صحفي
يكشف التوغل في أعماق منطقة مندنهال الجليدية في ولاية ألاسكا الأمريكية النقاب عن عالم خفي حافل بالدرجات السريالية للون الأزرق، والأمواج المتجمدة، والكهوف التي تشبه ذاك المكان الذي كان تتخذه شخصية “سوبرمان” الخيالية مخبأً لها في القصص والأعمال السينمائية.
“أطراف حقل جليدي”
في هذه المنطقة، يمتد ما يُعرف بـ “حقل جونو الجليدي” على مساحة نحو 1500 ميل مربع، وهو بذلك يعتبر سابع أكبر تكتل جليدي من نوعه في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
وفي أغلب الأحيان؛ يتجاوز ارتفاع الثلوج التي تنهمر على هذه المنطقة سنويا المئة قدم. وخلال شهور الصيف من كل عام؛ تبقي غالبية هذه الثلوج دون ذوبان بفعل الطقس البارد وارتفاع المكان عن سطح البحر.
فخلال زيارتي لهذا المكان في يوليو/تموز 2013، ظلت الحرارة عند مستوى 90 درجة فهرنهايت (32 درجة مئوية) وأكثر لمدة أسبوع، وهو طقس حار على نحو غير معتاد بالنسبة لسواحل ألاسكا.
وتنحدر الثلوج المكونة لهذا النهر من مستجمع ثلوج خاص بالحقل الجليدي؛ يقع على ارتفاع أربعة آلاف قدم.
ومنذ عام 2005، يتآكل النهر بواقع أكثر من مئة قدم سنويا، وهو ضعف المعدل المسجل في هذا الشأن منذ عام 1942؛ ذلك العام الذي بدأت فيه عمليات الرصد والتسجيل لتلك المعدلات من قبل ما يُعرف ببرنامج البحث الخاص بحقل جونو الجليدي.
قمة ظمآنة
عندما رأيت منطقة مندنهال للمرة الأولى عام 2006؛ كان ذاك العالم الجليدي جديدا عليّ تماما. على أي حال توقعت- مثلي مثل الكثيرين- أن تتضمن زيارتي جولة على الأقدام أمضي فيها صعودا فوق ذاك النهر الجليدي القارس البرودة، يتوجب عليّ خلالها العمل على تجنب الشقوق والصدوع الموجودة هناك بحذر.
فمن على الجانب الغربي لـ”نهر مندنهال الجليدي”، كان بمقدوري رؤية شريط منساب من المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج، وقد أحدثت حفرة في جانب النهر الجليدي، لينجم عن ذلك فراغ جلي ورائع. وهكذا تتدفق السيول الناجمة عن ذوبان الثلوج خلال الصيف لتتلاشى بداخل ظلام ذلك الثقب، بما يروي ظمأ هذا العملاق الجليدي.
الدخول إلى أعماق التنين
فالمياه تتدفق إلى الداخل، متساقطة نقطة إثر أخرى، لتتجمع بداخل ما يبدو وأنها حجرة أو خزانة جليدية يبلغ طولها نحو 300 قدم وارتفاعها 15 قدما وعرضها 20 قدما.
وهنا يمثل الماء القوة الفاعلة وراء تكوين غالبية الكهوف الجليدية؛ فإذا ما تتبعت مسار أي تيار مائي يتدفق نحو أي كتلة جليدية فستجد في الغالب تكوينا جليديا يشابه كثيرا ما نتصور عليه مخبأ سوبرمان.
درجات اللون الأزرق
لكن المشكلة هنا تتمثل في أنه لم يكن بوسعي أن أوضح في صوري الحجم الهائل للكهف، وذلك في ظل عدم وجود أي شخص آخر أو أي شيء؛ يمكن من خلال إظهاره في الصورة توضيح الأبعاد والمسافات.
ولذا اخترت أن التقط لنفسي صورة ذاتية، وهو ما تطلب ضبط جهاز التوقيت الذاتي في آلة التصوير الخاصة بي، وهي من طراز نيكون مركبة على قاعدة، على وضع التقاط الصورة بعد 20 ثانية، وأن أهرول عبر الأرضية الزلقة غير المستوية للكهف، لأمكث في الوضع ثابتا طيلة ما يُعرف بفترة التعريض، والتي استمرت ثلاث ثوانٍ.
وفي ذلك الوقت لم تكن لديّ أدنى فكرة عن أنني سأعود إلى هذا المكان عاما تلو الآخر لألتقط صورا لهذه الكهوف التي لا تكف تضاريسها عن التغير.
الأمواج المتجمدة
أما الكهف الجليدي، فعلى النقيض من ذلك؛ إذ أنه يتشكل عبر تدفق المياه التي تتحول إلى جليد صلب، مثل تلك المياه الذائبة التي كانت تمضي في المجرى الذي تتبعت مساره لأصل إلى داخل هذا الكهف.
ونتيجة لذلك، فإن تضاريس الكهف الجليدي أكثر قابلية للتغير بل والزوال بكثير من نظيرتها في الكهف الثلجي، وهو ما يؤدي إلى تغير شكل وحجم الكهوف الجليدية شهرا بعد الآخر بفعل تذبذب وتيرة تدفق المياه الذائبة.
ويؤدي ذلك التغير إلى أن يتوافر للمصورين أمثالي مناظر طبيعية متبدلة باستمرار، تتألف عناصرها من الظلال والألوان والتكوينات التضاريسية، وهو ما يجعل كل لقطة مختلفة تماما عن سواها.
حشرات غير متوقعة
وكانت على أجساد هذه الحشرات قطرات من الندى المتجمد، وهو أحد نتائج الحياة في بيئة مثل هذه مشبعة بالمياه إلى حد هائل. ولم يتجاوز طول أي من هذه الكائنات، التي تنتمي إلى عائلة الحشرات البدائية المجنحة ذات الجسم المفلطح، بوصة واحدة.
وبدت تلك الحشرات كما لو كانت مجمدة في مكانها، وأدت درجات الحرارة المتدنية للغاية القريبة من درجة التجمد إلى إعاقة عمليات الأيض الخاصة بها.
ولا يتوافر الكثير من المعلومات عن الحشرات التي تتخذ الكهوف الجليدية مسكنا لها، ولكنني أعتقد – بناء على مشاهداتي لأنواع مشابهة من الكائنات الحية في ثلاث دول مختلفة منذ عام2013 – أن تلك الحشرات تتكاثر بداخل مثل هذه الكهوف خلال شهور الصيف، لتتجنب ربما التعرض للافتراس من قبل الطيور.
ظلال زرقاء اللون
ومع تغير الظروف المحيطة بالنهر الجليدي أو المؤثرة فيه؛ يشهد هذا النهر على نحو مستمر نشوء والتئام صدوع وشقوق في جنباته وأنحائه، نظرا لأنه ليس إلا كتلة من الجليد تتحرك إلى أسفل تحت تأثير قوة الجاذبية.
ومن ثم فإن انغلاق منفذ للماء الذائب، من شأنه أن يؤدي لامتلاء أحد الصدوع أو الشقوق في غضون ساعات قليلة، مما يقود إلى حدوث تغير ما في المشهد، إذ تتجه المياه إلى أسفل لتسقط في أعماق النهر الجليدي، بسرعة تفوق حتى تلك التي يمتلئ بها الشق أو الصدع.
طاحونة الماء
وتساعد هذه التكوينات على جعل المنحدرات الموجودة في تلك الأنهار زلقة، كما أنها تسهل من تحركات مثل هذه المنحدرات. بجانب ذلك، تسهم تلك التكوينات التضاريسية، وهي عبارة عن أعمدة رأسية من المياه، في تحديد شكل وحجم الكهوف الجليدية.
كما تلعب تلك التكوينات، والتي يُطلق عليها باللغة الانجليزية اسم “مولن” المشتق من لفظة فرنسية تعني “طاحونة الهواء”، دورا شديد الأهمية في منظومة تصريف المياه الخاصة بالنهر الجليدي.
ويحجب سطح النهر رؤية تلك التكوينات، ولكن بمقدور المرء رؤيتها إذا ما غاص في أعماق الكتل المؤلفة للنهر الجليدي، كما حدث عندما التقطت إحدى الصور المرفقة بهذا الموضوع.
التوغل في الأعماق
من بين هؤلاء؛ آلان غوردون، الذي يظهر في إحدى الصور المرفقة، وهو من سكان منطقة جونو.
فقد غاص هذا الرجل في أعماق نهر مندنهال الجليدي عشرات المرات، ووثّق المعالم الطبيعية له في أفلامه، ومن بينها “الهوس باللون الأزرق”، و”كوة في الجليد”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.