خصائص الرمزية
قحطان بيرقدار
خاص شبكة الألوكة
1- الرمز:
لجأ الرمزيون إلى الرمز للتعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى، لأنه أقدر على الكشف عن الانطباعات المرهفة والعالم الكامن خلف الواقع والحقيقة. ويمكن تلخيص مفهوم الرمز عند الرمزيين بالنقاط التالية:
• الرمز نوع من المعادل الموضوعي، وهو من طبيعة خارج التراث، أيْ إنه يُشتق من الواقع الخارجي، ولكنه يختلف عن الطرائق التصويرية التقليديّة، فالشاعر يتجنب معه عقد المماثلات بين طرفي الصورة، ويجعل الرمز وحده يؤدي الدلالة أو الشيء المرموز إليه عن طريق النشاط الذهني للمتلقي.
• الرمز يوحي بالحالة ولا يصرح بها، ويثير الصورة ثم يتركها تكتمل من تلقاء ذاتها كما تتسع الدوائر في الماء، وذلك عن طريق الفعالية الذهنية للمتلقي.
•- وظيفة الرمز الإيحاءُ بالحالة لا التصريح بها، والكشف التدريجي عن الحالة المزاجيّة لا الإفضاء بها جملة واحدة.
• الرمز وسيلة قادرة على الإشعاع الطيفي كالآثار التشكيلية، ومن خلاله يصبح القارئ مشاركاً للمبدع في فنه.
• الرمز أقدر على التعبير عن المشاعر المبهمة والأحلام الخفية العميقة وترجمة السر الخفي في النفس الإنسانية، وهذه هي المملكة الحقيقية للشعر، ولا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها تماماً كما يستطيع الرمز الذي يمكنه الكشف عن أدق اللوينات النفسية وفروقها الخفيّة.
2- الغموض:
أصرَّ الرمزيون على الابتعاد عن أسلوب الوضوح والدقة والمنطق والخطابة والمباشرة، لأن هذه الأمور ليست من طبيعة الفن بل من طبيعة النثر ولغةِ التواصل العاديّة، ولكن إذا كان المذهب الرمزي قد فتح باب الغموض في الشعر فمن الإنصاف القول بأن هذا الحكم ليس مطلقاً، فالرمزيون الأوائل مارسوه ولكن بدون مبالغة أو تعمُّد، فكانت أشعارهم تتراوح بين الوضوح والشفافية والغموض، لأنهم لم يخرجوا فجأة من الرومانسية والبرناسية، بل احتفظوا ببعض ملامح المدرستين، ولذا نجد (بودلير) و(فيرلين) أكثر وضوحاً من (رامبو)، والوضوح هنا يختلف عن المباشرة المرفوضة نهائياً، إنه يعني عدم التعقيد في الفكرة وعدم الإغراب في الصورة، بحيث يصل المتلقي إلى المعنى بسهولة ويُسْر. أما الغموض – ولا يقصد به هنا الإغماض أو الإبهام – فقد يأتي إما من التصرف بمفردات اللغة وتراكيبها بشكلٍ غير مألوف، أو من التعبير بمعطيات الحواس ومراسلاتها وتقاطعاتها، أو من الإشارات والتلميحات والأعلام التي تحتاج إلى معرفة واسعة أو إلى شروح وتعليقات، أو من التكثيف وشدة الإيجاز، أو الانطلاق من أفق الدقائق النفسية والحالات المبهمة التي يصعب تصويرها والتعبير عنها، إضافةً إلى الاقتراب من الموسيقا والفن التشكيلي حيث يكون التواصل من خلال الانطباع، وأخيراً من الرمز الذي بطبيعته لا يوضح المرموز إليه، بل يترك ذلك لخيال القارئ وتأويله.
3- الموسيقا الشعرية:
اعتنى الرمزيون بالموسيقا الشعرية، موسيقا اللفظة والقصيدة، واستفادوا من الطاقات الصوتية الكامنة في الحروف والكلمات مفردةً ومركبة، ومن التناغم الصوتي العام في مقاطع القصيدة، بحيث تصبح هذه الطاقة موظفة في التعبير عن الجو النفسيّ لدى المبدع ونقله إلى القارئ بما تحدثه من الإيحاء بالجو النفسي، فهي إذاً تدخل في عضوية الفن، لذلك تمرد الرمزيون على الأطر الموسيقية الشعرية في الأوزان والقوافي وتكوين المقطع والقصيدة ولم يحفلوا بالقواعد الكلاسيكية والرومانسية والبرناسية، وراحوا يبدعون موسيقاهم الشعرية الخاصة، ووصل بهم الأمر إلى الاستهانة بالقوافي وإلى تبني اللغة الشعرية النثرية المموسقة داخلياً. وتجلى هذا النثر الشعري عند (بودلير) في (قصائد نثرية صغيرة)، و(رامبو) في (إشراقات)، وكان الشاعر الرمزي (غوستاف كاهن) يرى أن الرمزية هي مذهب الحرية في الفن.
4- اللغة الجديدة:
وجدَ الرمزيون أن معجم اللغة، بما في ذلك المجازات والتشبيهات، قاصرٌ عن استيعاب التجربة الشعرية والتعبير عنها بصدق، فلا بد من البحث عن لغةٍ ذات علاقاتٍ جديدة تقومُ على اللمح والومض، وتُتِيحُ التعبيرَ عن مكنونات العالم الداخلي مُوصلةً حالاتِه إلى المتلقي من خلال إثارة الأحاسيس الكامنة وتحريك القوى التصورية والانفعالية لإحداث ما يشبه السيَّالة المغناطيسية التي تشمل المبدع والمتلقي معاً، لذلك دخل الرمزيون في عالم اللاحدود، عالم الأطياف والاندياح والحالات النفسية الغائمة أو الضبابية والمشاعر المرهفة الواسعة، وتغلغلوا في خفايا النفس وأسرارها ودقائقها.
5- لغة الإحساس:
يتكئ الرمزيون في صورهم على معطيات الحس كأدوات تعبيرية، كالألوان والأصوات واللمس والحركة والشم والذوق، ويرون في هذه المعطيات رمزاً معبراً موحياً، والطبيعة عند الرمزيين تختلف عنها لدى الرومانسيين، إنها هنا تتخاطب فيما بينها وتتراسل، وتؤلف لغةً متشابكة لا يفهمها إلاّ الشعراء، والشاعر الرمزي ذو إحساس متوقد، يغرق في الطبيعة فيصبحُ مصوراً تلتقط عيناه الألوان والظلال والأشكال بل اللوينات الدقيقة ثم يترجمها بمختلف صفاتها ودرجاتها ودلالاتها، وتشعره مظاهرُ العالم الطبيعي بالتماثل مع العالم البشري والتخاطب معه، وكل معطيات الحواس تتشابك وتتخاطب وتتبادل وتتراسل، فالرماد يُسكب، وللنجوم حفيفٌ، والنهرُ يغني، والأنوار تهطل. ولكل شيء محسوس دلالةٌ ومعنى، فالأحمر ثورة، والرمادي كآبة، والأخضر حياة.. إن المعطيات الحسية، باجتماعها تغدو كيمياء تصنع دلالات جديدة بالغة البلاغة على ما فيها من إيجازٍ وتكثيف، وما تمنحه من شعورٍ بالجِدة والدهشة والمفاجأة.
كان هذا عرضاً سريعاً لأهم خصائص المذهب الرمزي في الغرب، تتضح من خلاله طبيعة هذا المذهب وأبعاده، واختلافه عما سبقه من مذاهب، وفي المقال اللاحق سنتحدث عن الرمزية في المسرح والرواية، ثم سنطوف مع الرمزية خارج فرنسا، وأخيراً سنختم الحديث عن المدرسة الرمزية في الغرب بإبداء وجهة النظر الإسلامية حولها.