كثيرا ما تستوقفنا الأعمال التشكيلية التي تنجزها النساء، ليس من باب التفرقة في الإنجاز أو التمييز ولكن من باب الصورة وعمقها والغوص في المقاصد التعبيرية وزخم المشاعر والرغبة في التحليق بالمعنى والتقاط الأمل في تساؤلات الوجود والواقع، فنكون أمام فكرة داخل منجز فني مليء بالإحساس، وهذه المتعة البصرية الكاملة والمعاني العميقة نلمسها في أعمال التشكيلية الكويتية مها المنصور.
تعتبر مها المنصور من أبرز التشكيليات في الساحة الفنية الكويتية ببصمتها الحداثية وتفردها الأسلوبي، وهي حاصلة على شهادة بكالوريوس تربية فنية من كلية التربية الأساسية، عملت مدرسة ومصممة فنون تشكيلية، كما أدارت متحف الفن الحديث التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، قدمت تجربتها في الكثير من المعارض داخل وخارج الكويت وحصلت على جوائز تقديرية وتشجيعية عربيا ودوليا.
تنتمي مها المنصور لعائلة فنية شهيرة في الكويت «عائلة المنصور» التي برزت فيها عدة أسماء كان لها تأثيرها على الساحة في فن التمثيل والمسرح والدراما والإخراج فهي ابنة المخرج والمسرحي الراحل عبدالعزيز المنصور، وتعتبر مها أن لعائلتها فضلا وتأثيرا في عكس تذوقها وعشقها للفنون وتمهيد الطريق لها، فاختارت طريقها الفني مع الألوان والريشة، فمن عائلتها نهلت الفن فهي تعتبر والدها مصدر إلهامها وعائلتها مصدر قوتها وإشعاعها الجمالي.
بحكم دراستها الأكاديمية تشبعت مها المنصور بالمفاهيم العامة للمدارس الفنية الكلاسيكية والواقعية التعبيرية، حتى تدرجت نحو التجريد والحداثة وصولا إلى السريالية، وهذا المنزع الحداثي مكنها من أن تستفيد من الأبعاد الرمزية المتوافرة في الفكر التجريدي والسريالي وتمزج داخله جمال عمقها الشرقي وخصوصية بيئتها.
يرتقي العمل الفني عند المنصور إلى مرتبة عالية الحس ويتوافق مع الحدث فيظهر الموضوع مشبعا بالجمالية في عمق المشهد الذي يتحمل الألوان والظلال والخطوط والرموز التي تمنحه الحركة فيتدفق برقة في المعنى الناطق رغم صمت اللوحة، ولم تقف مها المنصور عند اللوحة في رؤيتها الفنية التشكيلية فقد ظهرت لمسات وتأثيرات العائلة الفنية لتلهمها تجديدا يعتبر تفردا في الحركة التشكيلية فقد أدخلت تقنية فن الفيديو وأخرجتها بحس عال وجودة بصرية كسرت حاجز النظرة التقليدية للوحة التشكيلية بإضافة الصوت والصورة وتحريكها دون أن تنفصل عن أبعاد الرؤية التشكيلية وهذه التقنية لا توقعها في مفهوم تقديم فيلم معتاد أو لوحة مقيدة، فهي تقنية متحركة كالفيلم تماما لكنها تحمل موضوعا تشكيليا يترجم حسا وحركة في رؤية متداخلة تعبر عن العمق النفسي والبعد التأثيري المتماهي مع الواقع بكل تفاصيله وتناقضاته.
فمن يتأمل أعمال مها المنصور تسحبه الرقة، فهي كمن يكتب مشاعره بانسياب لوني يعكس أنوثة تجيد ترويض الفرشاة لتكتب الفكرة مشاعر وصراعا داخليا مضطربا وهادئا ومشاغبا في امتلاك الأمل.
فهي تعتبر المشاعر الإنسانية المحرك والدافع الأول في استفزاز العقل نحو التعبير فتتشكل الفكرة وتحاول القفز نحو اللوحة والاكتمال فهي تعايش واقعها بايجابية الطرح فنلاحظ تعاطفا واضحا مع المرأة وهمومها، الطفولة، الجغرافيا العامة بكل آلامها والفرح الذي يتركه المحيطون والمحبة التي تضمن الاستمرارية.
تثير ألوان مها فضولا داخليا عن دافع الاختيار فهي ليست صادمة بقدر ما هي مستفزة للفكر والإحساس كاللون الأحمر بدرجاته وتدفقاته بغموض يحاكي التطور والنضج بين الحدة والتقلص في اللون ذاته يكمن سره الذي يجمع بين العقل والقلب أي العاطفة والفكر فله دلالة دقيقة المعنى تدعو للبحث والغوص في معانيه فهو لون الحيرة مع الحب وتناسق الحياة والأنوثة والبقاء كرمزية دالة على العاطفة والدم، كما يحضر اللون الأسود معبرا عن العتمة والحزن، والأبيض كأمل وحنين مكتمل مع اللون الأزرق. ويتناسق مسطح اللوحة بتشكل هندسي متحرك مع بقية عناصرها ورموزها التي تشد الناظر إليها فيبحث داخله عن المقاصد مثل المقص الدال على المنع نهاية الفعل، الساعات التي تشير إلى الوقت، الزمن والانتظار والترقب وتوقف المصير وتعطل القرار أو الاستسلام للواقع، ثم نجد تلك التشكيلات الحرفية سواء الحروف العربية أو الغربية قد تشير إلى جدلية الحداثة والهوية والتغيير أو هي أفكار تحاول التشكل لتكوين معنى قائم الحضور، الأرقام المبعثرة بترتيب داخل اللوحة هي تعابير قلق من حسابات داخلية تقع داخل الأطر الزمنية في صدام مع تقديرات نفسية، قصاصات الجرائد هي الأحداث والواقع أو التحرر وحرية التعبير، الشخوص وعوالمها، التركيز على العيون التي تعكس الخوف والحيرة والانتظار والترقب، ورغم أن هذه المواضيع المتناول التعبير عنها عند مها المنصور تعتبر من المواضيع المطروحة بكثافة في المجالات الفنية إلا أن الأسلوب المتنوع والمختلف يعطيها التميز في التعبير فهي تعرف تماما من خلال معايشتها ورؤيتها معاناة مسلوبي الإرادة فلا تتجاوز الجانب المعتم في المعاناة لكنها تخففه بمساحات البساطة والكثافة اللونية والتنوع الذي يعكس الأمل. وفقا لما نشر بصحيفة اليوم.
• ناقدة من تونس
بشرى بن فاطمة