قراءة لمرئيات استثنائية
• خليل الطيار
الجزء الخامس
” التجريد و الاكتساء البَصًري”
توطئة:
تفرض “ثقافة” المصور حالة رضوخ قسري لمنع عدسته التقاطها التقليدي. وتنمي قدرته لصناعة آثار بَصًرية تتشكل خواصها “بوعي فني”، تجتمع فيها عناصر الاحتراف والمسؤولية معا. ومع نضج التجربة وتوسع أفق الثقافة البَصًرية عنده، لم يعد المصور الفاعل مكترثا لقيمة “الكم الصوري” على حساب اهتمامه “بالنوع المرئي”. وهذا ما بدأنا نلمسه بوضوح في نضج تجارب العديد من مصورينا “المرئيين” الذين صقلت تجاربهم بخلفية ثقافة، ونضج فني، وتمكن حرفي، أخذت معها فاعليتهم البصرية تغادر مساحات اللقط “الكيفي”، وتهتم في مؤشرات الحبس “النوعي” بدافع إنتاج مرئيات تحتفظ بتشكلات استثنائية، وتنتج آثار ضوئية متميزة على مستوى الشكل والمضمون. في هذا الجزء من دراستنا، اخترنا “مصنوعات” مرئية لثلاثة مصورين هم، سعد سالم/ أنور الدرويش/ طارق العساف، عثرنا في خواصها هذه الفرضيات الجمالية، نحاول أن نترك لها في هذا الجزء قراءة لبيان خواص إنشاءاتها وتركيباتها البَصًرية وما حوته من قيم سردية وجمالية استثنائية.
(اولا)
استدعاء القمر، للشهادة
مرئية لسعد سالمتفصح تجربة المصور “سعد سالم” عن نزعة توثيقية لأمكنة بيئته في “الموصل” يلاحق ما طرأ علي مناخاتها من تحولات زمانية، أثرت في بنيتها المكانية، وشهدت أضرارا كبيرة في معالمها التاريخية، ويحاول مع باقي زملائه المصورين توثيق المتبقي من ذاكرتها، قبل أفول ماض بدأت مساحته تنقرض تدريجيا. وأحيانا نجده يصر على إظهار تشكلات مدينته برؤية انطباعية موح بما مدفون في تخوم أمكنتها من أوجاع. لكنه لا يبدو سوداويا يكتفي بنقل مسحة الأسى. ويسعى دائما ليترك حضور للطيور في سماء مدينته تعبيرا عن ديمومة الحياة فيها. ويركز على إظهار قباب ومنائر الجوامع مشرئبة في أجوائها، تعويضا لخسارة مدينته هويتها المكانية المتمثلة بأيقونة منارة الحدباء التي هدمها الظلاميون. وأحايين أخرى نجده يلجأ للوقوف على ضفاف الأنهار يلتقط مشاهد “بانورامية” يتأمل فيها كبرياء مدينته وهي تًدرس نفسها في الأرض، رغم هول الدمار الحاصل في جسدها. فهو لا يريد إظهار آلامها، أنما ينوي التأكيد على روحها الباقية بعلامتها التاريخية!التعويض البَصًري
قاعدة التعويض البَصًري لسد النقص الجمالي في صورته، تشكل سمة مرصودة في أعمال “سعد سالم” تكاد لا تفارق معالمها. لكن غريزته التعويضية لم تتوقف عند رحم صورته التوثيقية الواقعية، إنما يذهب للبحث عن معادل تعويضي يسد فيه نقوصات أمكنته البَصًرية التي تتحقق فيها خواص “مرئية” نادرة لكنها تشكو من ضعف تكامل توازناتها الجمالية، فيذهب لتعويضها بصناعة مناخات بَصًرية افتراضية، يضطره حلم تحقيقها أن يتعكز فيها على مبدأ التطعيم “الكولاجي” ليصل إلى تنفيذ حلم فكرته التعويضية. وتحقق هذا المسعى الفني في أحد أهم أعماله المنجزة أخيرا، والذي توقفنا عند خصوصية إنتاج “مرئياته” الاستثنائية.
الأبصار الضوئي
يعد المصورون الفاعلون، راصدين متميزين لتشكلات الأمكنة الضوئية. تجد فيها بصائرهم ما لا يراه غيرهم بالعيون المجردة. وهي الخاصية التي يمتاز بها “سعد سالم” حيث رصد ممرا انعكست على جدرانه مساقط ضوئية استثنائية في تشكلاتها، ساعدت فتحة في عمق جداره على تمرير حزمة ضوء قوية هيأت للمكان فرصة تشكل معماريته الضوئية، وساهمت على إنشاء تضاد هندسي في مساحاته المضاءة والمعتمة. استثمر “سعد سالم” هذا المناخ الضوئي ليحبسه بزاوية مكنته أن يغيب بها بيئة المكان الحقيقية ليربح مظهره التجريدي، لكن مراجعته لهذه الواقعة الضوئية لم تقنعه بتشكلها التجريدي، الذي وجده ضعيف الأثر لا يمنح جواز مرور لتحقيق مرئية تترك أثرا بصريا فاعلا، فأجل الإقرار بمعطيات مادية صورته بخواصها التجريدية وترك فكرة تسويقها على هذه العلة يستكملها لاحقا…
من التجرد إلى الاكتساء
ثقافة “سعد سالم” البصرية تستهويه ليلتقط أي أثار ضوئية نادرة، فيسارع على قبضها وخزنها بأرشيفه كأرصدة بصرية مؤجلة، يستعين بمفرداتها لاحقا لاستكمال مشاريع صناعة مرئياته الاستثنائية. وعند قراءة واقعته التجريدية وجد هناك نقصاً واضحاً في مضمونها، فهي تخلو من أي وجود لضياء فاعل يتخذه كقيمة بصرية مؤثرة في إحياء مكانه التجريدي الميت. وسعى ليسد هذا النقص وتعويضه. وسرعان ما عثر على أول خيوط تحقيق حلم “مرئيته” الاستثنائية بلقطة أخذها لقمر مكتمل في نموه (بدر) بدد نوره حلكة السماء، وبدأ حضوره أقوى من ضياء الشمس الغائب عن مكانه التجريدي! ألا إن “سعد سالم” وللمرة الثانية لم يعثر في توظيف مرئية القمر منعزلاً ما يحقق له فعلاً بَصًرياً متكاملاً ونافعاً في تجريداته هو الآخر، سوى تحقيق التقاط فني متميز، وأراد ان لا يفقد دلالة هذا الإشراق للقمر لتقدح لديه فكرة العمل على استكمال مناخ تجريديته الضوئية ويسد نقصها التعبيري بطريقة الاكتساء. فلا القمر لوحده ينتج موضوع فاعل سوى زهو التشكل، ولا تجرد مكانه يساعده على تسويق ” مرئيته ” على علتها الضعيفة الأثر، لتدفع به هذه الجدلية لاصطحاب هذه الأثنية الضوئية المنقوصة إلى مختبره “المرئي” ويقوم باستثمار مبدأ الاستعاضة بسد النقص المتبادل فيها، فأتى بمرئية القمر وأدخلها في معمارية زاوية ممره التجريدي سادا نقصها ليحقق حلم مرئياته المنشودة.
تطويق الضوء لعتق النور
“سعد سالم” في اشتغاله التعويضي بدأت شكواه واضحة من تقاعس الشمس لإيصال ضوئها لإحياء الأمكنة المعتمة في حياتنا، فأستبعد وظيفتها الضوئية، وأراد أن يبحث عن معادل أقوى تأثيراً لهداية أمكنته نحو خلاصاتها، فأستهدي بنور القمر. فعندما يغيب ضياء الشمس كمعادل لإحياء أمكنتنا الميتة لا بد من أن نستعيض عنها بفاعلية القمر النافع بتعدد منازله، ولزيادة معرفة سني الإنسان والسيطرة على مقادير حساباته، استشهادا لقول الله- عز وجل- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقّۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (سورة يونس: الآية 5).
في الإتاحة، إباحة
توفر صناعة “الكولاجات” الضوئية إتاحات فاعلة لإنتاج مرئيات استثنائية، تساعد مفرداتها على استكمال وحداتها المتناثرة لتنصهر في صيرورة جمالية موحدة، لا يمكن أن تمنحك فرصة حذف أي جزء منها. وتبيح فيها الوحدات المتناثرة حضورا فاعلا داخل نسيج البناء الضوئي. وهذا ما أكده “سعد سالم”، فهو أتاح للقمر فرصة حضور قوي سادا فيه نقص مادية تجريديته الجامدة، ومنحها بعدا زمنياً مكملاَ لجفاف مضمون مكانه. كما أن قمره المنعزل بتجريديته الضعيفة الأثر، أتاح موقعه الجديد في عمق ممره فرصة تشكله كقيمة ضوئية معززة لفراغ الصورة، وظهر كلوحة فاعلة أحييت جداراً ميتاً منعزلاً..
محصلة البناء المعماري
“سعد سالم” بمحصلة معالجته لردم فجوة النقص البَصًري لمرئياته التجريدية، نجح بتفوق ليحيي إثاراءاتها السردية، أخبرنا فيها أن أمكنة حياتنا مهما كانت ميتة في أزمنتها، إلا أن أملأ ما تعززه نظرة متأملة في لوحة معلقة على جدار ميت، سيكون وقعها قوياً لتحريك هواجسنا التواقة لرؤية حلمها المفقود. وأعطتنا إشراقة نور القمر فيها املأ لنطل من دهاليزنا المعتمة نحو عالم أرحب ينتظرنا في الخارج. وهو ما شخص بقوة في سردية هذه المرئية المتحققة بقاعدة التحول من التجريد إلى الاكتساء. وبهذه الإتاحة أباح “سعد سالم” لنفسه فرصة تحقيق قاعدة التخادم الضوئي لتعزيز مرئياته التجريدية وينجح بسد نقصها من أطرافها المثلى.