قبل المضيِّ في التعرُّف إلى المذهبِ الرومانسيِّ في الغرب لا بد من أن نشير إلى أننا سنتناول في هذا المقال وفي المقالات التي ستليه الموضوعات التالية:
1- التعريف والاصطلاح.
2- جذور الرومانسية.
3- الإسهامات المبكرة للأدباء في الاتجاه نحو الرومانسية.
4- خصائص الرومانسيّة.
5- المسرح الرومانسي.
6- الشعر الرومانسي.
7- البرناسية وأهم شعرائها.
8- الرواية الرومانسية.
9- لمحة عن بعض أعلام الرومانسية في الغرب.
10- وجهة النظر الإسلامية حول الرومانسية.
1- التعريف والاصطلاح:
يعود مصطلح الرومانسيّة إلى كلمة رومان (Roman) ومعناها في العصر الوسيط: حكاية المغامرات شعراً ونثراً، كما تدل على المشاهد الريفيّة بما فيها من الروعة والوحشة، والتي تحيل إلى العالم الأسطوريّ والخرافيّ والمواقف الشاعرية، وأول ظهور لهذا المصطلح كان في ألمانيا في القرن الثاني عشر، ولم يكن واضح المعالم، فقد كانت له دلالات متعددة منها: القَصص الخيالي، والتصوير المثير للانفعال؛ والفروسية والمغامرة والحبّ، والمنحى الشعبيّ أو الخروج عن القواعد والمعايير المتعارف عليها، والأدب المكتوب بلغاتٍ محليّة غير اللغات القديمة، كالفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية، وفي المجمل أصبح المصطلح يعني كل ما هو مقابل لكلمة (كلاسيك)، لذلك وُصِفَ بالرومانسية شعراء وروائيون ومسرحيّون عاشوا قبل عصر الرومانسية مثل شكسبير وكالديرون وموليير ودانتي وسرفانتس، لأنهم أتوا بأدب جديد، ولم يكونوا يعولون على الاهتمام بالأشكال القديمة.
وفي القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كان هذا اللفظ يطلق مقصوداً به وصف كلّ بادرة جديدة تتحدّى القواعد الأدبية المترسخة بالذم أو النقص، يقول الشاعر (غوته): (الكلاسيكية صحّة، والرومانسية مرض). ولم يجرؤ أحدٌ من الشعراء الفرنسيين أن يطلق على نفسه وصف (رومانسي) حتى عام 1818م حين أعلن (ستندال): “أنا رومانسي، إنني مع (شكسبير) ضد (راسين)، ومع (بايرون) ضد (بوالو)”.
أما الآن فإن مصطلح (الرومانسية) يُطْلَقُ على مذهبٍ أدبيٍّ بعينه ذي خصائص معروفة، استخلصت على المستوى النقدي من مجموع ملامح الحركة الأدبية التي انتشرت في أوربا في أعقاب المذهب الكلاسيكي، وكذلك على هذه الفترة وما خَلَّفَتْ من إنتاج على المستوى الإبداعي. والرومانسيّ يرفض تقليد نماذج الأقدمين، ويريد أن يكون مخلصاً لنفسه، وأصيلاً في التعبير عن مشاعره وقناعاته، وهو يقدّم كيفيةً جديدة في الإحساس والتصور والتفكير والانفعال والتعبير.
2 – جذور الرومانسية:
أشرنا في نهاية حديثنا عن الكلاسيكية إلى الصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وكيف تهيأت العقول منذ نهاية القرن السابع عشر إلى قبول التغيير، وفي الواقع لا يحدث أي تغيُّرٍ طبيعي فجأةً، فقد حملت الكلاسيكية بذور الرومانسية، وكان كتّاب الكلاسيكية يميلون دوماً إلى اللغة المحليّة والتغيير في بعض القواعد الأدبية، فهذا (رونسار) جد الكلاسيكية كان يمهّد في منحاه الشعري لظهور الرومانسية، أما (ستندال) فقد أكد أن (موليير) كان رومانسياً في أواسط القرن السابع عشر، إضافة إلى أن كتاباً كثيرين، غير فرنسيين، سبقوا هؤلاء إلى الرومانسية مثل (غوته) و(شيلر) و(ليسنغ)، وكان لهم أثر في تحول وجهة الأدب الفرنسيّ.
كما أن التغيرات الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حتمت على أوربا تغيير اتجاه مصادرها الثقافية، وقلبت رأساً على عقب الذوق الأدبي والفنّي في المجتمع، وممّا سهل انتشار الرومانسية الجو السياسي الأوربيّ، فعلى ضوء المصابيح الثورية، وعلى صوت مدافع الثورة الفرنسية ظهرت طبقة جديدة تسلّمت مقاليد الحكم والسلطة، وظهرت مفاهيم الأمة والشعب والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة، وعمّ هذا التيار كلّ أوربا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، وهي الفترة الموازية لتصاعد القوميّات وشعور الأدباء بغنى الألوان المحليّة وضرورة العودة إلى المنابع الحيّة للإلهام، وفي فرنسا بصورة خاصّة، وافقت هذه الحركة المجدّدة تطلّع المثقفين إلى تحرير المضطهدين وإنصاف المظلومين والمحرومين منذ عهود سحيقة، كما أن انحلال نظام نابليون وعودة النظام القديم ومُثُله أرهصت للتطلع نحو ظهور البطل الرومانسي المتعطش للحب والشعر والجمال.
ومن جهة أخرى فقد سببت مجازر الثورة ثم الحروب الطاحنة في أوربا صدمةً عند الجيل الذي كان مشبعاً بروح الوطنية والمغامرة والأحلام بانتصارات عظيمة ومستقبل زاهر لبني الإنسان، حين وجد نفسه خائباً ومحروماً من كل مثال وأمل، فسادَ شعورٌ بالخيبة والإحباط والقلق والانطواء على الذات، ونتيجة ذلك ظهر في الطبقة البورجوازية والوسطى أدباء وفنانون، لم يتجهوا إلى النخبة النبيلة أو المثقفة ولا إلى القصور والحكام بل إلى سواد الشعب، وهجروا اللغة النبيلة المتكلفة ولغة الصالونات الأدبيّة، وبذلك تجددت الأساليب والمفردات والأجناس، وحلّ مفهوم (الفرد) محلّ المفهوم الكلاسيكي للإنسان، وعمّت الرومانسية أوربا، وحرّرت العواطف والأفكار والأذواق وشملت كل النواحي الاجتماعية والإبداعية من اسكاندينافيا إلى أسبانيا وإيطاليا، ثم عبرت المحيط إلى أمريكا، ودامت مدةً تزيد على القرن، مع الإشارة إلى أن هذه الموجة ليست ذات طابع واحد في كل مكان، بل هنالك ألوان داخل هذا الإطار الكبير، ألوان بعدد الأقطار، بل بعدد الأدباء.
3- الإسهامات المبكرة للأدباء في الاتجاه نحو الرومانسية:
أ- جان جاك روسّو: (1712م – 1778م):كان (روسّو) يؤمن بالعقل والفكر والجدل، ولكنه انعطف نحو الغريزة والإحساس الفردي وحسّ الطبيعة والأحلام والتملّص من القيود الاجتماعية، وكان يرى أن الإنسان طيّبٌ بفطرته، والمجتمع هو الذي يفسده، وأن التقدم يحمل معه شقاء الإنسان، ولا علاج له سوى الإخلاد إلى الطبيعة واللجوء إلى الدين، لقد كانت روح الرومانسيّة تسري في مؤلفاته من قبل أن تولد الرومانسية، ويبدو أثر ذلك في كتبه: (إيميل، الاعترافات، أحلام المتجول الوحيد).
ب- مدام دوستايل (1766م – 1817م):
كان لها إسهامٌ مهم ومبكر في الدراسات الأدبية والنقدية التي شجعت الاتجاه نحو الرومانسية، ففي كتابها (من الأدب) بينت أن الحرية أساس التقدم، ولذلك كانت تبحث في كل عمل أدبي قديم أو حديث عن توهج الحريّة أو خمودها، وتهتم بالبحث عن تأثر الأدب بالفضيلة والخير والمجد والحرية والسعادة والعادات والأمزجة والقوانين، وعن تأثيره في هذه الجوانب، وبذلك فتحت الباب للبحث في علاقة الأدب بالمجتمع، وتضمن كتابها (من ألمانيا) فصولاً نقدية في الشعر والرومانسية، وأخرى في النقد عند (ليسنغ) و(شليغل)، وعرّفت القراء الفرنسيين إلى الشعراء الألمان مثل غوته وشيلر، والأدباءِ الروس والإنجليز، وسبقت بأفكارها حول الرومانسية (شاتوبريان) وأكملت آراءه.
ت- شاتوبريان (1768م – 1848م):
أسهم شاتوبريان في الاتجاه نحو الرومانسية في معظم ما تركه من كتب ومؤلفات، فقد وسع مفهوم الالتفات إلى الطبيعة بكثرة ما وصف من المشاهد الطبيعية التي شاهدها في البلدان الكثيرة التي طوّف بها من أمريكا إلى فلسطين، بما في ذلك البحار والغابات والجبال والأنهار التي عاشرها آناء الليل والنهار وأحسّ بما توحيه من العظمة والروعة والوحشة، وتعاطف الإنسان معها وامتزاج أحاسيسه بها.
أما الكآبة العصرية فكانت معروفة قبله في مؤلفات روسو في (هيلوييز الجديدة 1760)، ولدى غوته في (فيرتر) الذي ترجم إلى الفرنسية عام 1778م، ولكنها كانت ترِد لديهما في لمحاتٍ قليلة أو استثنائية وشخصية بخلاف ما هي عليه في كتاب شاتوبريان: (رونيه) الذي شخّص فيه كآبة العصر بكامله، وأبرز مآسيه الشاملة وما انتابه من كوارث الموت والدمار والخيبة في أثناء الثورة الفرنسية وما تلاها من الحروب، حيث لم يبق عزاءٌ إلاّ في الطبيعة والدين، مما جعل هذا الاتجاه أساساً للغنائية الجديدة بمعنييها السلبي والإيجابي.
أما تجديده في النقد الأدبي فيبدو في انتقاله من نقد الأغلاط والعيوب إلى النقد الجمالي، والربط بين الأثر الأدبي والحالة الحضارية والمزاجية العامّة، لأنه نتاج هذه الحالة والمعبر عنها والمؤثر فيها، وفي الحقيقة كانت مدام دوستايل قد سبقته إلى ذلك، ولكن خصوصية (شاتوبريان) تكمن في حسمه الخصومة بين القديم والحديث لصالح الحديث، عندما بنى أحكامه وتقويماته الأدبية والفنّية على ذوق عصره وعقيدته أكثر من تعويله على النظريات المعرفية السابقة، وبمقارنته بين نماذج الرجل والمرأة والأم والزوجة والزوج والمحارب في الأدب القديم والأدب الجديد، وتأكيده أن أصالة الكلاسيكية لم تكن لتسطع في بهائها إلا فيما أضافه الكتَّاب من الإغناءات والتغييرات على نماذجهم البشرية من خلال النظرة النسبيّة.
لقد انتشر المذهب الرومانسي في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنه بقي في الأوساط الأكاديمية الرسميّة منظوراً إليه بشيءٍ من الريبة والاستنكار، واشتدت الخصومة بين أنصار القديم وأنصار الجديد، وكان من آثارها ظهور مقدمة مسرحية فيكتور هوغو: (كرومويل) 1827م، والجدل العنيف الذي ثار حول مسرحيته (هرناني) 1830م، ثمَّ تسربت ملامح هذا المذهب الجديد إلى البرتغال وروسيا وإنجلترا، وكان اللورد (بايرون – 1824م) قد دافع بحماسة عن نسبية الذوق الشعري وعلاقته بالتطور الزمني والاجتماعي، فأصبح بذلك رومانسياً دون أن يدري، وأصبح من أعلام الرومانسية فيما بعد كل من: سكوت وكولردج ووردزوُرث وشيلّي.
وهكذا عمت الرومانسية جميع أقطار أوربا وأصبحت مذهباً قوياً يناهض الكلاسيكية، ولكنها لم تَسُد فجأة بل تبعت منحى تطورياً بطيئاً مرّ بمراحل عديدة من الإرهاص والتجربة والتحضير والتعايش مع النظام الكلاسيكي في كثيرٍ من الشّقاق والتصادم حتى عمّ الاقتناع به أوربا كلها، وقد استغرق ذلك قرابة قرنٍ من الزمان.