، على ما يقول. كما رأى جسوراً فولاذية عملاقة، وأسلاكاً حديدية ترسم أشكالاً هندسية. وإذا كان قصد الولايات المتحدة من أجل دراسة فن الطباعة، فلا شك أن محفورات الفنان الأولى بدأت تتكوّن معالمها في تلك الفترة، بعدما اكتسبت مهارات تقنية إضافية.
في عالم المحفورات
ما من شك في أن جميل ملاعب كان أولى اهتماماً خاصاً بهذا النوع الفني، وتشهد على ذلك أعماله الكثيرة في هذا المجال، التي صدر بعضها في كتاب، بالتوازي مع معرضه الذي اُقيم لدى “غاليري جانين ربيز” خلال العام الماضي. كان الفنان في مدينة نيويورك حين ارتسمت أمامه لوحة غرافيكية تتضمن خطوطاً حفرها الأسيد على الزنك والنحاس، فالمدينة العصرية ملأى بالخطوط الهندسية أكثر منها بتماوجات اللون وأطيافه التي نراها في مدن أخرى، ويضيع فيها الكائن البشري المحاط بالشواهق، وبأرتال من البشر لا يعرفون بعضهم بعضاً، فيصير الإنسان أشبه بخط رفيع، إلى جانب خطوط أخرى تتحرك جميعها على صفحة معدنية.
تنوعت أعمال جميل ملاعب، التي نرى بعضها في متحفه، بين اعتماد تقنية الزنك أو اللجوء إلى المحفورات الخشبية المفضلة لديه، كما يبدو، لكونها تتعامل مع المادة الطرية كي تصنع منها صفحة خشبية تغور فيها خطوط مختلفة العمق والحجم ستكون أساساً للعمل الورقي المطبوع. وإذا كانت التقنيات قد تنوعت، فهذا الأمر ينسحب أيضاً على موضوعات الأعمال، التي تتضمن العنصر البشري أو الحيواني، أو مجموعات من الأشكال والرموز. بعض تلك الرموز يتحدر من كتابات هيروغليفية ومسمارية، وبعضها الآخر من موتيفات محلية، وفي حالات كهذه يمتد النص التشكيلي في شكل عمودي، في إشارة إلى التماثل مع النصوص والكتابات القديمة ومع طابعها الغرافيكي. أما في الحالات الأخرى فقد احتل النص المذكور مساحة العمل بالكامل، ليصبح المضمون، حينها، عبارة عن شكل واحد مستقل في ذاته.
حول موضوعات الجبل
قبل الحديث عن الجبل وعلاقة الفنان به، تنبغي الإشارة إلى أننا لم نتبع تسلسلاً كرونولوجياً دقيقاً في تصنيف نتاج جميل ملاعب. فموضوعات أعماله كانت متداخلة، إذ لم ينصرف في فترة ما إلى معالجة موضوع محدد دون سواه إلاّ في حال تسجيل انطباعاته المتأتية إثر زيارة قام بها إلى بلد معين. أما في ما يختص بالجبل، فقد أفرد الفنان له كتاباً تضمن أعماله الخاصة به، كما في حالة البحر.
بيد أن لوحات الفنان التي اتخذت الجبل موضوعاً لها يجب ألا يُفهم منها، لغير العارف بنتاج جميل ملاعب، أن المعالجة كانت اقتصرت على مشاهد طبيعية لأمكنة في ذاتها، بل هي تعدّت ذلك بحثاً عن تلك العلاقة العضوية التي تجمع ما بين المكان والناس الذين يعيشون ويعملون ويفرحون ويحزنون ضمنه. كانت صور كثيرة قد ترسخت في ذاكرة الفنان، وكان يخشى دائماّ أن تضيع تلك الصور، وأن تغادر مخيلته من دون أن تتجسد، وتتخلد، كما يفيد في كتابه، مضيفاً: “إن لم أجسدها فسوف تبقى تلح عليَّ، تطاردني وتعذبني… إنها تريد أن تعيش الحقيقة الخاصة بها”.
أصرّ جميل ملاعب، من خلال نصه التشكيلي المتعلق بموضوع الجبل، على ألا يخضع لنمطية محددة، أو لفوضى تجريبية عابرة، تحت شعار حرية التنفيذ والإبداع. هذا الأمر لا يشير إلى تقييده بنظم أكاديمية صرفة، لكنه أراد أن تأتي أعماله أقرب إلى الواقعية في نوعها الفني وتقنياتها، وأن تستعير من عناصر التشخيص ما يتناسب مع هوية الكائنات التي يحتويها العمل، بحيث لا تبقى وظائف تلك الشخصيات محاطة بالغموض، أو عرضة لضروب التأويل والتفسيرات المتباينة. لذا يقول، في هذا المجال، موضحاً وجهة نظره: “مع تقديري لكل التقنيات المعاصرة وللمواد السريعة المتوافرة، أحس أن التقنيات والمواد تشكل نقاط الضوء الضرورية لمواصلة البدايات، بعيداً من التيارات السريعة التي بعثرتها كثرة الإتجاهات”.
عليه، رسم جميل ملاعب إناساً عاديين يقومون بعملهم اليومي، ويزاولون نشاطاتهم الموسمية ذات الصلة بمناسبات الفرح أو الحزن أو الحصاد وسواها ، كما رسم تفاعلهم مع المحيط أو مع المناسبة، وذلك على قماشات متفاوتة الأحجام، جزء منها صغير نسبياً، والجزء الآخر قد تكبر أحجامها بحيث يصبح بعضها أقرب إلى الجدارية. وإذا كانت هذه الأعمال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدينة بيصور ومحيطها، فثمة، أيضاً، في المتحف أعمال نحتية وأعمال موزاييك صُنعت في المكان نفسه الذي بنى فيه الفنان متحفه، على كتف الجبل، وهو المتحف الذي سيصير، من دون شك، أحد الأمكنة التي ستفتخر بها بيصور، وستفتخر تالياً بالفنان الجميل، صاحب المبنى، الذي كما يبدو تتطابق صفته المذكورة، غير المبالغ فيها، مع إسمه الأصلي. وفقا لما نشر بصحيفة الانهار .