*** تقتير وضوح الصورة …
** قلق الذاكرة في مشتتات “عامر جاسم”
Amer Jassim** د. خليل الطيار
“لم تعد الأشياء واضحة وصريحة في عالمنا… كل ما فيه يمر من أمامنا بغواش ويدعو للقلق”
هذا ما يريد تأكيده المصور العراقي المغترب “عامر جاسم” في مضامين أعماله المنتجة مؤخرا. وهو مشروع بَصريّ يحتاج لتجنيس نقدي معمق لقراءة وفهم أبعاده الجمالية. مثلما يحتاج إلى قواعد فنية وفكرية لتعزيز مبررات انتهاجه من قبل المصور- المبتكر-
*ماهية تقتير الوضوح:
تشتيت وضوح الصورة، أسلوب فني اعتمده العديد من المصورين العالمين لغايات جمالية. قدموا من خلاله نتاجاً بصرياً مغايراً لما هو سائد في قواعد الصورة “الفوتوغرافية”. بالاعتماد على خاصية التقتير والتلاعب في إيقاع وضوح الصورة، وتمويه معالمها لدلالة تعبيرية. وهي نزعة “فوتوغرافية” نشأت كردة فعل أعقبت موجة الحروب، وزيادة الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، انعكست تداعياتها على حياة الإنسان بشكل عام، وعبرت عن أستلاباته الوجودية، وفقدانه الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتحجيم فرص عيشه الآمن في ظل عبث الحروب والأزمات.
هذه النزعة بدأت تترسخ في نتاج الأساليب والاتجاهات الفكرية والأدبية والفنية التي أعقبت الحربين العالميتين، بعد أن تسببت تداعياتهما بتدهور القيم الإنسانية، وسلب حالة الاستقرار والطمأنينة للسلم المجتمعي، في ظل استشراء النظام الرأسمالي، وسطوة العالم المادي، وتعاظم سلطة الآلة والتكنولوجيا، وتسببهما بإضعاف سلطة الإنسان وتقويض منافعه الاقتصادية، والتضييق على استقرار حياته تدريجيا.
التصوير “الفوتوغرافي” لم يك بمنأى عن التأثر بهذه المتغيرات الفكرية والاتجاهات الأسلوبية. وظهرت تأثيراتها في أعمال العديد من المصورين العالميين. جربوا قواعد أسلوب التقتير في وضوح الصورة والتلاعب في تشتيت قواعدها لأسباب تعبيرية. ومن أبرزهم المصور الأمريكي “ميشيل إكرمان” الذي تعتبر أعماله نموذجا في هذا الاتجاه الفني. إلا ان هذا الأسلوب بقي في مساحة “الفوتوغراف” العربي محفوفا بالمحاذير لاقتحامه والتجريب فيه، إلا من قبل القلة من المصورين المحترفين، الذين يمتلكون ثقافة وتجربة بصرية غنية ورؤى فنية متجددة، وظهر من بينهم المصور المحترف “عامر جاسم” الذي بدأ في الآونة الأخيرة يقدم لنا مضامين مرئيات، تترسب في عوالمها حالات التيه والشتات والغواش. وتظهر شخصياته متلاشية المعالم، وتتحرك في مساحات مرتبكة، بالكاد تبرز صفاتها الإنسانية ليدلل؛ على أن الواقع الذي نراه بأعيننا المجردة، لا يستجلي الحقيقة بوضوح، بل إن كل تفاصيلها الهلامية، تعكس قلق وحيرة الإنسان في هذا العالم الذي نعيشه، وهو يواجه أزماته الوجودية الخانقة، ليس بمقدور عيوننا أن تبصر تفاصيلها بوضوح!
هذا الاتجاه البصري يسعى “عامر جاسم” لتبنيه بشكل صريح في مرئياته الانطباعية التي لم نجد فيها مشهداً بتفاصيل واضحة المعالم، ويتعمد إبقاء “شيئياتها” خارج بعدها البؤري، لتعكس لنا رؤيته لقراءة الواقع كما تبصره أفكاره، لا كما تسجله كاميرته! وبدأ يتضح ذلك في ثنايا أعماله الأخيرة كأسلوب فني وفكري ينتهجه للتعبير عن الإشكاليات المحيطة بالإنسان المعاصر وتأثيرها على مستقبل حياته، وتتشتت مرتكزاتها، لتخرج عن مساراتها الواضحة، في ظل الأزمات المتتالية. ولا شك في أن هذا الأسلوب يعكس حالة شعور وإحساس ذاتي بدأ “عامر جاسم” ينظر فيه لواقعه بهذه الشاكلة، في ظل غربة قسرية طال أمدها بعيدا عن رحم الوطن! ويريد التعبير عنه بصريا في مرئياته.
*الأسلوب وتأصيله في النص البصريّ:
تقول الحكمة “من السهل اصطحاب الحصان لبركة الماء، لكن من الصعب إجباره على الشرب منها” وهو ما نريد بحثه لتقبل مسوغات هذا التشاكل الأسلوبي الذي بدأ “عامر جاسم” يعتمده كمغايرة فنية، ويحاول التأكيد عليه ضمن مسار تجربته البَصًرية الغنية والمتجددة في مفرداتها، جعلت منه أحد الأسماء المهمة في عالم “الفوتوغراف” العراقي والعالمي. مما يدفعنا للإقرار بأن إقدامه للاشتغال بهذا الأسلوب الفني، لا يمكن التسليم به، كونه تأسيس لسد فراغ جمالي يعاني من نقصه في تجربته!، ولم يتبلور لرغبة فنية متهكمة، بل ظهر كضرورة فنية لابتكار أسلوب للتعبير عن همٍ فكري يحاول الإمساك به بنمط بَصًري غير مألوف. وهذه الرغبة دليل صحوة لدى المصور الفاعل للخروج عن الهويات البَصًرية السائدة، وتكرار أنماطها المألوفة، ومحاولة لتجديد أدواته وأساليبه الفنية بما يمكنه من التعبير عن إحساسه وخلجاته الفكرية.
لكن هذا المسعى الفني، قد لا يجد ترحيبا وتفهما لمغزاه، وقد يصطدم أيضا بمعارضة شديدة من قبل الكثير من المصورين، والمختصين، والمتلقين، الذي يجدون في وضوح عوالم الصورة سر نجاحها! وهو ما يتطلب من “عامر جاسم” جهدا فنيا لتعضيد تجربته وتأصيلها، والمطاولة بها لتبرير قناعاته الفكرية والجمالية. ويترك لها في مضامين نصوصه آثارا مرئية فاعلة تدعم مبررات تجنيسها في أسلوبه الانطباعي الجديد. ولا بد من أن تنعكس قيمتها الفنية في مضمار مساحتها شكلا ومضمونا، لتقوية حجة تلقيها وقراءتها على وفق قواعد منهجية مدروسة. لا إن تتغلب فيها صفة الرغبة لتقديم تجربة أسلوبية مجردة من قواعدها الجمالية.
* تركيز الشتات:
ما وجدناه في قراءتنا لهذه الأعمال التي أنتجها” عامر جاسم” مؤخرا ضمن هذا المضمار الصعب، يؤكد نجاح مؤشرات استقامة قواعدها الأسلوبية الأولى، وتسجل له علامة جمالية جديدة تضاف لرصيد منجزه، الذي لا يدعه يستقر في “ستايل” محدد، بل يفصح عن رغبته الدائمة لتنويع هوياته البَصًرية، وسعيه لتقديم أساليب ورؤى فنية مغايرة، يكسر فيها رتابة الأنماط السائدة في اجناس الصورة “الفوتوغرافية” وهو ما يتطلب منه دائما، تثبيت مسلماتها الفنية والفكرية بشكل أعمق وأقوى أثرا، لتكتمل أعماله في قواعد جمالية رصينة لا شك أن “عامر جاسم” يمتلك مقومات تحقيقها.
كتب الناقد العراقي:د.خليل الطيار..تقتير وضوح الصورة…قلق الذاكرة في مشتتات”عامر جاسم”