استنطاق المعنى من صمت الحرف وتشكيل الخط من دلالة الصورة
“لو عنينا بالطبيعة عالم الظواهر المرئي لأغفلنا أدوار العقل في تحديد مكنوناتها ومن ثم لوقف النظر عند نقطة تلمسها، حتى الشعور لا يسلم هو أيضا من الجفاف حين يرى العقل لا يستقبل المواضيع والقوانين والعلاقات الطبيعية التي منها يُأتي حدود هيئته وما ينتابها من خصائص تدفعه لأن يكون سيدا”، بهذه الرؤية الفلسفية عمل الفنان التشكيلي اللبناني الراحل عدنان المصري على تركيز وتقديم أعماله التي لا تشبه إلا انعكاسه وفهمه الجمالي للطبيعة بصورها الخارقة للمشهد الكلاسيكي في فهم العناصر المكونة للوحة أو التعاطي مع الحرف العربي بنمطية سطحية تبحث فقط عن الكلمة لإدراك المعنى المباشر، فقد أسس لأسلوب تجريدي اعتمد الحرف كدلالة بصرية تنبش في طبيعة الفكرة وترى أبعد من المعنى المكتوب.
تعكس أعماله معارفه وتكوينه المتنوع في الخط والرّسم والتّصوير وتنقله بين الأمكنة داخل لبنان وخارجها إضافة إلى تشبعه بالعلوم الإنسانية من علم اجتماع وعلم نفس وعلم الجماليات شارك في عدة معارض فنية وفردية واحتضنت أعماله عدة مؤسسات من بينها مؤسسة متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية التي عرفت بأعماله بالولايات المتحدة الأمريكية ضمن مجموعة حروفيات.
عن تجربة عدنان المصري يقول الناقد والكاتب اللبناني أحمد بزون “كان يجتهد دائما من أجل أن لا يكرر تجربة أحد فهو لم يذهب إلى التعبيرية التي اتكأت على الحرف العربي كحجة وفاضت عليه حتى جعلته مجرد علامة شكلية خرساء إنما عمل على البحث عن هندسة اللوحة الحروفية إذا جاز التعبير عندما اختصر الألوان الحرة الفالتة ولجأ إلى تكوينات للخط تبقي الكلمة ومعناها لكنها تذهب في المعنى نحو العمق أو الروح لا نحو التصوير الذي يؤكد شكلا خارجيا فهو في الأساس ابتعد عن تصوير الطبيعة او المشاهد الواقعية أو الناس أو الأشكال التي تتحرك على الأرض مقابل أن ينطلق نحو الداخل، في سفر أقرب إلى السفر الصوفي إنها الرحلة التي تنطلق على دفعات حتى أننا نتطلع إلى لوحته الحروفية، فنجد كيف تموج الحروف دفقا بعد آخر لتزاوج بين العين والعقل.”
في بعثرة الحروف يترك المصري للخط فرصة لملة الذكرى وخلق المعنى الأبعد ليستفز العقل والحواس ما يكسب المنجز موقفا وحضورا يرتقي بالرؤى، بخلق إثارة يرتكز عليها ليطوع المفاهيم الكلاسيكية للخط العربي مع التكوين الفني الأكاديمي ودراساته في العلوم الإنسانية والتحديث الجمالي الفني تلك المعارف التي تشبع بها المصري ليحول الحرف العربي إلى عنصر تشكيلي زاخر بالرموز والدلالات ويخرج به من التعبيرات الزخرفية إلى المعنى المكتمل في البناء التشكيلي، داخل لوحة فنيّة تجريدية الأسلوب ورمزية الملامح حضور الخط فيها منحها تفردا حيث حوّله إلى مأوى يحتوي الانفعالات ويؤثر على الزوايا الجمالية.
فتح المصري بتجربته الحروفية منافذ لمحاورة بصرية بين حواسه المخزنة في عمق اللوحة وحواس المتلقي الذي يتأمل مقاصدها ويتحمل ما تحمل من موقف وفكرة تتجادل في صراع الفهم لتظهر ولتقفز نحو مخيلة المتلقي المدركة لتشعباتها الحسية فيرحل إلى عوالم خارقة ويسطع بها في حركية وتفاعل يدعو للتّمعن والغوص بحثا عن معانيها الخفية.
تختزل هذه التجربة بساطة الابتكار الفني وعمق الفكرة في تناول الحرف وخلق روح في حركته تمنح اللوحة حيوية، فبين تجربة وأخرى لم يهدأ المصري في بحثه عن تشكيلات جديدة حتى لا يكرّر نفسه فهو المؤمن بقوة العقل العميقة في إفراز دلالات الحرف من مفهوم التعبير التشكيلي عن الواقع اللبناني الذي تأثر به واحتل دواخله وعصف بمواقفه وأفكاره ولم ينفصل عنه حيث فضّل أن يتجاوز التعبير المباشر باحثا عن علامات بصرية متواترة ومكثفة تنبع من الواقع نفسه لتتجاوز المشهد المألوف من خلال التجريد أنطق حرفه بإعادة هندسته ومزجه لونيا كما شابك بينه وبين الخطوط لتصبح بدورها شكلا مستقل الذات خارج قواعد الخط داخل ذلك الواقع دون مبالغة ، فقد ابتعد عن تصوير الطبيعة والناس وحرص على نقل صور عالجها بصريا بموقفه وأفكاره، ليغوص داخل الملامح وينبش حواسها وكأنه يقدّم قراءة فنية لنفسياتها في تناغم روحاني خلق إيقاعا عبر عن الانفعالات بحركية ودفق سلس العبور نحو جمالية خرجت من عتمة الواقع نحو إيتستيقا اللون والتشكيل والتنفيذ المتناغم بينها وبين الضوء والخطوط وحضور الحرف ما خلق تناسقا منح العين سكينة فسحت المجال للعقل كي يبحث داخلها، فحين ألبس حروفه الألوان ومزجها مع الموقف خلق عند المشاهد رغبة في التمعن في عمق اللوحة مع التّركيز على الحركة التي تشيع الصمت والتأني لتخرج بعنف وثورة وتوازن، فقد أحدث ذائقة خاصة عالجت الفكري بالإحساس في أعماقها من خلال فلسفة قابلة للاجتهاد والتجريب.
تعتبر اللوحة عند المصري نبشا في العمق الجمالي فهو يأخذ اللون ويغرق به في بحور الضوء والشكل ليرتب جوهرها ويسمو بها في تناغم الكينونة العامرة بالإثارات الضوئية التي تجادل تناقضات الواقع والانفعالات المتراكمة التي تضطرم في الرؤية البصرية المرجوة من المنجز فهو يحركها لتستفز الفهم الادراكي من خلال التفاعل الحسي مع المنجز، فيقرّر حضور الشكلي المتوازن ودوره المقصود في رمزية ترتب التناقضات فالفرح انعكاس للحزن والبقاء أيضا تواتر معنى في الرحيل فكل الدلالات المعنوية في انبعاثات الأشكال تحاول الوصول إلى الاكتمال الذي يبعد اللوحة عن المبالغات أو التطرف الحسي بخلق التوازن الداخلي حيث يعبث بالفكرة والحواس ويرتبها لتقترب من الجمالية فبين الضّوء والعتمة يعبر نحو إحساس الفكرة وهنا تتبين تلك الإيحاءات المكثفة في بريق الإشعاع والتصادم والتكاثف داخل الحروف والإشارات وفي الرمزيات التي تدعم الكلام الذي يخطه مع الفكرة مثل شكل الحمامة مع اللون الأبيض ومع حروف كلمة سلام، أو شكل الأسير مع اللون الداكن المعبّر عن الظلم والوطن في شكل الأرزة والمقاومة في البندقية وكذلك مراوحات الألوان من الأحمر والبني والأخضر والأصفر دلالة على موقف يقبع بين تناقضات الانتظار الجامد والحركة مع خلق تناغم روحاني داخلي يمنح اللوحة شرقيتها المشرقة التي يتفاعل فيها الحس العقلاني بعبقرية في خلق تلاقح بين الأشكال في ترتيبات هندسية تبدو غير مهندسة أي أنه يفعّلها عقلانيا مع الذوق والحدس لتندلع بتذوق جمالي مفرط الزخم بعيد عن ملل الكثافة أو الاستفزاز المزعج فيشد المتلقي بذائقة حسية وتذوق فكري.
*اللوحات المرفقة من مجموعة حروفيات متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections