في يوم الأربعاء بتاريخ الـ 27 من مايو/أيار الماضي، إنشد العالم بأسره إلى مشهد اعتقال 7 من كبار مسئولي الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» من داخل اجتماع جمعهم بمدينة زيوريخ السويسرية بتهمة الفساد.
كان مشهد الاعتقال مهيناً جداً، حيث ظهر أفراد الشرطة السرية السويسرية، وهم يقتادون المسئولين السبعة واحداً بعد الآخر، إلى سيارات سوداء مظللة النوافذ، وقد قامو باستخدام شراشف بيضاء لحجب المعتقلين عن كاميرات المصورين الصحفيين وعن كاميرات المصورين التلفزيونيين. عملية الاعتقال تمت بطلب من سلطات الولايات المتحدة الأمريكية، ووفقا لتهم فساد صادرة عن القضاء الأميركي. وبهذا الصدد قالت السلطات السويسرية (وزارة العدل) أن «ممثلين لوسائل إعلام رياضية أو شركات للتسويق الرياضي، متورطون على ما يبدو، في دفع أموال لموظفين كبار في منظمات لاتحاد كرة القدم (مندوبون وغيرهم من العاملين في منظمات فرعية للفيفا) مقابل حقوق في وسائل الإعلامن وحقوق للتسويق للمباريات التي تقام في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية». وأوضحت وزارة العدل السويسرية أنها تتحرك بطلب من نيابة منطقة شرق نيويورك.
التهم موثقة ومؤكدة
كان متوقعاً لتبعات هذه الفضيحة أن تزلزل عالم كرة القدم، خاصة وأن تهم الفساد لإولئك المسئولين هي شبه مؤكدة وموثقة كما قال المسئولون الأمريكيون والسويسريون، الذين أكدو أن لديهم معلومات موثقة موجودة على أجهزة الحاسوب، وفي أيدي الشرطة الأمريكية والسويسرية. ولقد كان متوقعا لهذا الزلزال أن يودي برأس المنظمة أي جوزيف بلاتر “سيب” الذي تحدث مرارا عن الفساد داخل الفيفا والذي توعد أكثر من مرة بمحاربته واستئصاله ، غير أن«الثعلب العجوز» كما يطلق عليه البعض أي بلاتر سرعان ما عاد إلى سدة الرئاسة ، التي تربع على عرشها 16 عاماً حتى الآن، لولاية خامسة من 4 سنوات جديدة، قبل أن يضطر بفعل الضغوط من كل حدب وصوب للاستقالة بتاريخ 2 يونيو/حزيران الجاري.
على أية حال فإن اتهامات الفساد في الفيفا، ليست جديدة، بل هي تحوم حول الفيفا منذ سنوات وسنوات، وقد حدثت استقالات عدة في الفيفا كان أبرزها استقالة عيسى حياتو رئيس الاتحاد الأفريقي، المعروف اختصاراً باسم الـ«كاف» حيث كشفت تقارير إعلامية عام 2010 عن وثائق مهمة تثبت تورط 3 أعضاء من «الفيفا» من بينهم عيسى حياتو، في قضية فساد واستلام رشاوى، إضافة إلى ريكاردو تيكسيرا، رئيس الاتحاد البرازيلي لكرة القدم وعضو في لجنة التنظيم لكأس العام، وكذلك البراغوياني نيكولا ليوز رئيس كونفديرالية أميركا الجنوبية لكرة القدم.
وحسبما ذكر فقد تلقى هؤلاء الأعضاء الثلاثة الرشاوى من طرف وكالة الاتصالات المتخصصة في التسويق الرياضي، لتقوم ببيع الحقوق الحصرية لكأس العالم، وتتعلق هذه الوثائق الخاصة بالمؤسسة بـ157 دفعة غير قانونية في الفترة الممتدة بين 1989-1999 بقيمة 100 مليون دولار.
كرة الثلج تتدحرج
وقبل أيام، تواصلت تداعيات فضائح الفساد في أروقة الاتحاد الدولي لكرة القدم مع الزج باسم أمينه العام الفرنسي جيروم فالك في تحويل 10 ملايين دولار لحسابات مصرفية يملكها نائب رئيس فيفا السابق الترينيدادي الموقوف جاك وارنر، وقد سارعت الفيفا بالاقرار بها ، لكنها نفت تورط فالك. وبعدما وعد القضاء الاميركي ان اتهاماته لمسؤولي الاتحاد الدولي بالفساد لا تزال في بداياتها، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن فالك قام بتحويل 10 ملايين دولار لوارنر.
وأقر الاتحاد الدولي بتحويل الملايين العشرة لكنه نفى تورط فالك، وقال في بيان أن فالك «أو أي عضو إداري رفيع المستوى في فيفا، لم يكن متورطا في إقرار وتنفيذ» حوالة لوارنر الذي كان انذاك رئيسا لاتحاد كونكاكاف (أميركا الشمالية والوسطى والكاريبي)، من قبل جنوب افريقيا.مهما يكن، فقد كان واضحاً أن فساد الفيفا تجاوز الحدود ويبدو أن الأمر مرتبط بمافيا رهيبة لا تتحكم بالكرة وبالمباريات بل ببيع التذاكر (تذاكر المباريات التمهيدية والنهائية للمونديالات والبطولات القارية) في السوق السوداء، وكذلك ببيع حقوق البث التلفزيوني وصولا إلى بيع الإعلانات وحتى المونديالات. وغني عن القول أن كل هذا يدر أرباحاً تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وتفوق مداخيل عدد كبير من الدول. لا بل أن آخر الأرقام التي أعلن عنها عن حجم الفساد في هذا الملف، يبلغ 350 مليار دولار سنويا.
الإنتربول يدخل على الخط
ومن أشهر اتهامات الفساد ضد بلاتر، كانت عام 2011 حينما خصص 20 مليون يورو من أموال الـ«فيفا» لفريق العمل لمكافحة الفساد بالتعاون مع المنظمة الدولية للشرطة الجنائية «الإنتربول» وهو ما سمي بـ«الملف الأسود». ودفع بلاتر تلك الأموال حسبما تقول الصحف البريطانية للتحقيق بقضية التلاعب بنتائج حوالي 300 مباراة، في 3 قارات مختلفة، وذلك في محاولة لغسل يديه من القضية. وحينها اتهم بلاتر بتجاوز حدوده التنفيذية فلا يعقل أن تمول الـفيفا نشاطات الإنتربول.
وهناك الكثير من الأمور التي تثير حفيظة المتتبعين لكرة القدم التي أصبحت تدار كما يدار العالم من قوة عظمى مدعومة من شركات كبرى (مثل نايكي وأديداس وبوما وكوكاكولا وبيبسي وغيرهم). كما أثير الكثير من الجدل في كأس العالم 2006 بسبب قرعة كأس العالم التي كانت تحتوي على الكثير من الظلم للبعض والكثير من التساهل للبعض الآخر.
وحينها فضح اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا الفيفا بقصة التلاعب في القرعة من أجل عيون بعض الفرق العالمية، لضمان مشاركاتها وتأهلها، مما أحدث ثورة ضده في ذلك الوقت وشنت عليه حربا لا هوادة فيها، وأوقف وقتها مارادونا مرتين بتهمة تعاطي المخدرات. لقد فعل الإنجليز الكثير من أجل إبعاد بلاتر عن رئاسة الفيفا، وشن الشارع الإنجليزي ضده هجوما لاذعا بعد خسارة إنجلترا لشرف تنظيم كأس العالم 2018، حيث تم اتهامه بالرشوة وبدأوا في البحث والكشف عن حالات الفساد المحتملة في إدارته.
واتهمت إنجلترا بلاتر ومعاونيه بتلقي رشوة لإنجاح الملف الروسي، إذ نشرت صحيفة الغارديان تقريرا بشأن الأحداث، مؤكدة أن رئيس الاتحاد الدولي اجتمع مع شخصيات روسية مطلوبة من الشرطة الدولية إنتربول قبل عملية التصويت لاختيار البلد المنظم.
الإنجليز يردون
ورغم نفي بلاتر الشديد لتلك الاتهامات، إلا أن الإنجليز الذين يتمتعون بإعلام يعد من الأقوى تأثيرا على الساحة، ردوا عليه بطريقة لم يكن يتوقعها حين بث صورا له مع واحد من أشهر شخصيات المافيا الروسية ويدعى أليمزان توختاخينوف، ويعد من المطلوبين لدى الشرطة الدولية لتورطه بجرائم عدة ويصنف من ضمن أخطر الرجال في روسيا. لكن وعلى الرغم من اهتزاز عرش جوزيف بلاتر أكثر من مرة، فإن هذا الداهية السويسري، كان يعاود الوقوف على قدميه في كل مرة. “لكن الجرة لم تسلم هذه المرة” كما يقول المثل الشعبي.
وعقب أحدث تجليات قضايا الفساد في الفيفا، واعتقال مسئوليها، جددت الصحف الألمانية مطالبة بلاتر بالرحيل واضعة علامات استفهام كبرى حول وضعه وحول تنظيم كأس العالم في روسيا وقطر. وشكل هذا الموضوع مادة رئيسية للصحافة الألمانية حيث رأت معظم الصحف الألمانية أن الوقت حان لاستئصال الفساد من الاتحاد الدولي لكرة القدم، وإعادة النظر في ملف تنظيم نهائيات كأس العالم في روسيا وقطر عامي 2018 و2022. وقالت صحيفة «دير تاغسشبيغل» البرلينية «مهما كان الثمن غاليا، فينبغي للمرء أولا وقبل أي شيء أن يحاول إعادة اختيار البلد المنظم لبطولة العالم وسحب الثقة من قيادة الاتحاد الدولي لكرة القدم. وإلا بقي الفساد متجذرا في الفيفا، وإلى أن يتم ذلك لن يساعدنا سوى حلم أن تحتل قوات حفظ السلام المقر الرئيسي للفيفا.»
مطالب برحيل «العجوز»
أما صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ فألقت نظرة على دور بلاتر بالقول: «مرة أخرى يتمسك الرئيس بدور البريء بعد موجة الاعتقالات التي شهدتها زيوريخ (…) لكن لا يهم إذا كان قد سمح لزملائه المشتبه فيهم بالفساد أو لم يتمكن من إثنائهم عن ذلك. فبصفته رئيسا للاتحاد كانت مهمته تقتضي أن يخلص الاتحاد من شلة المسؤولين الفاسدين. إذن فهو يتحمل المسؤولية السياسية لهذه الكارثة، التي تتجاوز كرة القدم بكثير».
أما صحيفة «دي فيلت» فقالت أنه «إلى جانب المعلومات وأجهزة الحاسوب، التي هي تحت أيدي الشرطة السويسرية، فمن المنتظر كذلك أن يعترف المسؤولون المعتقلون بالحقيقة – يمكن أن يبدو الأمر غريبا. ولكن مع خطورة الادعاءات والعقوبات المتوقعة، سيكون من الصعب على متهم أن يرفض عرضا يتحول بموجبه إلى شاهد ملك يستطيع من خلاله أن يحسن وضعه.»
وبدورها فقد عالجت صحيفة «بيلد» الشعبية الواسعة الانتشار في ألمانيا، موضوع فضيحة الفيفا بنشر صورة كبيرة لبلاتر على الصفحة الأولى وعنونتها بالعنوان العريض:«ارحل!». أما عن أوجه الفساد فهناك على سبيل المثال لا الحصر، أن كل واحدة من مباريات كأس العالم التي ينظمها الفيفا تشهد بيع ألاف التذاكر في السوق السوداء بأسعار عالية تتراوح بين 3000 دولار لبطاقة مباراة الدوري الأول و 20000 لبطاقة مباراة الدورين النهائي وما قبل النهائي. وهنا قالت تقارير إعلامية كثيرة عن شركات مقرّبة من أعضاء بارزين في الفيفا باعت هذه التذاكر في مونديال البرازيل 2014 وقبله في مونديال جنوب أفريقيا 2010.
وفي مجال حقوق بث المباريات عبر شاشات التلفزة فإن على الفيفا منحها لأكبر عدد من القنوات التلفزيونية الوطنية لتمكين مختلف الشرائح الاجتماعية من متابعة مبارياتها كحدث رياضي عالمي يتشوق لمتابعته غالبية الناس، لكن الوقائع تشير إلى التوجه وبشكل متزايد إلى بيع هذا الحق للمحطات التي تدفع مبالغ أعلى وجني مئات ملايين الدولارات من هذه العملية، مع أن نظام الاتحاد الدولي لكرة القدم، ينصّ على أنه منظمة غير ربحية.
1 من 2 مليار دولار
ينظر إلى الفيفا على أنها منظمة غير ربحية ملزمة بإعادة استثمار أموالها في نشر كرة القدم من خلال مشاريع تنموية ورياضية. لكن عائدات الفيفا من مونديال 2014 لوحده قدرت بحوالي 2 مليار دولار أمريكي أنفق منها أقل من مليار واحد. من الواضح أن الفساد بات مستشريا في تلك المؤسسة لدرجة أن حتى حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالت عددا من رموز الفساد في المؤسسة، والتي توقع الكثيرون أن تقلب المعادلة، لم تؤثر في النتيجة بشيء. لكن ومع ذلك فإن «العجوز المحنك» أي بلاتر كما يصحلو للبعض وصفه، نجح في التربع على عرش الفيفا لولاية خامسة، بعد انسحاب منافسه الأمير الأردني علي بن الحسين من انتخابات رئلسة الفيفا.
وصمد الرجل السويسري الذي وصفه البعض بأنه داهية هذا الزمان طيلة أسبوع كامل أمام بركان الغضب الذي انفجر في وجهه ووجه رجالاته، إثر اتهامات بالفساد هزت الفيفا، كما أن إعادة انتخابه أثارت موجة أعنف من الغضب الأوروبي، معقل الأندية الكروية والمنتخبات العملاقة الفائزة بآخر 3 ألقاب من كأس العالم.
وسدد غريغ دايك رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم سهما آخر، معتبرا أن الفيفا لن يتمكن من إصلاح نفسه تحت قيادة بلاتر، مضيفا أن نتيجة التصويت أظهرت تراجعا في تأييده، كما لم يستبعد دايك مقاطعة دورة كأس العالم القادمة، إذا تم الاتفاق على ذلك مع دول أخرى.
أما في واشنطن، فرفض المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست التعليق على إعادة انتخاب بلاتر، بيد أن اتهامات القضاء الأمريكي للفيفا، ربما تزداد حدتها خلال الأيام القادمة، إذ نقلت صحيفة «نيويورك تايمز»، عن ريتشارد ويبر رئيس الوحدة المسؤولة عن التحقيقات الجنائية في هيئة العائدات الداخلية، ثقته بوجود جولة أخرى من الاتهامات ضد الفيفا، والتي يقول مراقبون إنها قد تطال العجوز السويسري.