الناقد صلاح هاشم يكتب لـ”صدى البلد” من باريس عن أسرار مهرجان “كان”.. ويكشف “سوف تمضي الحياة مثل حلم” عند “رجل الظل”
من أمتع وأجمل الكتب السينمائية التي صدرت عن دار نشر ” روبرت لافون ” في فرنسا. كتاب ” سوف تمضي الحياة مثل حلم “LA VIE PASSERA COMME UN REVE للكاتب والناقد السينمائي الفرنسي جيل جاكوب GILLES JACOBرئيس مهرجان ” كان ” السينمائي الأسبق. المهرجان الذي يعتبر أعظم وأشهر وأضخم مهرجان سينمائي في العالم. وربما كان – من وجهة نظرنا – أهم حدث سينمائي بعد اختراع السينما منذ أكثر من 120 سنة في فرنسا.
جيل جاكوب الذي صار يطلق عليه الآن في فرنسا والعالم ” المواطن كان ” CITIZEN CANNES هو من مواليد باريس عام 1930 ، وعمل ناقدا في مجلات ” نوفيل ليتيرير ” و ” الاكسبريس ” قبل أن يعين مندوبا عاما لمهرجان ” كان “السينمائي عام 1977 ثم رئيسا للمهرجان منذ عام 2000 وحتى عام 2014 ، ويحكي جيل جاكوب في كتابه عن طفولته، وحكاياته مع أفراد أسرته، وحياته الشخصية، ليكون بمثابة ” سيرة ذاتية ” من جانب. كما يحكي في ذات الوقت عن علاقته بمهرجان ” كان ” وحياته الأخرى السينمائية ، حيث تشابكت الحياتان وامتزجتا في بوتقة ” السينيفيلي ” بالفرنسية أي عشق السينما الفن، لتصنع كيانا إنسانيا سينمائيا فريدا وفذا من نوعه.كيان يتجسد في شخصية جيل جاكوب الكتومة ” السرية ” الذي يدير ماكينة ” كان ” السينمائية العملاقة منذ أكثر من ثلاثين عاما، بعدما أصبح المندوب العام للمهرجان،أي المسئول الأول عن اختيار أفلام المهرجان في مسابقته الرسمية ، والتظاهرات المرافقة مثل ” نظرة خاصة ” وغيرها، وكذلك اختيار رئيس وأعضاء لجنة التحكيم ، وهو يتكتم ويحافظ ويتحفظ علي ألغازها وأسرارها ، ومن دون أن يكشف أو يبوح.
اعترافات “رجل الظل”
فقد عرف عن جيل جاكوب الرئيس الاسبق انه ” رجل الظل ” L HOMME DE L OMBRE في المهرجان عن جدارة، فهو لا يظهر الا خلال ما يقرب من أسبوعين فقط في السنة، ويراه الجمهور فقط وهو يقف بقامته المديدة علي قمة سلم قصر المهرجان، ويروح يستقبل أشهر وأعظم نجوم السينما في العالم، من أمثال كلينت ايستوود، وكاترين دينوف ،واليزابيث تايلور، وعتاولة المخرجين من امثال وودي آلان وفيلليني وانجلو بولوس وفرانسيس فورد كوبولا وغيرهم ،وهم يصعدون علي سجادة السلم الحمراء، فيصافح هذا المخرج ويطبع قبلة علي خد هذه النجمة، ويبدو كما لو انه يعرف كل هؤلاء النجوم معرفة شخصية، وقد وقف ليستقبلهم في ” داره ” ، ويقول لهم ان أهلا ومرحبا.في حين تدور مئات الكاميرات من أنحاء العالم لتنقل الي ملايين المشاهدين في العالم من خلال البث المباشر ذلك “الاستعراض” السينمائي العالمي العرمرم ، ثم فجأة لاشيء.
فجأة يختفي جيل جاكوب ” الرجل الخفي ” أو المواطن كان ” – نسبة الي فيلم ” المواطن كين ” للأمريكي أورسون ويلز – مثل ذلك الجني المارد في قصص ألف ليلة وليلة ، الذي يعود في صورة دخان الي قمقمه ، ويغرق في بحر ” كان ” الأزرق الكبير، ولا نعود نسمع عنه أي شيء البتة.
في هذا الكتاب الممتع والمشوق حقا والذي التهمته في يومين وكأني اقرأ رواية بوليسية لاجاثا كريستي ندلف بعد ” الواجهة ” الاستعراضية الي ” كواليس ” المهرجان ، ودروبه وكهوفه السرية،وألغازه وأسراره المحيرة، تلك الأسرار التي حرص جيل علي ان يتكتمها ويحتفظ بها لنفسه منذ زمن طويل وهاهو بعد 30 عاما من الصمت يكشف هنا عنها ، قبل أن تمضي الحياة مثل حلم ، ويموت جاكوب ،مخنوقا بأسراره.
كما اننا نتعرف في الكتاب علي شخصية جيل جاكوب الفريدة، والظروف الحياتية والسينمائية التي صنعته، وكيف استطاع بحنكة ومعلمة وبهدوء وصمت، ان يحول هذا المهرجان الذي كان قبل ان يتولي إدارته أشبه ما يكون ب ” حفل اجتماعي لعلية القوم “، يحوله الي عيد حقيقي للسينما الفن.
عيد سينمائي يعلي من قيم الإبداع والابتكار والاختراع ويجعل السينما وثيقة الصلة بحياتنا ومجتمعاتنا، لكي تقربنا أكثر من إنسانيتنا، فليس المهم كما يقول المخرج الهولندي الكبير جوريس ايفانز ان نعرف إن كان النهر طويلا وعميقا، لكن المهم أن نعرف ان كانت الأسماك فيه سعيدة.
والي المواطن ” كان ” جيل جاكوب يعود الفضل في تحويل دفة هذا المهرجان اعتبارا من عام 1978 أي منذ ان تولي مهمة ” المندوب العام “من مهرجان سينمائي دبلوماسي بالدرجة الأولي إلي مهرجان سينمائي فني حقيقي، لدعم وتشجيع والترويج للمحاولات السينمائية الإبداعية الجديدة علي سكة ” سينما المؤلف” التي تحول السينما من حرفة وصنعة فقط، إلي نوع من ” الكتابة والتأليف” وانتهاج أسلوب فني حر مستقل للتعبير عن ” رؤية ” وموقف من العالم. رؤية اقرب ما تكون إلي فلسفة حياة ووجود، كما في روايات الايرلندي جيمس جويس او الروسي تولستوي اواليوناني نيكوس كزانتزاكيس، وتعبير عن ” هم ” شخصي، بل وأداة أيضا ووسيلة للتفكير في مشاكل عصرنا.
ومن دون هذه ” الرؤية ” في أعمال “المخرجين المؤلفين” من أمثال البريطاني كين لوش او الدانمركي لارس فون تراير او الصربي امير كوستوريكا او الايراني عباس كياروستمي او الأمريكي مارتين سكورسيزي، ومن سار خلفهم من المواهب السينمائية الجديدة علي ذات الدرب ،تصبح السينما أداة للترفيه والتسلية ودغدغة المشاعر فحسب كما في جل أفلامنا المصرية الفكاهية المبتذلة التافهة السخيفة.وقد تساهم يقينا بمتبلات الإبهار الفني والعنف الدموي وخزعبلات التكنولوجيا الحديثة وبخاصة في انتاجات السينما الأمريكية التجارية المهيمنة علي أسواق العالم، تساهم في تغييبنا عن واقعنا ومجتمعاتنا.
السينما ” المتعة ” تبقي
يقول جيل جاكوب في مقدمة الكتاب : ” ..كلنا نعرف المشهد الشهير في فيلم ” وردة القاهرة القرمزية ” للامريكي وودي آلان ، حيث يهبط بطل الفيلم من علي الشاشة ويمتزج بالمشاهدين، ويروح يخطب ود متفرجة ويتحول في التو الي كائن حي من دم ولحم. لقد وقع لي نفس الشييء لكن في الاتجاه المعاكس، فقد عشقت السينما في سن 18 سنة، ودخلت في الشاشة عام 1948 ، فأصبحت بمرور الوقت ناقدا ثم ناشرا ثم مديرا في النهاية لمهرجان ” كان ” السينمائي. والمهرجان لا يعني فقط أفلام ، كلا ، بل يعني أفلام ودراما وحكايات إنسانية مأسوية، ويضاف إليها في حالة ” كان “، أجواء الحياة ذاتها في منطقة الكوت دازور الساحرة ،ومتعتها بجوار البحر.
والنقطة الأخيرة مهمة، لأنه من الصعب ان نتخيل مثلا ان ظاهرة مثل ظاهرة الباحثات عن الشهرة ” ستارليت ” من الحسناوات ، اللواتي ينتهزن فرصة انعقاد المهرجان لكي يتجولن شبه عاريات علي شاطئ البحر في ” كان ” ويستقطبن إليهن عدسات المصورين ويبحثن عن ” دور ” أو مجرد الظهور فقط في السينما، وصرن ” أسطورة ” من الصعب ان تتخلق مثل تلك ظاهرة في مهرجان يقام أو ينشأ في منطقة جبلية مثلا.
أعرف اني كنت في التاسعة من عمري عندما نشبت الحرب العالمية الثانية، وعندما بلغت سن التاسعة عشرة تركت مقاعد الدرس، وتفرغت للعمل في الصناعة، وفي سن الثامنة والأربعين أصبحت مديرا لمهرجان ” كان ” السينمائي ، وقد اردت ان احكي عن ذكرياتي، عن الوقائع التي عشتها والأفلام التي شهدتها والشخصيات التي التقيت بها في حياتي لأني لا اثق أولا في ” وهم ” أسمه الزمن، ولأني اعتبر ثانيا ان المرء منا يحيا عدة حيوات في وقت واحد ، وقد كان لي أنا جيل جاكوب حياتان علي الأقل: حياتي البيولوجية وحياتي السينمائية، و قد كانت كل حياة تنهل من الحياة الأخري وتغذيها في آن، لكن الشيء المؤكد هواني عشقت السينما ،عشقت السينما ورجالاتها، ولا استطيع ان احدد ايهما افضل الآن الافلام أم المخرجين.
أعتقد أن الأفلام هي ما يبقي علي اية حال في النهاية. العمل السينمائي الكامل المكتمل هو مثل الرخام ، هو ألنصب التذكاري الأبدي، هو المتعة، اما المخرجين فهم العذاب والألم . وقد عرفت معني تلك المتعة متعة الابداع والخلق عندما دخلت التكنولوجيا مكاتب المهرجان،وصرت استطيع مشاهدة الفيلم علي شاشة الكمبيوتر، واتحقق بنفسي من متعة ” حمي الابداع ” السينمائي هذه: ان تصنع فيلما وتشتغل علي مونتاجه وتجرب مرة بعد مرة من دون تعب أو كلل، ويا لها من متعة، اشبه ما تكون حقا بمتعة ” الكتابة “، التي يستشعرها المرء عندما يعمل بمفرده، فيتعلم ويكتشف ، ويصحح ويحفظ ويلحن ثم فجأة ويا للسعادة يروح يردد في نهاية المطاف : ” أوه أخيرا لقد نجحت “.
انا من مواليد 22 يونيو عام 1930 . ولدت في شارع مارجريت علي مقربة من ميدان كورسيل في باريس ، وبعدي بيومين ولد المخرج الفرنسي كلود شابرول ، بينما كان المخرج جان لوك جودار مازال جنينا لايتجاوز عمره خمسة شهور ويتقلب في بطن أمه ، وفي نفس العام الذي ولدت فيه انتهي المخرج جان فيجو من وضع اللمسات الأخيرة في فيلمه ” عن مدينة نيس “، واعتبر ان ” السينما ” ومنطقة ” الكوت دازور” كانتا نجمتا طالعي السعيد من دون ان أدري. وقد أدركت ذلك في ما بعد.
ولدت في أسرة يهودية برجوازية غنية في باريس، وكان أبي يشتغل في سوق العقارات ، وكانت أمي ربة منزل لا تعمل بل تسهر علي تربيتنا، وعندما نشبت الحرب خبأني أهلي مع أخي جان كلود الذي يكبرني بعامين في الريف أثناء الاحتلال الألماني لباريس وبمساعدة بعض الرهبان وصار اسمي جوس جلبرت وصار اسم اخي الكسيس ، وسكنا قرية تدعي ميريبيل ليزيشيل علي مقربة من فورون في الجنوب. ولا اعلم كيف كتب لنا الخلاص وانقذنا من تلك محنة ؟ تري هل خبأنا الرب تحت جناحه وشملنا بعطفه ؟ لكن عن أي رب أتحدث ؟عن رب عمي سيمون الذي يروح يهز رأسه الي الأمام والي الخلف بعصبية،حين يصلي في المعبد اليهودي كل سبت ؟ ام عن رب الكنيسة الكاثوليكية والرهبان الذين ساعدونا ؟ ولكي اشكر هذا الرب ، هل من الواجب علي أن ادخل في دينه ؟ ليس لدي اجابة علي تلك تساؤلات.
صحيح لم يعد مطلوبا مني الآن التظاهر باني مسيحي كاثوليكي، لكني لن ادع أي شخص يذكر أمامي أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا لم تساعد اليهود اثناء فترة الحرب، ولسوف تبقي تلك العلاقة التي ربطتني بذلك الدير حيث اختبأت حية وماثلة في ذهني حتي نهاية ألعمر.ملاحظة : كنت حين كبرت، فكرت في زيارة المكان، عندما اكتشفت للأسف انه قد تحول الآن إلي مصحة للمجانين.
كاميرا جاكوب تستكشف الزمن
ويحكي جيل جاكوب في كتابه ” سوف تمضي الحياة مثل حلم ” الصادر عن دار ” روبرت لافون ” عن ذكرياته مع مهرجان ” كان ” السينمائي الذي التحق للعمل به كمندوب عام للمهرجان يوم 5 يناير عام 1977 ، فيذكر مثلا بعض الأحداث الطريفة التي وقعت له: كيف ضغط مثلا علي نهد النجمة الامريكية شارون ستون وهو يضع علي صدرها وسام الشرف الفرنسي وكاد يذوب من الارتباك والخجل بعدما كلف بأن يضع الوسام علي صدر أجمل أمرأة في الوجود وبطلة فيلم ” غريزة أساسية “.
وكيف تعرض للموت مع الممثل والمخرج الامريكي العملاق كلينت ايستوود داخل مقهي في لوس انجلوس ، ولماذا اضطر أن يهدي الممثلة الفرنسية ايزابيل أدجاني فرن مايكرو ، وكيف كان يهديء من روع المخرج الدانمركي لارس فون تراير المصاب بمرض الخوف من الاماكن الضيقة الكلاستروفوبيا ويعلم الله وحده ان ” كان ” بخاصة اثناء فترة انعقاد المهرجان تتحول إلي ساحة ضجيج مرعبة مثل جهنم من شدة التكدس والزحام.
يحكي جيل جاكوب عن كل ذلك ويروح يستكشف الزمن بكاميرا ذكرياته ، ونحن نلتهم صفحات الكتاب ونطلب المزيد ، فيذكر مثلا كيف قضي ذات ليلة سهرة عيد الميلاد مع زوجته في صحبة المنتج الفرنسي توسكان دو بلانتييه وانقلبت السهرة الي نكد وغم و قد راحا يبكيان بأسي بعدما اتصلوا بتوسكان وأبلغوه ان زوجته صوفي عثر عليها مقتولة في ايرلندا ، وقد مثل بجثتها ورفض توسكان في ما بعد ان يري وجه زوجته المشوه في المشرحة.
يحكي جاكوب فيذكر لماذا كان المخرج الايطالي فيلليني يدعي غاندي، ويكشف عن شخصية المخرج البريطاني الذي أطلقت عليه ايزابيل ادجاني اسم ” قزم الحديقة الصغير “. يذكر كيف أطلعه المخرج لوي مال علي بطاقته المهنية بعد ان هاجر للعمل واستقر في أمريكا ، ومكتوب بها انه يعمل كمزارع للفطر، لا للتبغ ! وكيف كان المخرج الفرنسي موريس بيالا يسب ويلعن في كل وقت ويتهم والديه بالعمالة والخيانة والتعاون مع النازيين اثناء فترة احتلال النازي لفرنسا.
ولذلك كان يكره فيلم” لا كومب لوسيان ” للوي مال الذي يناقش هذه القضية من خلال شخصية لاكومب في الفيلم ويسخط علي صاحبه ، فقد كان بيالا يحلم بصنع فيلم يحكي عن هؤلاء الخونة العملاء ومن ضمنهم والديه، ويروح بيالا الذي حصد سعفة كان الذهبية بفيلمه الأثير ” تحت شمس الشيطان ” يتهكم علي الممثل جاك دوترون ( وهو مغني في الأساس ، وصاحب الأغنية الشهيرة ” باريس تستيقظ ” ) الذي لعب دور الفنان الرسام الهولندي فان جوخ في فيلم ” فان جوخ ” لبيالا ، فيقول ساخطا: ” .. اللعنة ، والله لم أعرف ممثلا بليدا مثله في حياتي! (تصوروا أن يحكي جاكوب عن تللك الامور الشخصية في كتابه،ومازال المغني جاك دوترون علي قيد الحياة وحيا يرزق . ياللجرأة !) . انه يمثل بنعومة هذا الدوترون.
وعندما بهبط في اول مشهد من الفيلم من القطار، يدرك الجمهور في التو ان الفيلم سيفشل فشلا ذريعا. ان ودترون لا يعرف كيف يشرب كأس ماء، ويجب ان تهمس اليه دوما من خلف الكاميرا ان امسك الكأس كويس. ارفعه إلي فمك الآن . يالا اشرب . بتعمل ايه ؟ ما خلاص شربت ! . ضع الكأس الآن علي المائدة.
يا الهي ماذا يمكن ان تفعله مع ممثل كهذا. أوف “. فنروح نضحك انا وتوسكان علي كلام بيالا ، ذلك المخرج الصديق الفذ العبقري الساخط دوما علي الحياة والسينما الفرنسية العرجاء والمخرجين الفرنسيين التافهين. وكان موريس بيالا مع توسكان دو بلانتييه من أعز أصدقاء جيل جاكوب كما يذكر في كتابه وكان عرض علي توسكان ذات سنة ان يتولي منصب نائب رئيس مهرجان ” كان ” الذي يديره جاكوب ، الا انه رفض بسبب صداقته القديمة والطويلة مع المدير صديقه الكبير.
وهي لمسة وفاء يتذكرها له جاكوب ولذلك يفرد فصلا كاملا في كتابه ليحكي عن الدور الكبير الذي لعبه توسكان في التعريف والترويج لثقافة وحضارة السينما الفرنسية في الخارج، من خلال شهرته كمنتج وخطيب فصيح وكمدير ورئيس لمؤسسة ” يونيفرانس فيلم ” للدعاية للسينما الفرنسية في أوروبا والكون.وقد حقق بلانتييه الكثير للسينما الفرنسية من خلال حضوره المؤثر كسفير للسينما الفرنسية في العالم.
ومات مثل موليير علي خشبة المسرح، فقد وافته المنية ورحل عن عالمنا أثناء حضوره مهرجان ” برلين ” السينمائي أي في قلب معمعة او معركة الدعاية لثقافة السينما الفرنسية في ما وراء الحدود. يحكي جيل جاكوب فتتحول هذه النوادر والوقائع والأسرار والأحداث الطريفة مع هيتشكوك وساندرين بونير وجوس فان سانت وشابلن وكارلوس ساورا وايستوود وستون وغيرهم الي ” مهرجان ” شخصي مستقل كان جاكوب يعيشه علي هامش المهرجان الرسمي في كل دورة في الخفاء ولا يحكي عنه ابدا لأحد.
وهاهو يفرد لنا ساحته هنا ويعترف ويبوح ويتكلم علي المكشوف. يتكلم عن بريسون ودوبارديو وجان مورو ويكتب عن الاخيرة قصيدة في عشق الأنثي الوحيدة في العالم والمرأة التي جسدت كل معاني المرأة في كيان تمثيلي شامخ لكل العصور في أفلام ” جول وجيم ” لفرانسوا تروفو و” العشاق ” و” مصعد الي المشنقة ” للوي مال.
وينجح في رسم شخصيات كل هؤلاء النجوم في بورتريهات طريفة رقيقة ظريفة تقربنا أكثر من انسانيتهم و تكشف أحيانا عن وحدتهم وضعفهم ، فتنزع عنهم تلك الهالة الإعلامية التي تصورهم كآلهة الأوليمب ، وبفضل قلمه وأسلوبه المنمق الطلي ” يحول جاكوب النجوم الي بشر ، من لحم ودم ، بهشاشة المطر.. وفي الكتاب نصطحب جيل في جولاته داخل لجان التحكيم السرية في المهرجان ونتعرف علي ما يدور داخلها من أسرار أثناء المداولات لاختيار الفيلم الفائز بسعفة كان الذهبية وكيف يتم اختيار رئيس لجنة التحكيم وياويل من يتصور أن ادارة اعظم مهرجان سينمائي في العالم سهلة ، اذ يحكي جاكوب ايضا عن متاعب ومشاكل ومصاعب ومآسي مهنته وأهواء ومزاج وطلبات النجوم ضيوف المهرجان مثل الآن ديلون ورومان بولانسكي وسكورسيزي وادجاني وكوبولا وغيرهم، كما يكتب عن القواعد ال 15 الخمسة عشرة التي اعتمدها كمنهج لإدارة المهرجان،ولا يحيد عنها ابدا ، وقد صارت مثل القوانين الحديدية التي يلتزم بها منذ ان تولي مهمة المندوب العام عام 1977 وهي سر نجاح المهرجان وانطلاقته وحسن إدارته وشهرته منذ ذلك الوقت ولحد الآن. يحكي جاكوب في كتابه عن كل ذلك،لكنه لا يحكي اذا حكي ، لا يحكي في كل وقت وكل مرة الا عن تلك السينما الفن ، ” الجنية “التي خطفته بسحرها، وصارت عقيدته ودينه ومعشوقته في آن .
في سيارة الأم التي كان يقودها الفتي الشاب جيل جاكوب لتوصيل الاديب الفرنسي الكبير اندريه جيد عميد الأدب الفرنسي الي منزله، وذلك بعد مشاهدة فيلم ” ماكبث ” لاورسون ويلز، سأله الأديب الكبير: “.. قل لي يا جاكوب.. ماذا تتمني أن تفعل في المستقبل ؟ ” فأجاب جاكوب : ” . أتمني أن أكتب.. “، فرد جيد : ” هذا حسن ” . ونقول لجاكوب الآن ، بعد أن كتب . أحسنت ، برافو جيل.
وردة القاهرة
يحكي جيل جاكوب في كتابه عن لقائه مع المخرج الأمريكي الكبير وودي آلان لأول مرة، فيقول أن المقربين منه كانوا يروجون دوما لشهرة وودي آلان كمخرج خجول، يرفض التكريمات والحفلات ، وأنه يفضل أن يعزف علي الكلارينت في ” مقهي كارليل ” في نيويورك ،علي حضور المهرجانات السينمائية التي تسعي جاهدة إلي عرض أفلامه وتكريمه، بل ويرفض حتي حضور حفل توزيع جوائز الأوسكار لاستلام جائزة له ،بعدما قررأن ينشغل فقط بتأليف سيناريوهات أفلامه،وأن يعيش حياته بمزاجه ،ويهيأ نفسه لفيلمه الجديد القادم فقط ، ولا ينشغل بأي شيء البتة،سوي الانغماس كلية في ما يفعل، إذ يبدو أن هذه هي الوسيلة الوحيدة – هكذا فكر جيل – التي يستطيع بها المرء أن ينسي الموت.
ويتذكر جيل انه قبل عام 1984 لم يكن تحدث مع وودي آلان ، إلى أن التقاه مصادفة في فندق بلاتزا في باريس ( وعادة ما يهبط وودي في فندق ريتز ..) فتقدم إليه من دون سابق ميعاد ، وبادره قائلا : بونجور ياسيد وودي آلان. أنا جيل جاكوب. فرد وودي بسرعة إن حسنا وماذا بعد. وانتهي اللقاء عند ذلك..!
ويقول جيل أن السينما تطورت بشكل طبيعي في مجال الحلم، غير أن صورة توم باكستر الذي خرج من الشاشة وهبط الي قاعة العرض في فيلم ” وردة القاهرة الأرجوانية ” لوودي آلان ، لكي يلتقي بمتفرجة حسناء تدعي سيسيليا ولعبت دورها الممثلة الأمريكية ميا فارو في الفيلم وكانت تجلس في القاعة، ذكرته بمشهد شاعر كوكتو وهو يعبر المرآة في فيلم ” دم الشاعر ” لجان كوكتو الأديب الفرنسي الكبير، وأن تلك الصورة التي ابتدعها وودي آلان في فيلمه تغذي فينا ذلك ” الوهم “.
إذ يتحول البطل في الفيلم الذي يخرق الشاشة الي كيان إنساني حي من لحم ودم ، في الوقت الذي تتحول فيه ميا فارو البطلة من كائن حي إلي كائن من إبداع المخيلة، ويتساءل جيل جاكوب: تري أين نحن من كل هذا ؟ هل يمكن أن تتحول أحلامنا إلى واقع ملموس ومحسوس وهل هناك حقا خالقا لهذا الكون ؟. لقد بدا لي أن روحي بعد مشاهدة فيلم وودي آلان الأثير قد انشقت بالفعل إلي روحين، وان كل روح تعيش في صحبة الروح الأخرى المنفصلة عن أختها ، ونحيا في ذات الوقت، روح حياتي الواقعية وروح حياتي السينمائية ، و ها هما الاثنتان تسيران معا يا للعجب في نفس الاتجاه.
وكان جيل جاكوب عرض في مهرجان ” كان ” كل الأفلام ” الجادة ” والفكاهية التي أخرجها وودي آلان من عام 1984 وحتي عام 1990 ( ما عدا عام 1988 فقط ) ومن دون أن يحضر وودي المهرجان فلما التقي به أخيرا في فندق ريتز في باريس، تغلب علي خجله وانطلق يحدث وودي عن إعجابه بأفلامه وتفهمه لرغبته في عرض أفلامه علي هامش المسابقة الرسمية للمهرجان وعدم اقتناعه بمبدأ المنافسة.
كما تحدثا عن المخرج السويدي برجمان الذي يعشق وودي أفلامه، وموسيقي الجاز التي يعزفها في ذلك المقهي في نيويورك، وذكر وودي آلان أن شركة أوريون الجديدة التي تنتج أفلامه، صارت ترسلها للمشاركة في مهرجان ” برلين ” السينمائي، وأنه سيحب كثيرا أن تكون عروض أفلامه الجديدة الأولي في مهرجان ” كان ” من جديد ، ويتساءل جيل جاكوب تري هل كانت هذه رغبة حقيقية لدي وودي، أم مجرد مجاملة منه وأدب وذوق.
ثم أن جيل عرض علي آلان فكرة كتابه الجديد بعنوان ” زوار كان ” علي نسق فيلم ” زوار المساء ” لمارسيل كارنيه وتتلخص الفكرة في ضم مجموعة من كتابات أشهر المخرجين الذين ترددوا علي المهرجان بين دفتي كتاب ، وراح جيل يعرض علي آلان ما جادت به قريحة هؤلاء من كتابات،للياباني كيروساوا والألماني شولندورف والبولندي كيلوفسكي والايطالي فيلليني والبرتغالي مانويل دو أوليفييرا وغيرهم ، وطلب من آلان ماذا يستطيع أن يقدم .
فاقترح آلان أن يضم الكتاب بعض قصاصات عن مشروعات أفلام يريد أن يخرجها و تخطر علي باله أثناء تجواله و إقامته في فنادق العالم الشهيرة من أول ” الجراند أوتيل ” في روما مثلا ، مرورا بفندق ” ريتز ” في باريس وحتي فندق ” كلاريدج ” في انجلترا وأينما حل ،علي ان يكتبها وودي علي ورقة من أوراق الفندق المذكور، ويرسلها إلي جيل، فيضمها إلي كتابه، وعندئذ وبفضل آلان ، اكتملت فكرة الكتاب المشوشة،واتضحت في ذهن جيل جاكوب ولأول مرة يا للعجب !.
فقد كانت فكرة تجميع نصوص مهداة لمخرجين في كتاب فقط لا تكفي ، وأدرك جيل فجأة إنها لن تكون ذات قيمة إلا إذا وجدت المحور الأساسي الذي تدور حوله، بحيث لا تظهر مجرد تجميع لكتابات متفرقة ، فماذا يمكن أن يكون ذلك المحور باتري؟. وجدتها.انه ثيمة الإخراج او ” الميزانسين ” ، هكذا فكر جيل. أجل يجب أن يكون موضوع الكتاب هو عملية ” الإخراج السينمائي ” وكيف يتمثلها هؤلاء المخرجين الكبار، و ماذا تعني لهم، وكيف تكون. والآن فقط يمكن وضع نصوص آلان وشلندورف في فصل بعنوان” كيف يولد الفيلم ؟ ” ثم توضع كتابات كيلوفسكي وأوليفييرا في فصل بعنوان ” عن التصوير والمونتاج ” وتوزع الكتابات الاخري في عدة فصول : فصل لعملية اختيار الممثلين الكاستينج ، وفصل آخر لإدارة الممثلين وهلم جرا، وبسرعة راح جيل يبحث عن ورقة من أوراق فندق ريتز ليدون عليها كل ذلك، وكان يظن بأنه لن ينسي كلمة واحدة من الكلمات التي نطق بها وودي آلان أمامه ، حين عبرت الغرفة فجأة ميا فارو زوجة وودي آلان وحيته بهزة رأس. فإذا به ينسي الدنيا كلها وما عليها ، ولم يعد يتذكر أي شيء إلا وجهها الطفو لي الجميل الساحر ذاك الذي ذكره بدور سيسيليا الذي لعبته في وردة القاهرة الأرجوانية.
وذات يوم رن جرس الهاتف في منزله وإذا بأحدهم يقول هالو أنا وودي آلان ، فرد جيل بسرعة معتقدا أنها مجرد مزحة : هالو وأنا انجمار يرجمان، ثم أغلق الخط ، إلا أن وودي ألان عاود الاتصال وأبلغ جيل انه سيحضر دورة مهرجان ” كان ” ليعرض فيلمه الجديد، وحضر بالفعل لكن مع زوجة جديدة ، وقبل القيام بكل المهام التي طلبها منه جيل: حضور المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم وجولة التصوير المعتادة مع أبطال الفيلم علي سطح قصر المهرجان بجوار البحر تحت الشمس الإفريقية القادمة من الشرق.
وكان مجيء وودي آلان إلي المهرجان مكسبا يضاف الي مكاسب وانجازات جيل جاكوب في استقطاب نجوم هوليوود من أمثال اليزابيث تايلور وشارون ستون ومادونا الي ساحة المهرجان ، ليس للدعاية والاستعراض وخطف الأضواء والتكريس للسينما الهوليودية التجارية والاستوديوهات ألكبري التي تعمل ب ” نظام النجوم ” في أمريكا وتهيمن علي أسواق العالم.
ولكن لدعم فكرته الأساسية في الترويج من خلال المهرجان ونجومه لسينما ” الإبداع ” والخلق ، سينما المؤلف التي توظف السينما الفن – للتعبير عن مشاكل عصرنا وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية في أعمال المصري يوسف شاهين واليوناني انجلوبولوس والتركي ايلماظ جوني والبولندي اندريه فايدا والصربي أمير كوستوريكا والإيراني عباس كيارستمي والياباني اكيرا كيروساو، وكذلك الاستفادة من حضور النجوم ، لتسليط الضوء علي اكتشافات المهرجان من المواهب السينمائية الجديدة في العالم.
تعيش السينما
يحكي جيل جاكوب في كتابه ” سوف تمضي الحياة مثل حلم ” كيف تم اختياره لوظيفة ” المندوب العام ” لمهرجان ” كان ” السينمائي منذ عام 1977( أصبح في ما بعد رئيسا للمهرجان عام 2000 ) ويلخص هنا عصارة ، والدروس المستفادة من تجربته علي قمة أعظم وأشهر وأضخم مهرجان سينمائي في العالم، فيذكر في الفصل السادس والعشرين بعنوان ” تعلم ” ، الذي يبدأ بعنوان فرعي ” مواهب جديدة “أن المهرجان يشهد مرة ” سنوات وفرة” ،ومرة أخري ” سنوات عجاف ” وان مجموعة الأفلام التي يختارها جيل جاكوب مع مجموعة من المساعدين المقربين من أشهر النقاد السينمائيين في البلاد، بالإضافة إلي شبكة واسعة من المراسلين للمهرجان في أنحاء العالم ” تتسامق بمجدها وأهميتها.
ليس فقط علي المستوي الفني للأفلام المختارة فحسب ، بل علي المستوي المالي والاقتصادي أيضا، حتى أن كل دول العالم تتطلع بطبيعة الحال إلي أن تكون ممثلة فيها، ولو بفيلم كل سنة. وتفضل بالطبع أن يكون الفيلم ضمن الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية للمهرجان التي تحتل مركز الصدارة وتستقطب الاهتمام ، أكثر من الأفلام أو التظاهرات الاخري التي تتضمنها ” قائمة الاختيار الرسمي ( في حدود 50 أو 60 فيلم جديد من أنحاء العالم ). ذلك لأن قسم أفلام المسابقة الذي يشتمل علي عشرين فيلما هو ” عقد ” المهرجان الفريد ، وتتمني كل دولة أن يكون لها في ذلك العقد جوهرة سينمائية أو ماسة..”.
ويتساءل جيل جاكوب هنا، ماذا تفعل لو كنت مكانه، ويا لها من مهمة شاقة حقا. فالعالم ينتج سنويا حوالي 2000 فيلم ويعرض منها علي المهرجان كل سنة أكثر من 1000 فيلم من جميع دول العالم، وجميعها تطمح إلي المشاركة في المسابقة الرسمية ، فكيف تختار منها 20 أو 22 فيلم علي الأكثر للمسابقة ؟ انه بالفعل كابوس حقيقي يجثم علي أنفاس جيل جاكوب وحده ،الذي يختار بمعرفته ويقرر، ويتعرض بالطبع في كل مرة لحساب قاس وعسير من قبل أكثر من 6000 صحفي وناقد يستقبلهم المهرجان كل سنة .
ويقول جيل انه لأمر صعب حقا أن تقيم كل فيلم من هذه الأفلام المختارة علي حدة، وكذلك في علاقة كل فيلم بالأفلام الاخري، وبخاصة عندما يكون هناك فارق زمني قد يمتد إلي عدة شهور، بين مشاهدة فيلم وآخر..وهناك سنوات كما يقول تبدأ باختيار أفلام جد جيدة ثم تنتهي باستقبال أفلام ضعيفة لا تصلح في نهاية فترة الاختيار، وأحيانا لا تكون هناك أفلام جيدة كافية بالمرة للمسابقة حتي شهر يناير أو فبراير، أي قبل موعد انعقاد المهرجان في شهر مايو ، والإعلان عن قائمة الاختيار الرسمي وأفلام المسابقة في مؤتمر صحفي عام للمهرجان في نهاية أبريل كما جرت العادة ، فما العمل أذن ؟.
يجب علي جيل جاكوب عندئذ أن يحافظ علي برودة أعصابه في ثلاجة أو براد يا للرعب، وينتظر وصول تلك الأفلام المعجزة التي تصل مثل طوق نجاة في آخر لحظة وتنقذ الموقف. .فكما أن هناك لحظات فرح وابتهاج بوصول فيلم رائع، هناك أيضا لحظات يأس وقلق وصبر وانتظار قد تطول، لحين اكتمال مجموعة أفلام المسابقة، لكي تضع نهاية لفترة الخوف والقلق وحرق الأعصاب البشعة..وهكذا تمضي حياة المندوب العام للمهرجان في خندق التوازنات والمراوحات، بين النعيم والجحيم ، بين المتعة والعذاب والألم.
ويقول جيل : ” ..أحيانا تتجاوز الأفلام الكبيرة في المسابقة المتوسط العام، كما حدث عام 1979، وأحيانا تكشف الصحافة عن خيبة أملها في أفلام المسابقة، وتلعب ( الصحافة) هنا دورا هاما في الكشف عن طقس و ” جو ” المهرجان العام . إنها هي التي تصنع وتحدد إن كان صحوا ولطيفا وجميلا ومشمسا ، أو كان كئيبا وممطرا وموحلا، وهي التي تشكل من خلال مداخلتها في المهرجان وتقييمه، تشكل مزاجي الشخصي أنا أيضا. إن صفقت الصحافة، وجد المندوب العام أن ذلك طبيعي جدا ومشروع، وان صفرت، ظن إنها تتآمر عليه.. ” .
وتكشف الصحافة عادة عن خيبة أملها في ما يخص أولا قائمة الاختيار الرسمي ، و في ما يخص ثانيا توزيع الجوائز في المهرجان، فأحيانا يتم اختيار مجموعة أفلام لمخرجين لامعين مشهورين، لكن يتضح لها للأسف في ما بعد، أن أفلامهم لا تصل إلي مستوي الجودة الذي عهدناه في أفلامهم السابقة، وهنا تعبر الصحافة عن خيبة أملها لضعف المستوي العام لأفلام المسابقة..
وأحيانا قد تحيد الجوائز عن اختيارات الصحافيين والنقاد والإجماع الإعلامي الرسمي، فيكون هو السخط العام، وتعبر الصحافة عن خيبة أملها في ألجوائزكما تم توزيعها، وتلعن بالطبع ” المندوب العام ” المسئول أيضا عن اختيار الأفلام مع لجنة التحكيم وأعضائها. الصحافة هي “ترمومتر” المهرجان،لأن الناقد السينمائي الذي يكتب عن المهرجان وأفلامه،لا يكتب في رأيي بصفته كناقد فقط ، بل يكتب أيضا كما لو كان مديرا للمهرجان ، وعضوا مجهولا في لجنة التحكيم ، ومخرجا سينمائيا، أو مشروعا لمخرج سينمائي، لكن لم يتحقق بعد.
وغالبا ما تكون ” حلوي ” النقاد والصحافيين في المهرجان كما لاحظت ، اكتشاف ” المواهب ” السينمائية الجديدة ، وستجد ان البعض من الصحفيين قد يعترض علي اختيار موهبة جديدة تعرض فيلمها في المهرجان لأول مرة، علي اعتبار أنها لم تنضج بعد ، في الوقت الذي يغضب فيه البعض الآخر، ويري أنه كان من الأفضل، بدلا من ضم الفيلم الجديد لمجموعة أفلام التظاهرات الجانبية مثل ” نظرة خاصة ، إلحاقه بمجموعة أفلام المسابقة، التي تستقطب إليها أكثر من أية تظاهرة جانبية أخري الاهتمام الأكبر، وأضواء الشهرة والمجد.
إلا أن مجرد مشاركة أول فيلم لموهبة جديدة في المهرجان هو مكسب رائع في رأيي ، فهي في جميع الأحوال لن تخسر شيئا من خلال تقديمها، بل علي العكس، قد يسمح عرض فيلمها في المهرجان بشرائه في أنحاء العالم والدعاية لها ، مما يسهل علي تلك الموهبة السينمائية في ما بعد عملية العثور علي تمويل لفيلمها الجديد التالي ، وبخاصة إن لم يتعرض الفيلم لاستقبال سيء ومدمر ومأسوي من قبل الصحافة.
لم أكن أعرف بالطبع أي شيء عن كل هذه الأشياء التي ذكرتها سابقا ، وعندما التحقت بالمهرجان ، كنت أجهل كل تلك الأمور، وكان علي أن أتعلم وأعي من عند نقطة الصفر.أتعلم أولا أن مهرجان “كان ” وتظاهرة بهذا الحجم لا يمكن إدارتها كما لو كنت تقود سيارة سباق.
وثانيا إن من حق الصحفيين والنقاد أن يكون لهم رأيهم وتشخيصهم الأساسي في المهرجان الذي يمكن مناقشته والأخذ به، ومن ذلك توافر عدد كبير جدا من الأفلام للمشاهدة ،وكان لابد من تقليص عدد الأفلام المشاركة، وهو موقف ” سياسي ” بالدرجة الأولي ( كانت الأفلام تختار سابقا حسب الجنسية وليس الجودة، وتفرض أحيانا فرضا علي إدارته ، وذلك قبل التحاق جيل جاكوب للعمل في المهرجان عام 1977 ).
قمت أولا بضم الأقسام الثلاثة من اختراع موريس بيسي – خارج المسابقة الرسمية – في قسم بعنوان ” نظرة خاصة ” وكان ذلك أول خطأ ارتكبته، فقد كان العنوان الذي اخترته للتظاهرة الجديدة عنوانا شاعريا مستلهما من قصيدة للشاعر الفرنسي بول ايلوار، لكنه لم يكن عنوانا سينمائيا بارزا وموفقا يعلي من قيمة ” المخرج ” في السينما، مثل عنوان تظاهرة أخري جانبية وأعني بها تظاهرة ” نصف شهر المخرجين ” من تنظيم نقابة المخرجين الفرنسية ، وكان الوقت فات لتغيير عنوان التظاهرة الجديدة.
لكني كما أعتقد كنت موفقا جدا في إنشاء مسابقة ” الكاميرا الذهبية ” مبكرا بمجرد حلولي في المهرجان ، وهي المسابقة التي تدخلها الأفلام الأولي لمخرجيها في جميع أقسام المهرجان، وتتنافس في ما بينها للحصول علي ” كاميرا كان الذهبية ” فقد أدركت ومنذ عام 1977 أن “الصفوة ” من المخرجين البارزين في العالم ، بدأت تكبر وتشيخ ، وأنه لابد ومن الضروري فتح الباب ل ” جيل جديد ” من المواهب السينمائية الجديدة في العالم، لكي يحمل شعلة السينما الفن ، ويواصل مسيرة المخرجين الكبار، وقد تملكتني تلك الفكرة واستحوذت علي كياني حتى أصبحت سلوتي وهوايتي المفضلة بمرور الوقت ، ودفعتني إلي إنشاء مؤسسة ” السينيفونداسيون ” السينمائية، ومن بعدها ” دار إقامة المهرجان “- ريسدانس دو فيستيفال- لرعاية وتبني وتشجيع المواهب السينمائية الجديدة، ثم أني توجت كل هذه الإبداعات أو الهياكل السينمائية بإنشاء ” الأتيلييه ” أو المحترف ، إضافة إلي تظاهرة سينمائية جديدة بعنوان ” كل سينمات العالم “.
إلا أن هذا كله لا يمنع وبخاصة عندما أعجب بمخرج جديد ، أن أصطحبه في رحلته علي درب السينما الفن ، فأعرض أفلامه فيلما وراء فيلم، كما فعلت من قبل مع الدانمركي لارس فون تراير ، والنيوزيلندية جين كامبيون ، والشقيقين الأمريكيين كوين ، والشقيقين داردين من بلجيكا ، وكيسلوفسكي من بولندا ، وونج كار واي من هونج كونج. ومن عند الايطالي موريتي إلي الأمريكي وودي آلان ، ومن دون أن أنسي الأسباني كارلوس ساورا ، والأمريكي روبرت ألتمان ، والفرنسي جان لوك جودار.
وسرعان ما ظهر تأثير ذلك وكل تلك التغييرات التي استحدثتها ، إذ راحت المهرجانات السينمائية ألكبري الأخرى تقلد مهرجان ” كان “، وتستلهم من إستراتجيته التي تعتمد في الأساس علي ” الاكتشافات ” الجديدة ، وذلك بإنشاء الأقسام والتظاهرات الجانبية، وكنت استطيع عندئذ أن أصرخ إن ألحقونا سرقونا ، لكني فضلت أن أطلق صيحة أن تعيش السينما.
والواقع أن الصحفيين والنقاد وقفوا إلي جانبي منذ أن بدأت عملي ، وكانوا راضيين عن اختياري ك ” سينيفيل ” كعاشق للسينما لإدارة المهرجان ، في محل ذلك الموريس بيسي الذي لم يكن أحد يحبه كثيرا ، وكان ينظر إلي الصحفيين والنقاد علي أنهم أشخاص تافهين ولا يفقهون شيئا. و كانت الصحافة، عبرت عن ارتياحها لتلك ” الروح الجديدة ” التي حطت في شخصي، وشرعت ترحب بكل جديد تعرضه علي شاشات المهرجان.
كنت وحيدا. و كان من اللازم علي أن أبني وأشيد ” تجربة ” جديدة، وأن ابتدع أسلوبا خاصا وفريدا في إدارة المهرجان. كان علي أن أكتشف، وأن أتعلم من أخطائي، وأن أتقدم وأتطور وأفهم. وكان أول قرار اتخذته، أن أعطي إجابة فورية حاسمة للأشخاص الذين يتقدمون بأفلامهم للمشاركة في مسابقة المهرجان، وأن أرد عليهم بنعم أو لا في نفس اليوم، لكي يفهم الجميع بأني وحدي صاحب القرار.
ومن جانب آخر اعتمدت فورا صيغة العمل، وفقا لمجموعة قواعد محددة، وبحيث لا أحيد أو أتنازل عنها أبدا، وهذه القواعد هي:
القاعدة رقم 1 أن لا أكذب أبدا، وان لا أعد إلا إذا كنت قادرا علي الوفاء بالوعد
القاعدة رقم 2 أن أتحدث مباشرة مع مخرج الفيلم..
القاعدة رقم 3 أن أظهر ثقافتي السينمائية..
القاعدة رقم 4 أن أحوط نفسي بوجهات نظر وأفكار وآراء و ” نظرات ” جديدة دوما من خلال مجموعة من المستشارين المقربين
القاعدة رقم 5 أن تضم المسابقة الرسمية للمهرجان 12 بلدا علي الأقل كل سنة..
القاعدة رقم 6 أن لا اعتمد نظام ” الحصة”- الكوتا – في اختيار أفلام المسابقة، بحيث يكون للبلد المشارك عدد محدد من الأفلام لا يتجاوزه، وعليه لا مانع أبدا من عرض 4 أفلام من ليتوانيا في المسابقة، إن تقدمت مثلا بأربع « روائع ” سينمائية..
القاعدة رقم 7 : قبول مشاركة أفلام النوع – مثل أفلام ” الو سترن ” الكاوبوي، إذا كانت تقدم جديدا في النوع، وتحقق إضافة..
القاعدة رقم 8 : اختيار أفلام متطورة صاعدة ، داخليا علي مستوي تطور أحداث الفيلم وحبكته، وخارجيا أي علي مستوي تطور ونضج المسيرة الفنية لكل مخرج علي حدة..
القاعدة رقم 9 : لا خوف من ” نظام النجوم ” ، وبخاصة إذا كان يسمح بأن تروج مثلا لفيلم من الأفلام الفنية ” سينما المؤلف ” للمخرج البرتغالي مانويل دو أوليفيرا مثلا، من خلال نجمة سينمائي كبيرة مثل الأمريكية شارون ستون..
القاعدة رقم 10 : البحث دوما عن أفلام جد متميزة فريدة، وعدم الانسياق للصرعات والموضات الفارغة الزائلة..
القاعدة رقم 11 : اختيار أعضاء للجنة تحكيم المسابقة من بين الفنانين فقط..
القاعدة رقم 12 : الامتناع عن الرد علي أي ” هجوم ” علي المهرجان في الصحافة..
القاعدة رقم 13 : تكريم المخرجين المؤلفين الكبار، وتثبيت شهرة من صاروا معروفين منهم ، واكتشاف ” أجيال ” جديدة من المواهب السينمائية..
القاعدة رقم 14 : أن لا أنسي أبدا أن وجها جميلا لامرأة ، يمكن أن يكون وحده مبررا لوجود الفيلم..
القاعدة رقم 15 : عدم الالتزام بأية قواعد علي الإطلاق. تعيش السينما .
والسؤال الذي نطرحه الآن ترى هل سيأخذ يير ليسكور الرئيس الجديد للمهرجان اعتبارا من رئاسته للمهرجان من أول الدورة 68 ( تقام في الفترة من 13 الى 24 مايو ) سيأخذ بتلك القواعد ، لفتح صفحة جديدة، لمرحلة جديدة في المهرجان، ويعمل بها ؟ ..
الإجابة سوف تكون في تغطياتنا للدورة 68 الجديدة لـ” صدى البلد”.