في مثل هذا اليوم منذ ست عشرة سنة، انطوت كل صفحات الكتب التي كانت تتغنى بما، كُتب فيها وسطرت صفحاتٌ بيضاء كُتب في سطرها الأول “محمد الدرة”، بعدما أُغبرَ المكان بالتراب من كثرة إطلاق الأعيرة النارية من جانب الاحتلال الصهيوني، كان والد الطفل آنذاك يحتمي ببرميل إسمنتي ليحمي ولده من ذاك الرصاص، وما كان منه إلا أن أشار بيده توقفوا، ولم نعلم حتى الآن لمن كان يشير بإصبعيه؟! لمطلقي الرصاص أن توقفوا؟ أم لحكام العرب أن تحركوا؟ لكن الذي نعرفه أن مُطلقي الرصاص ما توقفوا، وأن حكام العرب ما تحركوا.
كان المشهد موثقاً بأيدي كاميرات فرنسية بعدسة المصور شارل أندرلان الذي انتشر في جميع أنحاء العالم في ثوانٍ معدودة، استشهد محمد الدرة بعد وابلٍ من الرصاص، وقامت الدنيا، وحسبنا يومها أننا ستعود إلينا كرامتنا، ولكن في صبيحة اليوم الثاني من استشهاد الدرة، إذ بنا نقرأ في الصحف كالعادة تلك الكلمات الباردة “استنكر الرئيس بشدة، الرئيس يُعرب عن أسفه، الرئيس يحذر من خطورة الموقف”… إلى آخر تلك الكلمات الرنانة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
في 30 من سبتمبر/أيلول لسنة 2000 في اليوم الثاني من انتفاضة القدس سقط الشهيد في أحضان أبيه، كان يبلغ حينها اثني عشر عاماً، وبعدها استكانت الأمور وهدأت الأوضاع وعادت مثل سابقتها، وتوالت بعد ذلك المصائب الواحدة تلو الأخرى، ولكن ساعتها قد اعتدنا على غض الطرف.
توالت الأعوام حتى نرى اليوم هؤلاء الذين ماتوا وهم أحياء يردون الجميل لهذا الطفل البريء الذي راح ضحية لخيانتهم وتدليسهم يذهبون اليوم الـ30 من سبتمبر لسنة 2016 ليتباكوا على موت السفاح الصهيوني الذي لم يعرف العالم أبشع منه إلا القليل يذهبون اليوم ليؤدوا مراسم العزاء في إسرائيل، وكأنهم يُعلنون للعالم بأسره أن الذي استشهد من ست عشرة سنة مات بأيدينا لا بأيديهم، ذهبوا وقد نفضوا العهود من على أيديهم، لكن ما زالت أيديهم ملطخة بدماء الدرة وأمثاله من الشهداء، نعم أيديهم ملطخة حينما صافحوا بها أيدي هؤلاء الصهاينة، سيتهكم علي بعضهم ويقولون هذه أمور دبلوماسية، ولا بد من فعلها، وأقول لكم: تباً لدبلوماسيتكم التي وضعت رؤوسنا في التراب، ألستم من علمتمونا أنا هؤلاء أعداء أمتنا سنفتك بهم متى شئنا؟ لقد تعلمنا وها نحن نعلن لكم في أفواهكم تباً لكم، تباً لكم لقد مُتم جميعاً، ولم يبقَ سوى الدرة.
في ذكرى استشهادك لا يبقى لنا إلا أن نُخبرك أنك ساكن في قلوبنا جميعاً، فلقد بنيت بنا عقيدة لا يستطيع الزمان أن يمحوها، ألا وهي عقيدة الصمود، فلقد ظللت إلى آخر أنفاسك على تراب وطنك صامداً فلم تهرب كمن هربوا، ولم تبع كمن باعوا، ولم تخن كمن خانوا، ولكن كنت رجلاً منذ ريعان طفولتك، ففي ذكراك لا نبدي أسفاً عليك، ولكن على حالنا نأسف، فأنت أنت، ونحن ما زلنا عن هويتنا نبحث، سنخبر أبناءنا عنك يا درة، سنخبرهم بكل التفاصيل، سنخبرهم بأنك بين أحضان أبيك كنت مُحتمياً، وصدرك لرصاص العدوان كان منتظراً، سنخبرهم بأنك لم تستجدِ أحداً من العرب؛ لأنك كنت تعلم حينها أنه لا جدوى من الاستنجاد بالعرب، سنخبرهم بكل التفاصيل لا تقلق، سنخبرهم بأنك لم تخن وطنك مع أنهم خانوا، سنخبرهم بأنك ما بعت يوماً وقد باعوا، سنخبرهم فلا تقلق، لن ننساك يا درة، وإن كان كل العرب خانوا.
في ذكراه الـ16.. ”دُرّة” الأطفال الذي تحوّل رمزًا للانتفاضة الفلسطينية
كتب – مصطفى ياقوت:
59 ثانية هو عمر مقطع الفيديو الذي التقطته عدسة المصور الفرنسي شارل إندرلان، مراسل قناة “فرنسا 2″، لمشهد احتماء الطفل محمد جمال الدرة، ذو الـ12 عامًا، بوالده الثلاثيني، خلف كتلة إسمنتية بشارع صلاح الدين، بقطاع غزة.
الدرة المحتمي بوالده من نيران الهجمات الإسرائيلية في ثاني أيام الانتفاضة الفلسطينية عام ٢٠٠٠، أصبح اليوم أيقونة الانتفاضية في الأراضي المحتلة بفلسطين، والأراضي العربية من حولها.
عاش الدرة وسط مخيم البريج، في قطاع غزة الذي تقطنه أغلبية كبيرة من اللاجئين. هو من أسرة تعود أصولها إلى مدينة الرملة -والتي احتلت وطرد أهلها منها عام 1948- مكونة من أبيه وأمه وستة من الأبناء سواه.
ساقه قدره للتواجد بصحبه والده في منطقة نزاع مسلح، فجاهد بالتشبث بقميص والده، قبل أن تصيبه رصاصات الاحتلال، وترديه “رمزا” لانتفاضة الأقصى ٢٠٠٠ ولكل انتفاضة أخرى.
قبل 16 عامًا، وعبر مداخلة صوتية مع المصور صاحب الجنسية الإسرائلية، ومدير مكتب قناة “فرنسا ٢” بإسرائيل، أخبر المشاهدين أن محمد الدرة ووالده كانا “هدف القوات الإسرائلية لإطلاق النيران”، وهو ما أحرج سلطات الاحتلال وجعلها تعترف -في بادئ الأمر- بمسئوليتها عن الحادث، وتعرب عن أسفها لمقتله، قبل أن تعود وتتراجع عن الاعتذار بعدما أعلنت أن الجيش الإسرائيلي ربما لم يطلق النيران على الدرة، وعلى الأرجح أن الفتى قتل برصاص القوات الفلسطينية”.
“ربما.. وعلى الأرجع”، هكذا خرجت الرواية الإسرائيلية، مقابل ما رواه جمال الدرة، عن وقائع لحظة استشهاد نجله في الـ29 من سبتمبر عام ٢٠٠٠، قائلًا إنه قرر اصطحابه لسوق السيارات، لشراء سيارة كبيرة، خاصة بعد أن أغلقت مدرسته الابتدائية أبوابها، بسبب تداعيات الاحتجاج، وأثناء عودتهما، أخبرهما الثوار الفسطينين باتخاذ طريق صلاح الدين مترجلين، قبل أن تصيبهم رصاصات الغدر.
بيد أن صراخ الاستنجاد الذي أطلقه جمال، لم يشفع لوقف سيل الطلقات الذي اخترق جسد نجله النحيل، وباتت ذكراه محفورة في أذهان العالم أجمع، والذي اكتفى بالشجب والتنديد لتلك الواقعة، وتخليد اسم “الدرة” ضمن لوحات الشرف الدولية.
ووفق إحصائية فلسطينية وإسرائيلية رسمية، فقد أسفرت الانتفاضة عن استشهاد قرابة 4412 فلسطينيـا و48322 جريحا ومصابا، ومقتل 1069 إسرائيليًا.
ويستمر مسلسل اقتناص أرواح الأطفال على أيدي العدوان الإسرائيلي، منذ بداية الاحتجاجات الشعبية في فلسطين، وقدر الفرع السويدي من منظمة “انقذوا الأطفال” أنه خلال أول عامين من الانتفاضة التي انطلقت عام 198، احتاج ما يتراوح بين 23600 و29900 طفلا للعلاج الطبي نتيجة التعرض لهذا النوع من الإصابات الناجمة عن الضرب، وكان ثلث هذا العدد تقريبًا ممن هم دون العاشرة.
وتشير إحصاءات منظمة مراقبة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” إلى أن نسبة 75.47 من وفيات الأطفال الفلسطينيين قتلوا في قطاع غزة، في حين قتل 24.31 بالمائة في الضفة الغربية، وقتل ثلاثة فلسطينيين داخل إسرائيل أثناء المشاركة في أعمال العنف العدائية. كما قتل 65.89 بالمائة من وفيات الأطفال الإسرائيليين داخل إسرائيل و31.01 بالمائة في الضفة الغربية و3.10 بالمائة في قطاع غزة.
ووفقًا للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، فإن إجمالي الأطفال الشهداء الفلسطينيين منذ عام 2000 حتى الآن، بلغ قرابة الـ 2008 شهيدًا.