المذهب الرمزي
قحطان بيرقدار
خاص شبكة الألوكة
قبل الدخول في الحديث عن المذهب الرمزي في الغرب لا بد من أن نشير إلى أننا سنتناول في هذا المقال وفي المقالات التي ستليه الموضوعات التالية:
1 – تعريف الرمزية.
2 – نشأة الرمزية وانتشارها.
3 – مراحل الرمزية.
4 – خصائص الرمزية.
5 – الرمزية في المسرح والرواية.
6 – الرمزية خارج فرنسا.
7 – وجهة النظر الإسلامية حول الرمزية.
تعريف الرمزية:
الرمزية مذهب أدبي فلسفي، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بوساطة الرمز أو الإشارة أو التلميح. والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن الأحوال النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُرادُ التعبير عنها مباشرة.
نشأة الرمزية وانتشارها:
نشأت الرمزية في أواخر القرن التاسع عشر كردّ فعل على الرومانسية والبرناسيّة، واستمرت حتى أوائل القرن العشرين معايشةً البرناسيّة والواقعية والطبيعية، ثم امتدت حتى شملت أمريكا وأوربا.
في البداية لم تكن الرمزية واضحة السمات، فجماعة (البرناس) انقسمت على نفسها، وانفصل عنها (فيرلين) و(مالارميه) ليكوّنا اتجاهاً سيعرف بالرمزية، ولم يُعْرَفِ اصْطِلاحُ (الرمزية) إلاّ في عام 1885م.
وقد ورد أولَ مرة في مقالة كتبها الشاعر الفرنسي (جان موريس) رداً على الذين اتهمُوهُ وأمثاله بأنهم شعراء الانحلال أو الانحدار، فقال: (إن الشعراء الذين يُسمّون بالمنحلين إنما يسعَون للمفهوم الصافي والرمز الأبدي في فنهم قبل أي شيء آخر).
وفي عام 1886م، أنشأ (موريس) جريدةً سمَّاها (الرمزي)، ونشر في العام نفسه في جريدة (الفيغارو) بيانَ الرمزية، وفي عام 1891م أعلن أن الرمزية قد ماتت، ولكنها استمرت وقويت وانتشرت وأصبحت ذات مكانة كبيرة في الأدب والفن، بقيت آثارها خلال القرن العشرين رغمَ تعرُّضها لهجمات كثيرة، وبقيت معايشةً للمدارس الجديدة كالسرياليّة والمستقبلية والوجوديّة وغيرها.
كان رواد الرمزية الأوائل قد أخذوا على الرومانسية مبالغتها في الذاتية والانطواء على النفس، وإفراطها في التهاون اللغوي والصياغة الشكليّة، ثم أخذوا على البرناسية المبالغة في الاحتفاء بالشكل ولا سيما الأوزان؛ مما قد يحرم الشاعر من إمكانية التنويع ومواءمة التموجات الانفعالية، وأخذوا عليها أيضاً شدة الوضوح والدقّة بينما ثمت في عالم الشِّعْرِ مناطق خفية يصعب التعبير عنها بدقة ووضوح، فالوضوح والدقة والمنطق والوعي والقيود اللغوية والفنية كلّها شروط تُقلِّص الإبداعَ وتكبح الانفعال، ولا بدّ من الانطلاق مع العفوية والحرية ليجري الإبداع في أجواء خالية من القيود، ولا بد من التماس الرموز للتعبير عن الحالات النفسية الغائمة بطريقة الإيحاء لا بالطريقة المباشرة.
لا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترةً بالرمز والإشارة، وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه، وهي مدرسة جديدة عملت على محورين:
أولهما محاولة التقاط التجربة الشعرية في أقصى نعومتها ورهافتها، وثانيهما التماس الإطار الفني الحر المرن الذي يستطيع التعبير عن التجربة الشعرية ونقل أحوالها إلى القارئ من خلال نوع من المغناطيسية التي تسري إليه من الشاعر، تماماً كما هو الأمر في الموسيقا والفنون التشكيلية.
ولئن كان الرمز عماد هذه المدرسة فالرمزية الفنية الجديدة تختلف عن الرمزية التي كانت معروفة في العصور السابقة، فالتعبير بالرمز كان مألوفاً في كثير من المدنيات، في العصور الوسطى وأدب التصوّف وفي روائع الرواية الواقعية، وكان الرومانسيون والبرناسيون يستخدمون الرمز أحياناً، فالرمز أداة تعبير عالمية قديمة، واللغة في حدّ ذاتها مجموعة من المنظومات الرمزية وكان الناس ولا يزالون يعبرون بالرموز عن مقاصدهم سواء بالإشارة أو بالرسم أو بالألفاظ، وكان مألوفاً التعبير بالنار عن الإحراق، وبالطير عن السرعة، وبالريح عن القوة مع السرعة، وبالبحر عن الاتساع، وبالراية عن سيادة الأمة، فهذه كلها رموز، لكن المدرسة الرمزية شيء آخر، لقد أصبحت منهجاً فنيًّا متكاملاً ذا سمات عديدة، وأصبح الرمز فيها قيمة فنيّة وعضوية ودخلت في نطاقه الرموز التاريخية والأسطورية والطبيعية والأشياء ذات الدلالة الموحية، كما تميّزت بالاستفادة من المقومات الموسيقية واللونيّة والحسية والمشابكة بينها في لغة تعبيرية جديدة.
لقد بدأت الرمزية في فرنسا حيث وُلدتْ أكثرُ المذاهب الأدبية والفكرية، ولئن مالت إلى التلاشي في فرنسا فقد قويت في غيرها (أوربا وأمريكا) ولقيتْ رواجاً كبيراً.
ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها، من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال، ولا شك في أن الرمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات من خلال استخدام الرمز في التعبير عنها.