هناك سر غامض هو قلة عدد المتميزات من النساء في بعض مجالات الفن، وبخاصة في العمارة والتأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا. الأمر يحتاج إلى دراسة علمية أولاً لتأكيد أو نفي هذه الملاحظة وثانياً لمعرفة الأسباب. فنحن في القرن الواحد والعشرين وقد قطعت البشرية عموماً شوطاً كبيراً في التقدم في المجالات كافة حتى أوشك هذا التقدم أن ينقلب على البشرية نفسها. هنا لا أجري بحثاً وإنما أقدم الاستثناء في مجال العمارة، التي لا يكتبون عنها كثيراً في صحفنا العربية على كل حال. أي التعرف على معماريات متميزات وفيهن لحسن الحظ معمارية عربية. للتميز مرجعية وليس مجرد أحكام شخصية.
المرجعية الأعلى في العمارة هي جائزة «بريتزكر» pritzker، على اسم مؤسسها الأميركي ومقدارها 100 ألف دولار وميدالية برونزية، وهي أهم جائزة معمارية في العالم يعلن عنها في ربيع كل عام. منذ بدء منح الجائزة عام 1979 وحتى هذا العام لم تفز بها سوى سيدتين بينما فاز بها 38 رجلاً. وحتى السيدة الثانية التي فازت بها وهي المعمارية اليابانية كازوو سيجيما؛ فازت بها مناصفة مع رجل هو مواطنها المعماري وشريكها ريو نيشيزاوا عام 2010 وهو أصغر منها بعشر سنوات.
أما السيدة الأولى فكانت العراقية زها حديد الفائزة عام 2004. الأخيرة معروفة في العالم العربي كونها عربية. كتبوا عنها كثيراً وبخاصة بعد وفاتها المفاجئة القريبة في نهاية آذار (مارس) الماضي. كنتُ ممن كتبوا عنها قبل وفاتها وبعدها، ولديها تسجيلات تلفزيونية في قنوات عربية. هنا لن أعيد ما كتبتُه بعد وفاتها. لكني أضيف جانباً شخصياً عنها. كنتُ التقيتها في القاهرة عام 2009 عندما أتت لعرض تصميمها لمدينة المعارض الجديدة الذي لم يُنَفذ. كان تصميماً حداثياً طليعياً كمعظم تصميماتها. تعاقدت معها الحكومة المصرية والتقاها رئيس الوزراء وقتها. ودفعت لها الحكومة المصرية أموالاً بلا شك مقابل التصميم. هي أموال مهدرة لأن المشروع لم ينفذ. وهو ليس المشروع الوحيد الذي لم ينفذ لها في القاهرة. هناك تصميمها لبرج، كان من المفترض أن يكون الأعلى في مصر، على شاطئ النيل لكنه كان بتمويل قطري. على كل حال، كانت زها معروفة بارتفاع كلفة تنفيذ مشروعاتها ما عطَّل تنفيذ بعضها سنوات. عندما التقيتها كانت ترتدي زياً واسعاً أسود. هو لونها المفضل، حتى في أوراق الرسم وأقلام الكتابة، كانت ترسم على ورق أسود وتستخدم أقلام الحبر الأسود.
كانت تتحدث الإنكليزية. يمكن أن تبدأ جملة بالعربية لكنها سرعان ما تتحول إلى الإنكليزية وتعود لتكمل بعض الجمل بالعربية. وهكذا، فقد تركت العالم العربي بعد أن درست الرياضيات في الجامعة الأميركية في بيروت قبل أن تلتحق بكلية الهندسة المعمارية في لندن في سبعينات القرن الماضي حيث عملت فيها بعد تخرجها، وقد أصبحت مهووسة بالعمارة فوهبتها كل وقتها، وكل حياتها. عملت أستاذة زائرة في جامعات كبرى مثل هارفارد وشيكاغو وهامبورغ وأوهايو وغيرها. مع ذلك كانت طوال حياتها فخورة كونها عربية، وظل العراق في تفكيرها دائماً، وكثيراً ما تحدثت عنه في مختلف الظروف: في أحاديثها الخاصة والعامة والإعلامية.
شكَّل كونها امرأة وعربية محور نضالها في الغرب لإثبات تفردها وسط مناخ معاد للعرب عادة. هي شخصية غير تقليدية، أحياناً غريبة الأطوار وقد انعكس ذلك في تصميماتها المعمارية. في حديثها مختصرة، تلقائية وصريحة، لكنها جادة. لديها شخصية قيادية وجذَّابة لا تخطئها العين، وبخاصة عندما تبدو مع فريق عملها إذ تتعلق أنظارهم بها رهن الإشارة. ربما ساعدها تكوينها الجسدي على هذا الحضور، فهل كان هذا الحضور الطاغي وراء عدم زواجها؟ أم انشغالها الشديد في العمل؟ لكن الذكاء الواضح في عينيها الواسعتين هو الأهم، وثقتها بنفسها واضحة. بالغة النشاط، لا تحب النوم كثيراً. أحببتُها، فهي تقدم نموذجاً يحتذى للنساء عموماً ولنساء العرب بخاصة. تصمم المشروعات وتتابع تنفيذها وتلقي المحاضرات وتشارك في المؤتمرات والمعارض، فمن يحتذي؟ الفائزة الثانية بجائزة بريتزكر اليابانية كازوو سيجيما Kazuyo Sejima أكملت الستين عاماً في 29 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
أسَّست مع زميلها الفائز معها بجائزة بريتزكر مكتب «طوكيو للعمارة»، وصمما من خلاله مباني مبتكرة ورائدة في اليابان وخارجها. من ذلك مركز «رولكس» التعليمي في مدينة لوزان في سويسرا، المتحف الجديد للفن المعاصر في نيويورك ومتحف القرن الواحد والعشرين للفن المعاصر في مدينة كانازاوا في اليابان الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في بينالي فينسيا للعمارة عام 2004. ولدت المعمارية كازوو سيجيما في طوكيو وحصلت على بكالوريوس العمارة من جامعة المرأة. حصلت عام 1992 على لقب «معمارية العام الشابة» من معهد اليابان للعمارة. قامت بالتدريس في جامعات برنستون والفنون التطبيقية في لوزان وجامعة تاما للفن في طوكيو. تقلدت مع زميلها ريو نيشيزاوا عام 2002 الميدالية التذكارية للأكاديمية الأميركية للفنون والآداب. حصلا على جائزة التصميم من معهد اليابان للعمارة عام 2006 وجائزة أكاديمية برلين للفنون في العام التالي.
تبدع مباني بسيطة وديموقراطية تتناسب مع المهمة والموازنة المتوافرة. مثال على ذلك مشروع مدينة «آلمير» الهولندية، بفصولها الدراسية العديدة البسيطة وورشها ولها كلها إطلالات مميزة على البحر. مركز «رولكس» التعليمي في لوزان مثال آخر، فهو مساحة مستدامة يستخدمها الطلاب ليلاً ونهاراً. جاء في حيثيات منحها وزميلها جائزة بريتزكر: «تبدو مبانيهما مخادعة ببساطتها وتتناقض عمارتهما مباشرة مع البلاغة والتنميق. بدلاً من ذلك تسعى إلى الصفات الأساسية للعمارة المتمثلة في البساطة محل التقدير الشديد والاقتصاد في الوسائل والانضباط في العمل. يمسكان برؤية للمبنى ككل سلس، يتراجع فيه الوجود المادي ليشكل خلفية حسية للناس والأشياء والنشاطات والمناظر الطبيعية.
يستكشفان في عمارتهما خصائص هائلة لفضاء مستمر وإضاءة وشفافية. قد يكون مغرياً رؤية تكويناتهما الرقيقة المصقولة بالضوء والشفافية كأعمال نخبوية أو أكثر روحانية. نهجهما طازج، يقدمان دائماً إمكانات جديدة من خلال القيود العادية للعمل المعماري الذي يأخذ منهجياً الخطوة التالية. يستخدمان المواد الشائعة والمستخدمة يومياً ويبقيانها منسجمة مع إمكانيات التكنولوجيا المعاصرة».
النموذج الأخير الذي أقدمه هنا مدهش، لأنها ليست معمارية أكاديمية ومع ذلك أصبحت عضواً في لجنة تحكيم الجائزة المعمارية «بريتزكر». إنها الألمانية كريستين فايريس صاحبة أول غاليري للهندسة المعمارية في العالم في برلين. هي ليست مهندسة معمارية لكنها تشارك في أعمال بنائية عديدة. بحكم شبكتها الواسعة تربط بين الناس أينما كانوا، وتدعم المعماريين الشباب وتشجعهم على أفكار غير تقليدية. عندما دعا الرئيس الألماني يواخيم جاوك أهم الفنانين المعماريين في ألمانيا، وهو أول رئيس ألماني يقوم بذلك، كانت كريستين فايريس من بين الضيوف بل وجلست إلى جواره. تقوم ومنذ 35 عاماً بما يسعدها وما تحمست له. حرصت دوماً على التوجه إلى الرأي العام وتوعية الناس بأن الهندسة المعمارية هي جزء من حياتنا اليومية. علماً أننا نتناسى في أحيان كثيرة أنها شأن عام بالدرجة الأولى. أقامت في الغاليري الذي أسسته أكثر من 400 معرض. جميع من عرضوا أعمالهم فيه جاؤوا قبل اشتهارهم ومنهم من فازوا بجائزة «بريتزكر» مثل اليابانـــيـــة كازوو سيجيما نفسها والهولندي ريم كولهاس والعراقية زها حديد؛ فضلاً عن الأميركي دانيال ليبسكيند الذي وصف كريستين فايريس بأنها «بلا شك أهم شخص في العالم بخصوص المعلومات والتواصل بين المهندسين المعماريين وهي تقدم وتدعم البدائل المعمارية غير المألوفة».
كان معرض «بورتريهات المدن» أحد أهم المعارض التي أقيمت في غاليري فايريس. وفيه قدمت تصميمات تخطيطية ومعمارية تم تنفيذها في بعض المدن مثل مدينة مدلين الكولومبية التي اشتهرت بالمخدرات والبؤس والجريمة. لكن المعرض برهن على أن من شأن التخطيط العمراني الذكي أن يجعل من مثل تلك المدن أماكن توفر عيشاً مريحاً. تهتم فايريس بروسيا منذ أيام البريسترويكا في الثمانينات وشاركت هناك في لجان تحكيم عدة للتخطيط العمراني وتقديم المشورة للمعماريين الشباب وتفيدهم بعلاقاتها الدولية. هي ترفض أن ترتبط الثقافة بالعلاقات السياسية وترى عن حق أنها شأن عابر للحدود بين البلدان.
تعتبر فايريس اليوم رمزاً مهماً في عالم الهندسة المعمارية. في مدينتها برلين تدعم مشاريع غير معهودة مثل مشروع الأخوين إدلر بإقامة مسبح نهري عمومي في وسط العاصمة. تفرحها فكرة المسبح النهري الذي يقع إلى جانب مبان تاريخية ومنازل فاخرة وهو مكان عمومي وديموقراطي في الدرجة الأولى. تقول كريستين فايريس إن «الهندسة المعمارية هي للناس وعليها أن تتكيف مع متطلبات الزمن، علماً أن الحماسة والمثابرة هما شرطان مهمان للنجاح».