جوزف الحاج
(معرض للمصوّرة الألمانية سيبيل برغمان (1941 ـ 2010) في بيروت)
من ضمن جولة عالميّة، يقدّم “معهد غوته”- بيروت، مجموعة من 125 صورة للألمانية سيبيل برغمان Sibylle BERGEMANN (1941- 2010)، التي وُلدت وعاشت في برلين، و أصبحت معروفة في أرجاء العالم بعد سقوط الجدار. (“فيلا عودة”، بيروت حتى 13 كانون الأول 2013).
من رواد التجديد، تتلمذت على يد أرنو فيشر، أشهر مصوري ألمانيا الشرقية. درست الفوتوغرافيا في الستينات، وبرعت في مواضيع الموضة والبورتريه. مساهماتها في مجلة “جيو” الفرنسية أتاحت لها المجال للعمل في أفريقيا وآسيا، وتحقيق ريبورتاجات عن باريس (1982)، نيويورك ولوس أنجلوس وهوليوود (1984)، البرتغال (1991)، اليمن (1999)، طوكيو وساو باولو (2001). في 1990، شاركت في تأسيس وكالة “أوستكرويز” للصورة، والتي قورنت بمستوى “ماغنوم” الغربية الأشهر.
بين أعمالها الملونة والسوداء والبيضاء والفورية (بولارويد)، العديد من المواضيع: الموضة، التحقيق المصوّر، البورتريه، المشهد الطبيعي والمدني، التجريب الفني.
إذا كانت فوتوغرافيا ألمانيا الشرقية لا تزال مجهولة من قبل جمهور عالمي واسع، فلأنها كانت تعتبر بنظر النظام الحاكم “مجرد فن تطبيقي”.
رحلت عن 69 عاماً. سجلّت، بالأسود والأبيض، صفحات مهمة من تاريخ الفوتوغرافيا الألمانية. بعد عملها كبائعة، إلتحقت الفتاة البرلينية في 1965 بصحيفة “داس ماغازين” حيث إلتقت أرنو فيشر الذي عرّفها على تقنيات التصوير، فكانت نقلة مميزة على الصعيد المهني ومن ثم العاطفي. برغمان، الطالبة وصديقة فيشر ثم زوجته فيما بعد، بدأت بالتعامل مع مجلات ألمانية أسبوعية من بينها “سونتاغ” وأخرى متخصصة بالموضة. أبدعت صوراً عن الأزياء إختارت لخلفياتها واجهات المصانع والمباني المهجورة الخربة التي تقع في ضواحي الجزء الشرقي من برلين. حققت تحفة بعد أخرى، مؤسِسَةً لفوتوغرافيا شرقية بامتياز، إرتقت بصورة الموضة إلى مرتبة العمل الفني، لكن العالم أبقى في ذاكرته إسماً واحداً إعتبره السبّاق في هذا المجال، هو هيلموت نيوتن، الألماني الغربي الذي إختار لعارضاته مناطق صناعية مهجورة.
لم تكن الموضة موضوعها الوحيد، إذ وثّقت لمراحل بناء مركز “ماركس- إنجلز” في برلين بين 1975 و1986، صوّرت لقطات عن إقامة نصبهما. ظهرا معلقين في الفضاء، مفككين، مقطوعي الرأس قبل إكتمال البناء. لقطات ذكّرت بصور شبيهة حصلت بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي عندما سجّل كودلكا نقل نصب ضخم للينين محمولاً بواسطة مروحية، ثم على متن سفينة. فهل شاعرية برغمان وما تتضمنه من التهكم والموقف السياسي كانت تخفي نبوءة إنهيار النظام الشيوعي؟
تركت وراءها عملاً فوتوغرافياً ضخماً، شكّل جزءاً مهماً من تاريخ التصوير الحديث في ألمانيا الشرقية، حيث كانت للفنون البصرية وظيفة أساسية هي تحسين صورة المجتمع الإشتراكي. الواقعية الإشتراكية، كما حددتها السلطة، يمكن أن تتكوّن إنطلاقاً من أسطورة عامل بسيط. كان الفن سهلاً على القراءة من قبل الجميع، وكان أيضاً وسيلة تعلّم. فهل بوسع المصوّر أن يصبح فنّاناً في ظل هذه الشروط؟
تعاطت سيبيل برغمان مع تلك المراسيم بذكاء. في صورها ركّزت على لحظات طبيعية هادئة، متجنبة أية رمزية قابلة للتأويل. عملت لسنوات طويلة وسط هذه المناخات السياسية “طالما عملت من دون أن أعير أي إهتمام إلى القيود المفروضة من قبل السلطات أو الهيئات الرقابية الأخرى تحديداً. صوّرت للصفحات الثقافية والموضة في الصحافة اليومية والأسبوعية التي لم تكن تُرضي تماماً الإيديولوجية السائدة آنذاك، إذ كانت قادرة على مقاطعة اللغة البصرية المستهلكة، والمعترف بها رسمياً، المُلزمة بالتفاؤل” قالت. تجنّبت الخوض في الأفكار المحرّمة عبر تحوّلها إلى صورة الموضة والأزياء واللقطات اليومية لبيئتها القريبة. في عالم شديد التعقيد، تعقّبت مواضيع فردية، غريبة وجنونية في بعض الأحيان؛ كشفت صورها جوانب خصوصية من الحياة اليومية، دون أن تفضحها بالكامل.
على مدى 28 عاماً عاشت مع معلمها ورفيق حياتها في برلين الشرقية، في شقة على ضفاف نهر سبري. تأملت طويلاً الناحية الغربية من المدينة المقسّمة، الواقعة خلف جدار برلين. رأت بأم العين العديد من محاولات الهرب إلى الجهة الغربية، كما شهدت على عمليات إعتقال هاربين فُضح أمرهم ولم يوفقوا في إجتياز الجدار. شهدت على الرغبة في الحرية مقابل تشدد السلطات. فتحت بيتها للعديد من المصورين الأجانب الذين زاروا برلين الشرقية. لم تسمح لها السلطات بالسفر: “رغبتُ في السفر، لكن هذه الرغبة سببت لي المشاكل”. عضويتها في “جمعية الفنون البصرية” كانت تجيز لها طلب القيام برحلة بحث مرة كل سنتين “إلى بلدان غير إشتراكية”. هكذا حصلت على أذن بالمغادرة لمرات معدودة. في 1980، في طريق عودتها من باريس، توقف القطار في برلين الغربية، لكنها لم تجرؤ على طلب اللجوء: “كنت قد وقّعت تعهداً بالعودة إلى زوجي وإبنتي وأصدقائي، تجنبت توريطهم معي”. مشاعر الشوق والحزن لم تكن واضحة في صورها التي تناولت فيها مواضيع مختلفة، غير أنها كانت بادية في بورتريهاتها الشخصية: “كنت توّاقة إلى السفر بحرية” تجيب مبررة حزنها.
لم تكن صورها يوماً بروباغندا ولا حتى نقداً للنظام: “صوّرت لقطات مُحرجة وإنتقادية، لكن ذلك لم يكن هدفي المفضّل. أنا لستُ معارِضة، لقد كرّست نفسي لأجل قضايا هامشية.” قدّمت صورها أجزاء مقرّبة من الحياة اليومية في ألمانيا الشرقية، ضمّت قصصاً مفعمة بالأمل والأحلام المحطّمة.
تربك صورها المشاهد بسبب تنوع موضوعاتها. أضحت بسرعة محط أنظار النقّاد والوسط الفوتوغرافي، بعد إطلاعهم على أعمالها التجريبية وملاحظتها الدقيقة للسياقات المخفية.
يجب أن تُشاهد أعمالها من خارج سياقاتها الإجتماعية. غالباً ما لا يفهم المصوّر الفوتوغرافيا كمجرد وسيلة تصويرية، إنما بوصفها أداة يمكنها تسليط الضوء على العلاقات المتبادلة للواقع، تفسّر وتختصر الظروف. إن تفاصيل غريبة من صورها تنقلب إلى رموز تعكس سرداً خفياً صامتاً، وفروقاً دقيقة، تثير مشاعر المشاهد الذي لا يلبث أن يعلق في تعقيدات مزاج مقصود، مليء بالغرائب. هذا التعقيد إنعكاس لشخصيتها.
يبدو أن المصوّر يحب إلتقاط ما هو دائم الغياب عن اللحظة الحاضرة، الملاحظات مشتتة، البحث عن الجذور، الرحلة عبر الأحلام… وكلها جوانب من أعمال برغمان، تتضح في المواقف والمرئيات الظرفية التي تناولت فيها المدن. لقطاتها الظرفية والمشهدية لبرلين منذ أواخر الستينات، طبّقتها في نيويورك وباريس وطوكيو وساو باولو.
أظهرت ميلاً إلى التصوير بالفيلم الفوري “بولارويد”، رغم مثابرتها على التصوير بالأسود والأبيض، علماً أنها كانت من الفوتوغرافيين الذين إستخدموا الألوان كعنصر تأسيسي في بناء المعنى، وليس كوسيلة إيضاح تصويرية.
هنالك ألغاز مخبأة في كل صورة من صورها. فضّلت تمويه الألوان فأخفت الكثير من الأشياء، لعلّها تجعل رؤيتها أوضح. ربما أدركت أن الواقع أيضاً يخفي عجائبه، التي إكتشفتها لكنها لم تُشر إليها أبداً. الكتمان ملجأ أمين، والشاعرية لن تخون هكذا تكتّم. إحتفظت بأسرار الأشياء والناس والأرض. أبقت على الحدس وتخلّت عن التأويل الخاطئ.
أليوم، صورها أسطورية. فتيات عى الشواطئ، كلب منطقة قازان الشرس، سماء البحر الأسود المكفهرّة، كوخ بيع القهوة في داكار، تشييد نصب ماركس وإنجلز… دخلت المتاحف.
“أنا خجولة، هادئة وحازمة” قالت عن نفسها. كانت متأكدة أن في داخلها شعور بالفكاهة، وربما السخف أحياناً. لم يرها أحد وهي تضحك بصوت عال” أنا أبتسم بهدوء”. الضحك حالة عبثية. ربما رفضت أن تتوسل شخصياتها فتطلب منهم “إبتسامة من فضلك”. إعتبرت ذلك تفاؤلاً مصطنعاً كانت تفرضه الصحافة ألمنيا الشرقية، حيث الضحك مسايرة للظروف. نادراً ما نعثر في بورتريهاتها على ضحكة أو حتى إبتسامة، “كل شيء بصوت عالٍ هو كذب” تقول.
صوّرت بأسلوب معلمها: الواقع من دون أحلام قد يؤدي إلى نهاية العالم. شاهدت الجمال ورأت الشك. بحثت عن الحلم ما وراء الواقع. يحمل المصور كاميرته باستمرار ربما لإعتقاده أنه سيعثر على ما يستحق التصوير،”كسقوط ملاك مثلاً”.
“هو هامش العالم الذي يهمني، وليس مركزه. يقلقني إنقطاع التواصل، عندما يكون هناك شيء ما في الوجوه أو المناظر الطبيعية غير مناسب تماماً” قالت. وتساءلت إذا كان مفهومها للتصوير قد تبدّل بعد سقوط الجدار: “لماذا يجب أن يتغير. إنني أصور بالأسلوب نفسه” قالت. العيون هي ذاتها؛ البحث عن الشِعر في الهوامش. شيء واحد تبدّل، إنتقلت من الأسود والأبيض إلى اللون، من دون التخلّي عن الأول. إقتنعت مقتنعة بأن الألوان غير واقعية، متوهجّة وشائعة. “اللون أوبريت” قالت، لكنها، بطريقتها، جعلته يتواطأ مع رؤيتها، أقصت الخطوطية والزينة، قلبت الوهج رمادياً. في صورها الأفريقية ما يشبه حجاب من غبار صحراوي يغطي الصور ليكشفها. لا ألوان مكتملة لديها.
تمرّدت على كل شيء: المرض، التصوير، الرقابة. في السنوات الست الأخيرة من حياتها التي أمضتها مع المرض، إستمرّت في التصوير كعادتها: “في غرفة التظهير المظلمة كنت أشعر أن كل شيء على ما يرام، وأنني لست مريضة”.