لينا هويان الحسن: في جعبتي أحزان لا تنتهي والكتابة تشفيني ما رأيك ؟ .. رأي ابتسامتها لا تفارق وجهها، لكنها ابتسامة حزينة كجرح عميق خلّفته حرب شرسة سرقت منها شقيقاً، ووطناً. لكنّ ألم الفقدان لم يكسر رغبة لينا هويان الحسن في الكتابة، بل إنه فجّر لديها طاقة الإبداع بعدما اتخذت من الكتابة وسيلة لكي تتطهّر، أو ربما لكي تشفى. هربت الكاتبة إلى بيروت من موت طارئ، فمنحتها المدينة الصغيرة شهرة عربية أوسع وحافزاً إبداعياً أكبر. فبعد شهور قليلة على صدور روايتها الجديدة «نازك خانم» عن منشورات ضفاف، صدرت الطبعة الثانية بالتزامن مع إعادة نشر روايتي «سلطانات الرمل» و«بنات نعش» عن الدار نفسها، وكتاب جديد يصدر قريباً عن دار الآداب. عن الكتابة والوجع والاغتراب والصحراء والمدينة حكت لينا هويان الحسن، فكان لنا هذا الحوار: – يبدو أنّ اغترابك عن الوطن لم يؤثّر في نشاطك الإبداعي. ألا تعتقدين أن تغيّر الأمكنة غالباً ما يترك أثره على الكتابة؟ الكتابة فن متعدد المناهل، فمثلما يمكن للحظة الراهنة أن تكون منبعا للنص التالي، يمكن للذاكرة ايضاً أن تكون موئلاً خصباً للكتابة الابداعية. وإن غادرنا الأمكنة، تبقى تضاريسها محفورة، وبدقة هائلة، في مخيلاتنا. إنّ الحروب هي امتحان صعب لا يرحم أحداً، وبالرغم من أنني غادرت دمشق بسبب ظروفها القاسية، لكنني بقيتُ مقتنعة أن دمشق مدينة تريد لكتّابها أن يعيشوا ليكتبوا. – بعد فترة وجيزة على صدور روايتك الجديدة «نازك خانم»، أعدت نشر أهمّ رواياتك «سلطانات الرمل»، علماً أنها أخذت حقها من النجاح؟ تزامن توقيت نشر «سلطانات الرمل» مع بداية الاضطرابات في سورية نهاية عام 2010 ، وقد طُبعت مرتين في دار ممدوح عدوان، ولكن مع بداية عام 2011 شلّت حركة بيع الكتاب، وتجمدت الكتب في المخازن، وخلال العامين المنصرمين قضت الحرب على معظم مخازن دور النشر السورية الكائنة معظمها في الغوطة الشرقية، ومنها مخازن دار ممدوح عدوان. أنا أقرّ بأنّ «سلطانات الرمل» عرفت نجاحا مهماً داخل سورية، لكنني أردت أن أمنحها من بيروت فرصة أكبر على المستوى العربي، خصوصاً أنّها أحبّ رواياتي إلى قلبي وثمّة شعور لديّ أنني مهما كتبت ونشرت ستظلّ «سلطانات الرمل» أهم أعمالي الأدبية التي تشبهني. وثمة مشروع جديد لإعادة نشر رواية «بنات نعش» عن «منشورات ضفاف والإختلاف»، الدار التي صدرت عنها «نازك خانم» والطبعة الجديدة من «سلطانات الرمل». – لماذا ابتعدت في روايتك الأخيرة «نازك خانم» عن عوالم الصحراء الجذابة التي اعتدناها في أعمالك السابقة؟ ليس من العدل إرهاق القارئ بالعوالم ذاتها مهما بدت جذابة، فالأدب قوامه التجديد والوثبات المفاجئة لكن المدروسة، وأنا اشتغلت على عوالم «نازك خانم» مدة تقارب العامين، بحيث قضيت وقتا طويلا أتصفح فيها المجلات العربية الصادرة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. بذلت جهدا كبيرا في تجميع المادة الأرشيفية لتساعدني في رسم عالم نازك خانم وملامحها، وهي عارضة أزياء دمشقية تعيش في باريس. إنه تحدٍّ حقيقي لمن يريد الكتابة عن هذا العالم المجهول تقريبا. انهمكت بجد وشغف في تجميع تفاصيل نازك، ممّا وضعني على مسافة معقولة مع «سلطانات الرمل» مع التأهب الدائم للنص القادم. – نشعر من خلال كتاباتك الصحافية والإبداعية أنّك عشت بين البدو، وتشربت طباعهم. فهل هذا صحيح؟ وما الذي ورثته عنهم باعتبار أنّك تنتمين إلى بادية حماة؟ البداوة عالم غامض ومفتوح على شتى الأهواء والاحتمالات، عالم يشبه السراب بحيث يمكن للأشياء التي تلوح للحظة أن تبدو كأنها حقيقة كاملة، أن تتلاشى في اللحظة التي تعقبها لتدهشنا بحجم الوهم. البدو أورثوني ذاكرتهم، حكاياهم، جنونهم، فرديتهم، ولعهم بالحرية بالجهات المفتوحة على كل العواصف. علّموني أن لا أخشى شيئاً. الخوف عند البدوي يعني الفشل، تعلمت منهم الحذر والتأني ولكن من دون خوف، أو توجسات. حياتي تقاسمتها المدينة والصحراء، عوالم البدو شكلت الجزء الأكبر من طفولتي. وكما هو معروف إن الطفولة هي التي تحدد الشكل الذي سيكون عليه مستقبلنا. الصحراء ماضيّ والمدينة حاضري، لكنني أشعر دوماً بأنني أشبه البدوي الذي يواجه العواصف الهوجاء بعضلاته وأحاييله. بينما المدينة تعلّم أبناءها الهروب إلى أقبيتها ومبانيها الآمنة، لذا أقول إنّ المدينة علّمتني فقط فنّ الاختباء إلى حين. – ما هي مميزات المرأة البدوية؟ الصبر. النساء البدويات صبورات وبقوة، يسعدن بما يملكنه، قريبات من الطبيعة، يشبهنها، لا تتملكهن هواجس المجهول، قلما يتحدثن عن مخاوف اليوم الآتي. هنّ قدريات ويسلّمن أمورهن للأقدار. لا يتملصن قطّ من مسؤولياتهن، بل يطلقن العنان لعواطفهن. لهذا لم أعرف –خلال طفولتي- امرأة تعيسة عاطفياً، بل جميعهن يتزوجن بدافع الحب، ويخترن الرجل بدافع «العشق». لقد رأيتهن منهكات القوى بسبب الأعمال اليومية لكني لم أرهن مكتئبات. أكثر صورهن بهاء في ذاكرتي، هن العاشقات اللواتي يشهدن معاركة حامية للتنافس على قلب رجل. لأجل الحب يمارسن الشعوذات، ويقرأن النجوم، ويستقرئن الرمل، ويستطلعن السماء. يحسبن عواطفهن استنادا على مسير القمر أو الشمس أو حتى النجوم. كلهن عرّافات على نحو ما، وهذا أيضا فن تعلّمت منه الكثير. – ما هي المصاعب التي تواجهك اليوم كامرأة سورية تعمل في الكتابة؟ الوقت هو أكبر تحدّ تواجهه المرأة الكاتبة في شكل عام. فالحياة المعاصرة تلتهم اليوم بسرعة مرعبة، أنتشل نفسي بإصرار كبير من علاقاتي الاجتماعية، إلى حد أنني أغامر بخسارة بعض الأصدقاء بسبب عدم توافر الوقت للتواصل. أمام إلحاح الكتابة أجد نفسي محاصرة بالوقت. أغلق هاتفي وأتناسى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية. في شقتي مثلا جهاز تلفزيون لايعمل، معطل ومهمل، فأنا منذ حوالي سنتين شبه منقطعة عن متابعة التلفزيون، إلا مصادفة وحسب. كما انني لست من هواة السهر في الليل، ولا يمكنني الاستغناء عن رفاهية تسع ساعات من النوم. ولا يمكنني أيضا الاستغناء عن ممارسة رياضاتي المفضلة، المشي خلال الشتاء، والسباحة صيفاً. – ألا يشكل الوجع السوري حافزاً ودافعاً لتفجير طاقات الابداع لديك؟ خرجت من سورية وفي جعبتي أحزان لا تنتهي… أحزان تكفيني لكتابة مجلدات إذا أردت، لكنني لا أكتب من أجل تدوين حزني، إنما لأجل الشفاء منه. الوقت وحده كفيل ببعض النسيان. لكنّ الكاتب يحترف التذكر بمناسبة وبدون مناسبة، أجزّء أحزاني لأتنفس، وأعيش. أنا بطبعي متفائلة وفرِحة، وابتسامتي تكاد لا تفارق ثغري، لكنّ ملاحظة أكيدة لدى الجميع: ابتسامتي حزينة. وهذه حقيقة ستلازمني مدى الحياة بعد مقتل أخي قبل عامين، أي قبيل مغادرتنا سورية تحسباً لموت طارئ آخر. ودّعتُ جزءاً كبيراً وجميلاً من حياتي، أمضيته في وطني. – هذا سرّ غزارتك في الإنتاج الروائي والصحافي إذاً؟ أعتقد أنّ الاحتباس الذي عانينا منه منذ بداية الأزمة في سورية كان سبباً في ذلك. فأنا أجلت نشر عملين منجزين على أمل أن تهدأ الأمور، ولكن عندما تفاقمت المشاكل غادرت، وكأن بيروت تنتظرني، الأجواء الثقافية هنا حفزتني على النشر وفي الوقت نفسه إعادة نشر كتبي. ولهذا السبب يشعر من حولي بغزارة إنتاجي، ولا أنكر أنني أعتنق منطق الغزارة الانتاجية، بحيث يفترض أن تصدر لي رواية بشكل سنوي ودوري، وهذا منطق سليم ومجدٍ لمن يريد أن يظل موجوداً وحاضراً في ذهن القارئ. – لديك مجموعة شعرية واحدة، ألا تفكرين في كتابة المزيد من الشعر؟ في الأدب كل شيء ممكن ومتاح، وأنا بطبعي أهرب من الأشياء أو الاحداث المبرمجة سلفاً، أترك نفسي على سجيتها، الكتابة فن عنيد وشاسع ومفتوح على كل الاحتمالات. أيضاً يمكن اعتبار الشعر رافداً جذاباً للرواية. كتابة: مايا الحاج (بيروت)