تنافسنا، ذات شتاء، على تجميع أكبر عدد من قبعات الصوف والقفازات واللفحات الدافئة من أجل الأطفال السوريين في مخيم الزعتري، المتروكين للعراء والعدم، المشققة أقدامهم، الممزقة ثيابهم، المنهوبة طفولتهم. تفوقت عليَّ، لأنها لم تكتف بإعلانٍ خجول في “فيسبوك”، بل قامت بزيارات عديدة مثمرة لمحلات ألبسة أطفال، وتمكنت من إقناعهم بالتبرع لهؤلاء الصغار المنكوبين في أمانهم، المجتثين من جذورهم. فرح الانتصار والإحساس بالإنجاز والفخر بدا جلياً في عينيها، فاعترفتُ لها بهزيمتي النكراء حيال تصميمها وعنادها وسعة حيلتها. انطلقنا صباحاً، ثلة من الفنانين والكتاب والإعلاميين، من بيتها، بعد أن أخفت قططها عن مدى رعبي الذي تستخف به دائماً. شربنا والزملاء قهوة الصباح، ورزم ثياب الصغار التي تضم ما جمعته حصيلة جهودها، مكدسة على المدخل. تعاونا في وضعها بالسيارات، وانطلقت قافلة الخير باتجاه المفرق.
كانت زيارة أولى لمعظمنا، غير أن المكان بدا مألوفا لهيلدا حياري التي تراكض الصغار نحوها بحب وشوق، وهي تمازحهم، وتسأل عن أحوالهم، وتوزع الهدايا عليهم. تجولنا في الخيام، شربنا قهوتهم المرة، واستمعنا إلى حكايات غضب أهل حوران، ولمسنا، بكل الوجع الممكن، تفاصيل تشردهم المضني. دخلنا خياماً كثيرة، وفي كل مرة يطرح سؤال عن المسؤول عن هذه الفجيعة، ليأتي الجواب واحداً لا يتبدل، موثقاً على جدران المخيم الحزين، المرمي في بطاح صحراء ليست رحيمة ألبتة. شتاؤها القارس الذي يخترق برده العظم لا يقل قسوة عن صيفها الحارق، مثل جمر يأبى الانطفاء. آنذاك، لم يتجاوز عدد سكان المخيم خمسين ألفا على أبعد تقدير. طاولت الإشاعات المغرضة والأقاويل أعراضهم، ولاكت سمعتهم، وهم أبناء عشائر العز والأنفة، في حوران الثائرة التي لم تسكت على ضيم.
تذكّرت كل تلك التفاصيل التي بدت بعيدة، وأنا أزور معرض هيلدا حياري، التشكيلية الأردنية ذات البصمة المتفردة، الإنسانة في معرضها الذي أقيم أخيراً في عمّان، ولاقى إقبالاً واسعاً. تكره هيلدا السياسة، غير أنها ملتزمة، فطرياً ووجدانياً بقضايا الشعوب. منحازة إلى أوجاعهم، رافضة بكل قوتها مظاهر البطش والاستبداد السائدة في واقعنا المؤسف. صاحبة قلب متقد، مرهف عطوف، فتقود حملات غريبة عند بعضهم، هدفها تبني قطط الشوارع وحمايتها من الموت دهساً.
معرض آخر لهيلدا، أجمع نقاد كثيرون على تفرده وتميزه، أتيح لي ارتياده، بمعزل عن طقوس الافتتاح الرسمي والمجاملات البروتوكولية التي تحجب الرؤية في العادة. تسنى لي التأمل بهذا المنجز التشكيلي الجمالي الفلسفي الوجودي المدهش لوجوه نساءٍ مذعوراتٍ حزيناتٍ، يعبرن بصمت بليغ عن رفضهن المطلق فكرة الحرب، باعتبارها نقيض الحب والفرح والحياة والفرح، حيث أبدعت هيلدا ضمن فضاء أنثوي خالص، وهي صاحبة التجربة التشكيلية المتنوعة، دائمة التجدد والابتكار في تصوير انفعالاتٍ وهواجس ورؤى وأحلام، من خلال تلك الوجوه الحزينة، لنسوةٍ عديداتٍ، جمعهن هم البقاء في عالم يترصد إحساسهن بالأمان. تمكنت هيلدا، ببراعة، من سبر أغوار أرواحهن القلقة في فضاءٍ من ألوانٍ، لا يخلو من جرأة وتجديد ومغامرةٍ، لا يقدر عليها إلا فنان أصيل، لا يكتفي بالتنظير من خلف طاولات القاعات المغلقة، بل يذهب بعيداً في التجربة الإنسانية، يخالط البشر، يرهف السمع، يوظف حواسه كلها، قبل أن يتجرأ على مقاربة الريشة.
هذا ما تقوم به هيلدا في مسيرتها الفنية، المنخرطة بالمطلق مع تفاصيل حياتها، تقدمها للمتلقي، حصيلة جمالية ثقافية أخلاقية إنسانية، مفرداتها محض ألوانٍ، مزجتها روح حرّة، توّاقة إلى الحق والخير، من دون أدني تنظير، متكئة على سطوة الفن، رسالة جمالية في مواجهة الحروب وتداعياتها القبيحة. وفقا لما نشر بصحيفة العربي الجديد