“ساحات الإعدام” – هراير سركيسيان
مأساة توثيق عالم زائل
“على الأحياء تعلّم التعايش مع الماضي ومع الموت، وأن يتعلّموا أبجديّة الحديث مع أشباح الموتى، لكن ليس بالنيابة عنهم أو باسمهم، هذا إن كانوا يرغبون في الوصول إلى ما يقترب من العدالة في المستقبل المستحيل”.
“أطياف ماركس”، جاك دريدا
ثمّة انطباع متّفق عليه ضمنيّاً بتمحور مهمّة المصورين الفوتوغرافيين حول توثيق عالم زائل. فالصور التي نراها ونتداولها بشيء من الدهشة اليوم، من منتصف القرن التاسع عشر وحتى اللحظة الآنيّة التي يتم فيها التقاط الصورة في هذا الوقت، تتحوّل مباشرة إلى تذكار لهذا الماضي. حتّى يمكن القول استطراداً، أن ما لم تلتقطه الكاميرات منذ اختراع التصوير الفوتوغرافي إلى الآن هو ماضٍ لم تكتمل قيمته الزمنيّة.
تنطلق أعمال المصوّر الفوتوغرافي هراير سركيسيان من هذا الماضي، حتى تبدو أنّها تعيش فيه. وما ننظر إليه ونتلقّاه، بالنتيجة هو ماضٍ مكتمل – تبدو مواضيعه من فرط اكتماله وكأنّها تسعى لمحاكاة الحاضر النّاقص.
فأثناء معرضه الفرديّ الذي أقيم في دارة الفنون بعمّان، حيث أعمل، العام 2013، اخترعنا، هراير وأنا، لعبة البحث عن أشخاص في عمله “ساحات الإعدام”. كان من المفترض أن تخلو صور العمل من حضور بشريّ مباشر، ليسيطر ذلك الإحساس الغامض بتخيّل أشباح من أعدموا في هذه السّاحات والجماهير التي شهدت تلك العمليّات. ففي طريقه من وإلى المدرسة بسوريا في الصباح المبكّر، كان هراير يشاهد جثّث المعدَمين متروكة في تلك السّاحات بعد إعدامها فجراً بجحوظ أعينها وألسنها المتدليّة وذبول أطرافها. ليعود بعد عشرات الأعوام مصوّراً هذه الساحات في نفس توقيت الإعدامات.
منحتنا تلك اللعبة آنذاك زاوية جديدة لتفحّص الصّور على مستويين: الأوّل آتٍ من حساسيّة جديدة للزمن نستغرق فيها بالمفارقة بين جمود السّاحات ولوحات الإعلانات والأشجار والمحال التجاريّة المغلقة، وبين سيولة الزّمن التي تنتج عن استغراق الصّور في ثلاثة أزمنة: الحاضر، والماضي الذي التقطت فيه الصّور، والماضَويّ “Pastness” الذي تشير إليه. والمستوى الثاني الآتي من تفحّص تقني- سرعان ما يتحوّل إلى أركيولوجي- لمَشاهد نعرف أنّها اختفت أو في طريقها للزوال إثر الحرب الدائرة في سوريا. إذ يقترب هذا العمل من اعتباره توثيقاً مستقبليّاً لهذه المناطق، خاصّة أنّه أنجز العام 2008، أي قبل بداية الحرب بثلاثة أعوام.
فبدون نيّة سياسيّة، يخترق عمل “ساحات الإعدام” جميع قيم الصور الفوتوغرافيّة الآتية من سوريا الآن، مستعيداً بلداً يبدو أنّها لم تكن موجودة أبداً، بينما لن تكون موجودة على الأرجح في المستقبل. وعندما خدش زائر للمعرض صورة لحافظ الأسد تظهر في قوس شيّد على مدخل مخيّم اليرموك، لم يتردّد هراير بالإبقاء على هذه الصورة التي تم تخريبها رغم إتلافه للصور الأخرى. فهذه العمليّة: التخريب، ثم: القبول به والحفاظ عليه، تكشف بالضّبط عن استمرار العمل الفنّي في صيرورته الزمنيّة، وبالتالي تكشف عن الطريقة التي تنتج عنها أعمال هراير الفنيّة عبر ارتباطها العضوي بالماضي الشّخصي للفنّان.
هذا ما يتجلّى في عمل آخر: “أبي وأنا/ مركز سركيسيان للتصوير”، حيث يعود هراير مرّة أخرى إلى توثيق إرثه الخاص من خلال محاولة استكمال الماضي. فبعد انتشار الكاميرات الرقميّة وآلات طباعة الصّور المصغّرة التي يمكن اقتناؤها في المنازل، بدأت تجارة استوديوهات التصوير تخبو، ما أدّى في النهاية إلى زوال معظمها في النهاية، ومنها “مركز سركيسيان للتصوير”. أسّس والد هراير المركز العام 1979 ليحتوي على أوّل مختبر تحميض أفلام ملوّنة في سوريا، مستكملاً تاريخاً طويلاً للأرمن منذ إدخالهم للتصوير في بلاد الشّام ومصر إبّان هجرتهم إلى المنطقة في أوائل القرن العشرين، حتى يضطّر لإغلاقه في العام 2010 لتراجع الإقبال عليه.
كان قرار هراير بالهجرة من بلده في العام 2008 لدراسة التصوير في هولندا، ومن ثَم إقامته في أوروبا حتّى الآن، يعني أيضاً تخلّيه عن الدّور المعدّ له في المركز، إذ كان من المفترض أن يستلم إدارته بعد تقاعد والده. ولدى اتّخاذ الوالد القرار، عاد هراير في آخر زياراته ليصوّر المركز الذي تعلّم الحرفة وعمل فيه لمدّة 12 عاماً حتّى رحيله.
يقسم العمل إلى قسمين: الأوّل حيث يتم التوثيق بشكل حرفيّ ولأغراض تبدو وكأنّها لا تثير الحد الأدنى من أيّ عاطفة. فمن غرفة التصوير بخلفيّاتها المؤقتّة، ومختبر التحميض، إلى مجرّد صور لملفّات مكدّسة وآلات التحميض والتعديل الضوئي، وصور يبدو أنّها تركت في لحظتها الأخيرة قبل قصّ أطرافها وتهييئها للزبون. إلى درجة أن الصور التي تخلو من النّاس (أو أخلي منها الناس بقرار خارج عن يد هراير هذه المرّة)، تحمل خصائص النّصب التذكاري الذي يرثي زمناً سابقاً ويقدّر من عاشوا فيه. لكن الفرق هنا أن مأساة العمل التي تتسلّل بملل من غياب الضوء الطبيعي، واستبداله بالإضاءة الاصطناعيّة، تأتي من فكرة أنّه معلّق في الماضي، سالباً القدرة على القبض، أو حتّى الشعور به. فعلى الرغم من التلميح البعيد إلى العصر الصناعي المتأخّر في مقارنة بين غرف المركز الباردة والمناجم السّحيقة، إلّا أن الشّعور بالخسارة الشخصيّة للإحساس بالزّمن يطغى على أيّ تلميحات أخرى.
هذا ما يتحقّق في القسم الثاني بشكل أوضح. يوثّق هذا القسم آخر جلسة تصوير في المركز، إذ طلب هراير من والده تصويره، متموضعاً أمام كاميرته بنفس الأوضاع التي جلس فيها والده أمام الكاميرا في شبابه، مستعرضاً هذين الجيلين في ثنائيّة تقليديّة: المعلّم/ التلميذ، الأب/ الابن، الأبيض والأسود/ الملوّن. ويتجاوز ذلك إلى مفارقات على مستوى أعمق: احتمالات الأمل/ الإيقان بالخسارة، الجديّة/ التبرّم في نظرة كل من الأب وابنه، والأناقة/ الاستهتار. فبينما يتأنّق الوالد في شبابه أمام الكاميرا، محمّلاً باحتمالات تجارته الجديدة المربحة في دمشق نهاية السبعينيّات، يقف هراير ذابلاً وذاوياً في خسارته، مكبّلاً بخسارة والده، متعمّداً أن يظهر في الصورة بجرح على رقبته من الواضح أنّه من أثر الحلاقة.
ليس من المفترض أن يمثّل هذا العمل شيئاً إلّا “الخوف من الخسارة” كما يشير الفنّان ذاته في حديثه عنه. لكنّه يتجاوز ذلك إلى إظهار الوعي العميق بانعدام السياق الزمني لهذه الخسارة. ففي البحث عن العالم الجديد الذي يُخلق في عدسة الكاميرا، يفشل التصوير الفوتوغرافيّ في استعادة العالم القديم – كما يقول والتر بينجامين. التصوير الفوتوغرافيّ، في النهاية، حالة مستمرّة من الفقد والتسجيل. ورغم إتاحة التصوير للاستهلاك اليوميّ للملايين عبر الهواتف الحديثة والتطبيقات الجاهزة، إلّا أنّه في النهاية، “مشروع مأساويّ دونكيخوتيّ”- في تحريف بسيط لما تقوله سوزان سونتاغ.
فهراير ليس الوالد، لكنّه يحمل نفس المأساة: إذ يقترب تأويل الجرح في رقبة هراير من تأويلات لوحات عصر الباروك، حيث لا تُترك أيّ علامة أو ضربة فرشاة هناك عبثاً، بل كإشارات نفسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة. وعمل “أبي وأنا/ مركز سركيسيان للتصوير” لا يحتفي بحرفة زائلة بقدر ما يعمّق خسارتها. والنّظر إلى الصور الشخصيّة للأب وابنه يشبه النّظر إلى مرآة لا تعكس، بل يمكننا الرؤية من خلالها.
تتعمّق هذه المأساة المربكة في عملين آخرين: “إنشاء” (2010)، و “الحنين إلى المنزل” (2014)، حين يتجاوز الفنّان دوره كموثّق، ليتدخّل محاولاً التلاعب بالسياق الزّمني. وهو هنا، بطبيعة الحال، وكعادته: الماضي. ففي “إنشاء”، أعاد هراير تشييد منازل من مخيّلته تعود إلى قرية جدّه في الأناضول بشرق تركيّا، والتي هجرها أهلها إلى سوريا إبّان مجزرة الأرمن العام 1915، معتمداً فقط على القصص التي سمعها، وعلى بعض الصّور الباهتة التي نقلها أسلافه. المفارقة هنا أن هراير لم يلتقِ بجدّه، ولم يزر قريته أبداً. ولعل ما قام به هنا هو محاولة إقامة علاقة جديدة مع العالم الماضي من خلال الاستيلاء عليه عبر التصوير الفوتوغرافيّ. بمعنى أنّه إذا كان التخيّل المرتبط بالمستقبل بديهيّاً يعقد علاقة قائمة على الجهل بالعالم، فإن تخيّل الماضي قائمٌ على المعرفة. لكن السؤال هنا: ماذا لو كانت هذه المعرفة مسلوبة؟ ففي العام نفسه الذي أنجز فيه “إنشاء”، يبحث هراير ضمن إقامة فنيّة في إسطنبول عن الكتب والوثائق المتعلّقة بمجزرة الأرمن في المكتبات العامة. وما أن يسمع أمناء المكتبات باسمه، الذي يحمل سمة أرمنيّة لا يمكن التغافل عنها، حتّى يمنعوه من دخول “أقسام معيّنة” شكّ الفنّان أنّها تحتوي على تاريخه القوميّ، وربّما “المعرفة”. ليسمح له بتصوير هذه الأرفف من بعيد فقط في عمل “story I “.
يذهب هراير في “الحنين إلى المنزل” لأبعد من مجرّد تخيّل الماضي. فقبل عامين، احتل هراير سركيسيان مستودعاً في دارة الفنون بعمّان لينجز عملاً جديداً: حمل صورة لمبنى سكنيّ بيده، وطلب من مهندسة بناء نموذج مصغّر بتفاصيله الدقيقة كما هو عليه الآن: فزجاج النوافذ في النموذج زجاج، وستائر الشرفات قماش، وبناؤه من حجر بناء تسنده قضبان معدنيّة. وعند اكتمال النموذج، وقفنا أمامه، واتفقنا على أنّه “من الخسارة هدمه”. لكنّ هراير كان قد هدم المبنى في هجرته الأولى العام 2008، ليهدمه مرّة أخرى بيده قبل أن يُهدم بيد آخرين. وهذا ما كاد أن يحصل فعلاً، في أيلول/ سبتمبر 2015، حين انفجرت قذيفة هاون في حديقة المبنى ذاته، لكن، لحسن الحظّ، من دون أن يحقّق ذلك مخاوف هراير.
في مقابلة له أثناء معرضه في Tate بلندن، يقول هراير حول عمل “ساحات الإعدام”: “ظننتُ في البداية أن التصوير الفوتوغرافي محاولة لمساعدتي في محو وتعزيز فكرة أن تلك الأجساد غير موجودة الآن. لكنّه لم ينجح، لأنّني أستمرّ برؤيتها هناك”.
ليس من الغريب إذاً أن من إحدى إحالات الفنّان نفسه المفضّلة للعالم الزائل الذي يحاول توثيقه هو فيلم “الحنين إلى الضوء” للمخرج التشيلي باتريسيو غوزمان، حيث يتحدّث عن مفارقة بحث مجموعة من النّساء عن آثار عظام أولادهنّ وأقربائهنّ الذين يشتبه في أنّهم أعدموا جماعيّاً وتم دفنهم في صحراء أتاكاما، بينما تحتل تيليسكوبات عملاقة الصحراء ذاتها لوضوح سمائها الشديد في بحثها عن ماضي البشريّة في الفضاء. في إحدى المقابلات، يشرح أحد علماء الفضاء المقيمين في الصحراء التشابه بين دوره وبين أدوار تلك النّساء، فهو، بحسبه، يقوم بالبحث في ما يصله عبر التيليسكوب من أضواء وإشارات لنجوم ماتت لكنّنا نستطيع رؤية ماضيها لبعدها الهائل، والنّساء تبحث في الماضي كما يفعل. لكن الفرق الوحيد، كما يقول، أن عمله لا يؤرّقه – أي الانغماس في الماضي، بينما يحتّم بحث النساء عن ماضٍ لا يجدونه تأرقهنّ.
قد تبدو أعمال هراير أقرب لإنجاز نسوةٍ يبحثن عن ماضيهن في صحراء واسعة عن تاريخهن الشخصيّ، من إنجاز علماء فضاء يبحثون في فضاء واسع عن تاريخ البشريّة. فرغم القسوة التي تكبّل المستوى الجماليّ في الصور، إلّا أنّها أعمال شخصيّة بامتياز، متحرّرة من عبء المعرفة. لكنّ الأعمال لا تتجاهل هذه الثنائيّة، بل ربّما تؤكّدها، وتعزّز فكرة الصراع اليومي الذي يكاد أن يكون تاريخيّاً لتوثيق عالمنا الزّائل. وربّما تثبت أن القسوة والرّحمة آتيتان من الجهة ذاتها التي تلمع كنجمة ميّتة لا نزال نستطيع رؤيتها.